Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة وفنون

حلم على جنبات الشام أم عيد؟ تفاعل الشعر مع انتصار الثورة

حلم على جنبات الشام أم عيد

لا الهمّ همّ ولا التسهيد تسهيد

أتكذب العين والرايات خافقة

أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد!

كتب الشاعر السوري شفيق جبري هذه القصيدة احتفاء باستقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي، الذي تحقق في 17 أبريل/نيسان 1946م بعد نضال شرس وغير متكافئ بين ثوار سوريا الأحرار والاحتلال الفرنسي. وتعد هذه القصيدة دُرّة أشعاره، فقد فاضت فيها نفسه إبداعًا من صميم الشعور وتألقًا من رحم الانتصار المتوّج بالاستقلال الذي بات بعد ربع قرن من تسلّط الفرنسيين أشبه بحلم بعيد المنال!

إنه قدر السوريين وقدر التراب السوري أن يبقى مشتعلًا بالنضال والحراك الثوري الذي يعطي للمرء قيمة لوجوده وحياته بوصفه إنسانًا حرًّا أبيًّا مستقلًّا. وليس عيد الجلاء عنا ببعيد، فقد صدحت أفواه السوريين وتطايرت قلوبهم بثورة سلمية ابتدؤوها في منتصف الشهر الثالث من سنة 2011م ولم تُكلل بالنجاح إلا بعد ما يقرب من 14 سنة عجافًا ذاق فيها السوريون مرارة القتل ولوعة التشريد واحترقت قلوبهم على شباب ما كاد ربيعهم يزهر حتى حلّ عليهم شتاء قاس اقتلع الأخضر واليابس من زهرات شبابنا وأبنائنا.

ما الداعي لذلك الإجرام كله؟!

في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول من عام الخير 2024م، فرّ الطاغية لتعلن سوريا حرة أبية من جديد، بعد 54 سنة من ويلات الشقاء السياسي والاجتماعي والنفسي الذي سُلّط علينا مع وصول الأسد الأب إلى السلطة وكرسي الرئاسة. ها قد صارت سوريا حرّة، والدنيا لا تتسع لقلوب السوريين وأشقائهم من العرب والمسلمين وأحرار العالم النابضة بالفرح، وتوهجت النفوس بسعادة كنا نظن أنها قد خُبّئت في سابع أرض مع أولئك الثوار الذي غيّبهم الأسد الطاغية وزبانيته في غياهب السجون والمعتقلات.

إنه الطاغية الذي فاق في أذيّة شعبه وتدمير بلده ما يتصوره أي إنسان عن أبشع إجرام، فقد جاوز آل الأسد ما فعله فرعون في مخيلاتنا وتصوراتنا، وفاقت جرائمهم وأفعال أزلامهم ما تشكّل في أذهاننا حول أذية المشركين للمسلمين في العهد المكي للإسلام، فلا عقل ولا فطرة ولا منطق يستوعب ما فعلوه في سبيل بقاء شخص واحد في الحكم، وإن استدعى ذلك محو الأرض وحرقها وقتل العباد وتعذيبهم وتشريدهم! لم يكن ما وهبوا أنفسهم له إلا شيطانًا باعوه النفس والعرض والشرف والأرض والوطن! لا من أجل عقيدة أو فكرة أو حق، بل تغييبًا للروح والإنسان وسعيًا وراء متاع باطل ووهم قَتام هباء!

حرقوا البلاد ودمروا المدن وخربوا المنشآت والمرافق، وقتلوا الإنسان! ولم يسلم منهم الحيوان، ولم يكتفوا بوصف الثوار المجاهدين في سبيل الحرية والكرامة بالمجرمين والمسلحين، بل عملوا على تشويه صورتهم في المجتمع الدولي، وألصقوا بهم تهمة الإرهاب ووصفوهم بالخارجين عن القانون، لكن أحدًا من المجتمع الدولي آنذاك لم يسأل: عن أي قانون خرجوا؟ والحقيقة كانت أوضح من أن يحجبها غربال السياسات الدولية، كانت مرّة قاسية جرّعت الشعب السوري مرارة الخذلان العربي والدولي.

فهمنا على مرّ السنين العجاف التي عاشتها بلادنا أن العالم يخشى انتصار أصحاب الحق والعقيدة، وأنهم متروكون منبوذون، لأن انتصارهم سيعرّي خيانة العالم وتواطؤ السياسات. لا داعي للخوف؛ فقد فهمنا وفهم العالم كله قواعد اللعبة الدولية، وأدركنا أن أُخُوّتنا عِرقًا ليست سوى وهم تعلقنا به ونحن نُلقى في غياهب الجبّ، فرزقنا الله قافلة الإيمان نهدهد عليها قلوبًا أنهكها الترك والخذلان وفتتها العجز، إلى أن أذن الله بنصر من عنده يشفي صدور المؤمنين الصابرين المرابطين في بلاد الشام والذين خرجوا منها غصبًا وكرهًا.

نصرٌ مشوب بالقلق والذهول

كانت أحداث الأسبوعين الماضيين متسارعة وعصيّة على التصديق، بداية من تحرير حلب أو تسليمها -لا فرق اليوم- وانتهاء بإعلان دمشق حرة في فجر ورديّ طلع عليها بعد أن حبست أنفاسنا في ليل طويل. تنفس السوريون في ذلك الفجر نسائم الحرية، كانت لحظات الانتظار والترقب والخوف لا تنفك عن ملازمة السوريين مع لحظات الفرح والذهول؛ خوف وقلق على أهلهم في الداخل السوري من أي عمل إجرامي انتقامي.

عصيبة كانت تلك الدقائق، وكانت الأعصاب تنفث غبار السنين وتتجهز للانطلاق من رحم الألم والإشراق في يوم فرح خالد في القلوب والعقول وفي صفحات التاريخ الحديث، فكان النصر بفضل الله وبسواعد المجاهدين الذي أعدّوا العدّة ليوم تطيب فيه خواطر السوريين.

كانت عائلة الأسد كابوسًا جاثمًا فوق الصدور، فمن أيام الثمانينيات وحتى لحظة هروب الطاغية بشار والسوريون يرزحون تحت وطأة الخوف والرعب، وقد عمّ حياتهم فزع يُؤرجحهم بين دمار مادي وخراب نفسي، حتى بات الأمل بل بصيص الأمل بعيدًا بعد المشرق عن المغرب، وظلّ الأمل معقودًا بالله، مقطوعًا عن كل ما سواه.

تفاعل الشعر مع النصر ما بين الجلاءَين

من يطالع وصف شفيق جبري لفرحة السوريين بجلاء الفرنسيين يظن أنه يصف حالنا اليوم، فقد امتزجت دموعنا نحن السوريين بضحكاتنا، وذرفنا من دموع الفرح ما يطفئ لهيب سنين الوجع، حتى الدموع كانت مقهورة مكبوتة في أعماق نفوسنا، فانفجرت العيون كأنها تبكي قهر السنين السالفة:

ملْء العيــون دمــوع مــن هناءتهــا

فالــــدمع در علـــى الخـــدين منضـــود

لـــو جــاء داوود والنعمــى تضــاحكنا

لهنـّــأ الشــام فــي المزمــار داود

علــى النــواقيس أنغــام مسـبّحة

وفـــي المـــآذن تســـبيح وتحميـــد

نعم، لقد صدحت مآذن الشام معلنة فجر الحرية الذي طال انتظاره، وتتالت دموع الفرح وتلاقت الآمال والآلام في قلوب عمرتها الحسرات، فشاء الله أن يُطل عليها ربيع الحرية بعد سبات طويل من الظلم والاستبداد.

صقورٌ لا حمائم بعد اليوم!

يحلّق السوريون اليوم في سماء الوطن صقورًا من حرية، لم يعودوا حمامات وادعة، حتى الحمامات في ساحة المسجد الأموي وساحة المرجة صارت صقورًا وشواهين، كُسرت قيود الاستعباد وانقشعت غيوم الظلم وباتت سماء الحرية صافية نقية، وأشرقت شمس الحرية وطلعت علينا بأنوار النصر، وشعّت على أفئدتنا التي جمّدها صقيع الغربة والتهجير والقتل والتشريد؛ بدفءِ الشعور وجلال الحبور بالانتماء إلى أرض ما زالت تنجب الشرفاء وتلد البطولات بكرامة الوطن وعزة العقيدة والولاء.

يلا ارحل يا بشار” لطالما رددها الثوار وصدحت بها القلوب الحرة، غير أنهم مذ بدأت نسائم الحرية تهبّ على تراب الوطن قالوا له “لا ترحل، جايينك”، فلم يستمع لهم لا في البداية ولا في النهاية! هرب مدحورًا مذعورًا، وكيف لا يهرب وقد دمر البلد وقتل الولد وحرق الشجر والبشر!

اضـرب بعينيـك هـل تلقـى لـه أثرًا

كــــأنه شــــبح فـــي الليـــل مطـــرود

خلعت سوريا الحبيبة سوريا العظيمة ثوب الظلم والاستبداد والدكتاتورية، ونفضت عن نفسها غبار الخنوع تحت وطأة عائلة الأسد المجرمة، ولم تكتف الثورة السورية بردع العدوان بل اقتلعت جذور الطاغية وبعثرت تلك العائلة المجرمة أبد الدهر وشرذمت أوصالها كما بعثرت من قبل أبناء سوريا وشتّتت شملهم وشرّدتهم في شتى أصقاع الأرض، على أن ما حلّ بهم قليل إزاء ما فعلوه، فقد أرهقوا أبناء سوريا في الداخل والخارج، ضربوهم بالرصاص الحي وقصفوا منازلهم وأحياءهم وهم فيها بالقنابل والصواريخ، ولم يتورعوا عن استخدام أبشع أنواع الأسلحة، حتى المحرمة دوليا منها، فاستخدموا الأسلحة الكيميائية إمعانًا في الإجرام والقمع والتخويف! كأنهم لم يقرؤوا التاريخ ولم يتيقنوا أن الشدة في اليد لا تولد إلا شدة في النفس.

لقد صيّروا من أبناء سوريا أبطالًا صناديد ردّوا عليهم ما زرعوه من عنف وتقتيل وإجرام بنصرٍ وظفرٍ يتوّج راية الحق على رؤوس الأشهاد، وسيردّون عليهم بنجاحاتهم وبناء وطنهم مجددًا حرًّا عزيزًا كريمًا، فمن ذاق ويلات الحروب وتمرّغ قلبه بزمهرير التهجير والنزوح، والتحف بالتشتت وتخبط بالضياع وكاد يذوب في بلاد المهجر والنزوح التي لا يعرف وجهها، واكتوى بنيران البعد عن الأرض والوطن والولد، وتلوّع بحرقة الغربة والبعد عن الأهل، وعاين معنى الاقتلاع من الجذور، والشوق إلى مسقط الرأس السليب ودفء المكان الذي عاش فيه أيام الطفولة والشباب؛ لن يسكت عن حقه بعد اليوم، ولن يركع لعدو، ولن يخفض رأسه في وجه أي طاغية بعد اليوم، وسيسعى لتحقيق ما رسمه في أحلامه عن وطنه الجريح وهو مبعد عنه. سيبني أبناء سوريا وطنهم الحقيقي مجددًا، وسيعمرون ما ضاع منهم من أيام، فلم نعد اليوم تلك الطيور المهاجرة التي لا تعرف للرجوع طريقًا.

 

انتصار الثورة بلسم لأوجاع اللاجئين والنازحين

من يطالع التاريخ يفهم ما كان الشاعر السوري شفيق جبري يرمي إليه في خطابه إلى النازحين عن سوريا الحبيبة من قبل، قائلًا:

يــا نــازحين ونــار الجــرح تـأكلكم

ومـــا لجرحكـــم بــرء وتضــميد

مــا نــامت الشــام عــن ثــأر تـُبيِّته

هيهــات مــا نومهــا فــي الثــأر معهــود

كما خاطب شباب الشام الثائرين في وجه الطغاة الساعين نحو تحقيق الحرية والعدالة بقوله:

يا فتية الشـام للعلياء ثورتكم

وما يضــيع مـع العليـاء مجهـود

جــدتم فسـالت علـى الثـورات أنفسـكم

علّمتـم النـاس فـي الثـورات مـا الجـود

سوريا العظيمة اليوم حرة وأبية، سوريا الحاضرة دومًا وأبدًا في وجدان أبنائها وقلوبهم وأفكارهم، سوريا الحاضرة في بلاد النزوح أيضًا، بعبقها وحضارتها وما حمله أبناؤها معهم من جمال عادات مجتمعاتهم وتقاليدها، لا أظن أن سوريًّا شريفًا قد نسي بلده على مدار السنوات الأربع عشرة الماضية، فهي في الوجدان حاضرة، في الصمت والكلام حاضرة، في الفزع والأمن حاضرة، في السكون والغضب، في الحزن والفرح سوريا حاضرة. كم صدق زهير بن أبي سلمى حين قال:

ثلاث يعِزُّ الصبر عنـد حلولها

ويذهل عنها عقلُ كل لبيب

خروج اضطرارٍ من بلاد تحبها

وفرقة خلّانٍ وفَقْد حبيب

كانت قصيدة نادر شاليش من أكثر القصائد التي تؤجج شعور الشوق في قلوبنا، وتحكي حالنا ونحن نكتوي بنار البعد غصبًا، وقد عانى هو نفسه من الظلم والتشريد:

أرسلتُ روحي إلى داري تطوف بها

لما خُطانا إليها مالها سُبل

أن تسأل الدار إن كانت تذكّرنا

أم أنها نسيت إذ أهلها رحلوا!

أنّى للسوريين أن يسامحوا تلك العصابة المجرمة التي جرّعت الناس ألوان العذاب، وحملتهم على سوء الظن بمصيرهم بعد كل ما لاقوه من بَغي وظلم وتعذيب، حتى بات معظم السوريين يظن أن لا نجاة له منهم في هذه الحياة الدنيا! وصرنا كلنا اليوم خارج سوريا نتساءل كما تساءل نزار قباني يومًا:

هل مرايا دمشق تعرف وجهي

من جديد أم غيّرتني السنون؟

آه يا شام… كيف أشرح ما بي

وأنا فيك دائمًا مسكون

وطني يا قصيدة النار والورد

غنت بما صنعت القرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى