“أولويات الادارة الجديدة لمصرف ليبيا المركزي”
بقلم المستشار / مصطفى المانع
مع تعيين مجلس إدارة جديد لمصرف ليبيا المركزي، يتجه التركيز إلى الأولويات الاستراتيجية التي سيضعها المجلس لضمان الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد. تعتبر هذه المرحلة حاسمة نظرًا للتحديات الاقتصادية التي تواجه ليبيا، بما في ذلك التضخم، سعر الصرف المتقلب، وإدارة الاحتياطيات الأجنبية، إضافة إلى الأوضاع السياسية غير المستقرة.
و بلغة حرصت على تبسيطها قدر الامكان ليفهمها الجميع باعتبار أن مصرف ليبيا المركزي و ادارته تجاوزا مستوى السلطة و مستوى النخبة إلى أن يكونا شاغلاً وطنياً حازا على اهتمام الجميع، أوجز أولويات الادارة الجديدة في الاتي:
1.استعادة الثقة في النظام المالي.
أحد أبرز الأولويات لمجلس الإدارة الجديد هو استعادة الثقة في النظام المالي والمصرفي الليبي. يُعد هذا الأمر أساسيًا لإعادة بناء الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية. يجب على المجلس العمل على تعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة، وضمان أن تكون السياسات النقدية متوافقة مع الأهداف الاقتصادية الوطنية، و يأتي على رأس هذه الأولوية ضمان التوزيع العادل للثروات و التنمية على كامل التراب الليبي.
2. توحيد السياسة النقدية.
بعد سنوات من الانقسام السياسي والاقتصادي في ليبيا، من الضروري توحيد السياسة النقدية على مستوى الدولة. يتعين على مجلس الإدارة الجديد التنسيق بين الفروع المختلفة لمصرف ليبيا المركزي في طرابلس وبنغازي، لضمان أن تكون السياسة النقدية متماسكة ومتجانسة و يكون النظام المصرفي موحداً.
هذه الخطوة ستكون حيوية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز ثقة المستثمرين.
3. معالجة التضخم وسعر الصرف.
التضخم وارتفاع سعر الصرف هما من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد الليبي. ينبغي على المجلس الجديد أن يعمل على تطوير سياسات تهدف إلى استقرار الأسعار وتعزيز قيمة الدينار الليبي. يمكن تحقيق ذلك من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية مثل تحديد أسعار الفائدة (مع مراعاة خصوصية الحالة الليبية بالخصوص)، و معالجة الرسم المفروض على النقد الاجنبي(احترام أحكام القضاء الصادرة بالخصوص) وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، وكذلك تحسين إدارة تدفق العملة الأجنبية في السوق و معالجة القيود الغير موضوعية المفروضة على وصول المواطنين و الشركات للنقد الاجنبي.
4. إدارة الاصول و الاحتياطيات الأجنبية بفاعلية.
الاحتياطيات الأجنبية تعتبر ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي. يتوجب على المجلس الجديد أن يضع استراتيجيات محكمة لإدارة هذه الاحتياطيات بشكل مهني و شفاف يكفل تأمين الحاجات المستقبلية للاقتصاد الليبي و يضمن تحقيق الاستدامة المالية، و يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجيات تنويع الأصول، الحفاظ على مستوى كافٍ من السيولة، وضمان استثمارات آمنة ومربحة، و مراعاة مخاطر الاستثمار، و الالتزام بالتصنيفات الائتمانية للبنوك المتعامل معها.
5. تحسين الوصول إلى الخدمات المصرفية.
زيادة الوصول إلى الخدمات المصرفية في جميع أنحاء ليبيا يمثل تحديًا مهمًا. يجب على المجلس الجديد التركيز على تعزيز البنية التحتية المصرفية في المناطق المحرومة من الخدمات المالية، وكذلك تعزيز الشمول المالي من خلال توفير قنوات مبتكرة مثل الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، هذا عدى عن الخدمات المصرفية الأولية التي يكابد المواطن للوصول اليها كالسيولة و فتح الحسابات و اصدار دفاتر الصكوك و التحويلات الخارجية و غيرها.
6. تعزيز الرقابة و سلامة النظام المالي.
تقوية الأنظمة الرقابية المفروضة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى يعتبر أمرًا حيويًا لضمان الاستقرار المالي. ينبغي على المجلس الجديد العمل على تحديث الأنظمة الرقابية وتطبيق معايير دولية لضمان سلامة النظام المصرفي و المالي والحد من المخاطر، و ضمان التزام البنوك و المؤسسات الدولية بواجباتها الوطنية و الدولية بشأن الامتثال لضوابط مكافحة غسل الاموال و مكافحة تمويل الارهاب.
7. دعم التنويع الاقتصادي.
على الرغم من أن مصرف ليبيا المركزي ليس المسؤول الوحيد عن التنويع الاقتصادي، إلا أن دوره في دعم هذا الهدف يعتبر محوريًا. يجب على المجلس الجديد التعاون مع الحكومة والمؤسسات الأخرى لتوفير بيئة مواتية لتطوير القطاعات غير النفطية، من خلال تقديم تسهيلات مالية ودعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وأن يستعيد القطاع المصرفي دوره في التمويل و الاقراض.
8. تعزيز العلاقات الدولية المالية.
مع التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها ليبيا، من الضروري أن يعمل المجلس الجديد على تعزيز العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لاسيما الاستمرار في تسيير مشاورات المادة الرابعة مع صندوق النقد الدولي و العمل بتوصيات المشاورات السابقة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع الدول الصديقة لدعم الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات، و تحسين السمعة الدولية و الثقة في القطاعين المصرفي و المالي الليبي.
9. فرض نهج الحوكمة و الافصاح و النزاهة.
على مستوى مصرف ليبيا المركزي و على مستوى المصارف تبرز أهمية فرض نهج للحوكمة غاب خلال السنوات الماضية و يأتي على رأس أولويات الحوكمة صناعة قرار مصرف ليبيا المركزي من داخل مجلس ادارة مكتمل ينعقد بشكل دوري و يعمل من خلال لجان كلجنة الاستثمار و المخاطر و التدقيق و التعيينات و غيرها، و الالتزام باعداد القوائم المالية السنوية المجمعة وفق معايير المحاسبة الدولية, و مراجعة القوائم المالية من سلطة محايدة، و الافصاح عن التقرير السنوي للآداء، و الافصاح الدوري عن الايراد و الانفاق العام، ووضع نظام يمنع تعارض المصالح، و اعتماد سياسات متطورة للاستثمار و المخاطر و التدقيق و التعيينات، و تطوير الهيكل التنظيمي، ووضع نظام للمحاسبة و الابلاغ عن الممارسات الخاطئة، و هي أولويات واجب الالتزام بها على مستوى المصرف المركزي و كذلك على مستوى المصارف التجارية.
10.استقلالية مصرف ليبيا المركزي و النأي به عن الاستقطاب السياسي.
لقد آن الأوان أن يرجع مصرف ليبيا المركزي لدوره المناط به كسلطة نقدية مستقلة تنشغل بدعم الاقتصاد الوطني و تعزيز قوة الدينار الليبي، و تسخر امكانياتها لضمان توفير الخدمات اللائقة للمواطنين و الشركات، و بدوره كشريك أساسي لدعم قطاع النفط و الغاز المصدر الوحيد للاقتصاد الوطني لزيادة معدلات الانتاج و التصدير، و دوره كمستشار اقتصادي أول يقدم المشورة العلمية للسلطة التنفيذية استناداً للأرقام و الجداول و مؤشرات الاداء، بعيداً عن الاجندات السياسية و الاستقطابات الجهوية.
ختاماً..
يبقى نجاح مجلس الإدارة الجديد لمصرف ليبيا المركزي مرهونًا بقدرته على معالجة هذه الأولويات الاستراتيجية بفعالية.
لا شك أن التحديات كبيرة، و لعل أهمها تركة السنوات السابقة و قبلها حالة الهشاشة التي يتسم بها أساساً اقتصادنا الوطني الذي يعتمد على النفط مصدراً و حيداً له، ولكن الفرص أيضًا موجودة لتحقيق استقرار مالي مستدام ودعم التنمية الاقتصادية في ليبيا. مع إدارة فعالة وقرارات مدروسة، و تواصل و تنسيق مع كافة الاطراف الوطنية دونما استثناء يمكن لمجلس الإدارة الجديد أن يلعب دورًا محوريًا و تاريخيًا في رسم مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للبلاد، و حياةً أكثر كرامةً و أماناً للمواطن.
مصطفى المانع هو خبير ليبي في مجال القانون و الاقتصاد عمل كمحامي وطني و دولي، و عضواً بمجلس ادارة المؤسسة الليبية للاستثمار و عضواً بمجلس ادارة المصرف الليبي الخارجي، كما عمل مستشاراً لعدد من المؤسسات الوطنية و الدولية، و عمل في عدد من البنوك الاجنبية في اسبانيا و الامارات العربية المتحدة و المملكة المغربية و جمهورية مصر العربية و دول افريقيا، كما مثل ليبيا في اجتماعات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي، و كلف برئاسة فريق تأسيس بنك الاستثمار الافريقي التابع لمنظمة الاتحاد الافريقي، كما عمل خبيراً و مدرباً مع نقابة المحامين الامريكية، و عمل مستشاراً للصندوق السيادي لسلطنة عُمان.