جرير وفراغ الفرزدق

بقدر الامتلاء حضورا يكون فراغ الفقد.. حقيقة حاصرت أبا حزرة جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي -واقتحمت عليه أطواء نفسه- وهو يتلقى خبر موت “غريمه التقليدي” وخصمه الأول ابن عمه الأبعد نسبا وحسبا: أبي فراس همام بن غالب المجاشعي التميمي، المشهور بلقب “الفرزدق”.
ما كاد جرير يعلم بوفاة الفرزدق حتى تطاير بين جنبيه الشرار، وانقدح زناد فجيعته، ليستعيد من شريط ذكريات الفقيد ما كان أسقطه من تبويبه وأودعه “سلة المهملات”، لأسباب تتعلق بصراع “النقائض”، الذي غذته نوازغ الإلهاء السياسي وأذكته نوازع “الفرجة الجماهيرية”.
وليعذرني القارئ، في فاصل استطراد سياقي، يجمع بين قراءة السطور المكتوبة و”المشاهدة الذهنية” الاسترجاعية، من خلال استحضار “فراغ” شبيه أبدعه “مؤلف” مسلسل الزير سالم، وأجرى حواره على لسان الممثل المكين سلوم حداد، الذي عبر -في حرقة ولوعة- عن شعوره بـ”فراغ جساس” وإحساسه بأن الدنيا بدونه لا تحمل باعثا على التمسك بها، وأعرب عن قسوة “تصور دنيا بدون جساس”.
وقد أورد المؤلف الحوار في سياق فلسفي، مرر من خلاله فكرة ملخصها أن الزير كان يتعلل بوجود جساس على قيد الحياة من أجل المضي في “مشروع ثأره الشخصي”، حتى إذا بلغه -فجأة- خبر موت واتره اللدود و”غريمه الأول”، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، ورأى أن بساط “التعلل الموضوعي” قد سحب من تحته.
فبعد أن كان جساس مشجبا يعلق عليه مواصلة برنامج ثأره المفتوح، صار موته معول هدم يقوض “حياة الثأر” التي يعيشها: زمنا وفكرة، ولا يريد أن يدور خارج فلكها، إذ كان قد حصر فيها “معنى وجوده”، وجعلها “لازمة” تمكنه من “تصدر المشهد”، وتبقيه على قيد الحضور!.. ومن هنا كان موت جساس -في ذهن الزير- “فراغا”.. حتى كأن هاتفا يصرخ في وعيه الباطن: “أريد جساسا حيا”، بعد أن كان “يريد أخاه كليبا حيا”.
ثأر الزير ونقيضة جرير
ولم تقف المفارقة عند هذا الحد، بل كان موت جساس باعثا على مراجعة “صورته” و”إعادة قراءتها”، وتفحص الوجه “المغيب قسريا”، ليفزع من غصته المفاجئة إلى الإنصاف المتأخر، والاعتراف المضغوط، والشعور بالذنب، فيحرر لجساس شهادة تفوق بمرتبة الشرف الأولى، ويمنحه “وسام الشجاعة” في الجلد والنبل، في لحظة “مراجعة” كشف عنه فيها غطاء حظ النفس، ونزع ما في صدره من دخيلة فإذا هو يبكيه دمعا ويرثيه اعترافا كأن لم يكن بينهما ثأر.. وكأنما تمثل “السيناريست” حالة جرير فأسقطها على الزير، أو كأنها حالة “تخاطر” وقع فيها سيناريو المسلسل على الواقع الذي وثقه جرير من خلال “اعترافاته الشعرية” الطوعية!
قلق النهاية الوشيكة وشعور اللحاق السريع
وإذا كان الزير (في المسلسل) قد ابتدع ذريعة الثأر لكرامة التغلبيات المذالة من أجل استئناف “مشروع ثأره”، فإن جريرا لم يتجاوز لذعة فقد الفرزدق، بل رأى فيها نذيرا بأنه على الأثر، فعقدت الصدمة تصرفه، وانغلقت شهيته عن متابعة “ثأره الشعري” الذي يبدو أنه مات بموت خصمه اللدود.. لكن “حرب الأربعين عاما” -بميراثها النفسي الثقيل- لم تكن لتتلاشى عند “الصدمة الأولى” إذ ما كاد جرير يسمع النعي -وهو يزف إليه “الخبر العاجل” الأليم/السار- حتى انطلق لسانه ببيت شعر متفلت:
مات الفرزدق بعدما جدعته
ليت الفرزدق كان عاش طويلا!
ولعل أمنية بقاء الفرزدق كانت ترجمة لرغبة جرير في مواصلة “التفريغ الانفعالي”، إذ كان رحيل الفرزدق “فراغا” كفراغ جساس، أو هو أمض وأشق!
غير أن جريرا ما لبث أن أمسك نفسه، ومنعها هوى الاسترسال في التشفي، وسفح عبرات حرى سالت على خده، حتى عجب لأمره جلساؤه وسبحلوا، مستغربين بكاءه المفاجئ على خصمه الألد، الذي كان بالأمس يهجوه ويسلقه بلسان حاد غير عف ولا متورع! فأجابهم “والله ما أبكي إلا على نفسي، أما والله إن بقائي خلافه لقليل، إنه قلما كان زوجان مثلنا يجتمعان على خير أو شر ويتهاديانه، إلا كان أمد ما بينهما قريبا”، ثم طفق يتبع العبرات العبارات، فأنشد وهو “يخزي الشيطان”:
فجعنا بحمال الديات ابن غالب وحامي تميم كلها والمراجم
بكيناك حدثان الفراق وإنما بكيناك شجوا للأمور العظائم
فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة ولا سد أنساع المطي الرواسم!
ثم التقط نفسا زمنيا قصيرا لينشئ مرثاته الخالدة، التي صمم رويها على اسم الفرزدق وفصلها عليه حرفيا، وقد أودع رسالتها مطلعها، حين قال:
لعمري لقد أشجى تميما وهدها
على نكبات الدهر موت الفرزدق
عشية راحوا للفراق بنعشه
إلى جدث في هوة الأرض معمق
لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي
إلى كل نجم في السماء محلق
ثوى حامل الأثقال عن كل مغرم
ودامغ شيطان الغشوم السملق
عماد تميم كلها ولسانها
وناطقها البذاخ في كل منطق
فمن لذوي الأرحام بعد ابن غالب
لجار وعان في السلاسل موثق
ومن ليتيم بعد موت ابن غالب
وأم عيال ساغبين ودردق
ومن يطلق الأسرى ومن يحقن الدما
يداه ويشفي صدر حران محنق
وكم من دم غال تحمل ثقله
وكان حمولا في وفاء ومصدق
وكم حصن جبار همام وسوقة
إذا ما أتى أبوابه لم تغلق
تفتح أبواب الملوك لوجهه
بغير حجاب دونه أو تملق؟!
لتبك عليه الإنس والجن إذ ثوى
فتى مضر في كل غرب ومشرق
فتى عاش يبني المجد تسعين حجة
وكان إلى الخيرات والمجد يرتقي
فما مات حتى لم يخلف وراءه
بحية واد صولة غير مصعق..!
تحرير اعتذار
هكذا، في انقلاب عاصف، تحول جرير من قاع السخط إلى قمة الرضى، وتبدل “موقفه المعلن” بشكل لا يكاد يصدق، فاستحال عفة بعد فجور، وإنصافا بعد تحامل، واعترافا بعد جحود..! هكذا، فجأة -ومن دون مقدمات- طوى الموت أضغان جرير، ونزع “فراغ الفرزدق” ما كان في صدره من غل في الدنيا، على غير عادتها!
وقد بدا أن حدس جرير كان في محله، فما تلبث -بعد الفرزدق- إلا يسيرا عليهما رحمة الله!. ولعمري لقد كانت هذه المرثاة الخالصة لوجه الصراحة -الخالية من حظ النفس- “نقيضة” صادقة، قوض بها جرير “نقائضه” المتشفية اللاذعة، لما ألهبت ضميره سياط “كشف المستور” فأبلت سرائره “اعترافات اللحظة الأخيرة”، وصعقته لذعة الفراق، ففجرت كامن شهامته، وأبدت مستتر نبله.. ويا للمفارقة!!