راشد بن سعيد… محبة بحجم الوطن
قبل ثلاثة وثلاثين عاماً ترجّل فارس دبي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، عن صهوة جواده بعد أن خاض أشرف معارك الحياة في بناء الإنسان والأوطان، وغادر هذه الدنيا بجسده لكنه ظل عميق الحضور في القلب والوجدان من شعبه الذي أحبه حباً لا نظير له، فقد كان لشعبه ظلاً ظليلاً، وحاكماً رشيداً، وركناً للمُلمّات شديداً، عاش معهم ولهم، وبنى لهم مجداً تجلّى في بناء واحدة من أرقى المدن على المستوى العالمي هي مدينة دبي التي مازالت حريصة على حمل بصمته والوفاء له مهما طال العهد وتباعدت الأيام والسنون.
لم يكن راشد بن سعيد مشغولاً بدبي وحدها بل كان رجل وطن بحجم الوطن، وضع يده قبل بزوغ نجم الدولة في يد الفارس المؤسس طيب الذكرى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، يساندهما في حمل الأعباء رجال الوطن الأشراف الذين قدّموا مصلحة البلاد على كل شيء، فكان للمرحوم الشيخ راشد الدور العظيم الذي لا تُخطئه العين في بناء الوطن وتسديد مسيرته.
وفازت دبي بمزيد عنايته فكان هو المهندس والباني، والمخطّط والمنفّذ، والفارس الجسور المقدام الذي فتح لها الآفاق، ووضعها في قلب التحديات وجعلها وجهة عالمية منحتها موقعاً فريداً متقدماً بين مدن العالم وحواضره الكبرى.
بإزاء هذه المهمة الشاقة في بناء مدينة عالمية كان الشيخ راشد، رحمه الله، يبني الإنسان، ويضع حكمته وتجربته في قلوب وارثيه من أنجاله الكرام الذين كانوا يعرفون حجم المسؤولية التي سيتركها هذا الباني الكبير، ولم يُخيّبوا له ظناً بل كانوا خير امتداد لهذا الوالد الكبير.
وكان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، هو صاحب القدح المُعلّى من وراثة مجد أبيه، فواصل المسيرة وأضاف إلى منجزات الشيخ راشد ما جعل من دبي أيقونة المدن، لكنه ظل شديد الوفاء للمؤسس الأول، وظل حريصاً على تقديم نفسه امتداداً لذلك الوالد الجليل، فهو الوفيّ النبيل الذي يعرف قدر هذا الوالد الذي منحه ثقته ومحبته، فكان والده هو الرقم الأول في قلبه المعمور بالحب للوطن حين قال في سيرته الذاتية الرائعة (قصّتي: 50 قصة في خمسين عاماً):
«أبي، والخيل، ودبي هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي، أبي والخيل ودبي هي ذاكرتي التي ستبقى معي حتى النهاية» ثم فسّر سر هذا الحب الخالد في القلب فقال: «الخيل تجمع العزّة والأنَفَة والرقة والقوة في نفس الوقت، وكذلك أبي، وكذلك دبي».
في ظلال ذكرى رحيل طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كلمة تفيض رقة وعذوبة ووفاء على حسابه في إنستغرام صدّرها بقوله:
«لك يا أبي في قلبي حُبٌّ بحجم الوطن… رحمك الله» معبّراً بهذه الكلمات الصادقة عن محبة راسخة في حنايا قلبه لهذا الوالد الكبير الذي قصّ علينا في سيرته الذاتية أروع مناقبه وأخلاقه وملامح فروسيته، فقد كان راشد بن سعيد مُعلّما مُلهِماً وفارساً مقداماً قادراً على اتخاذ القرار الصعب في أحلك اللحظات، وهو الذي غرس في قلب صاحب السمو هذا النمط المتفرد من التفكير والعزيمة الصلبة والإرادة التي لا تلين، ليظل راشد بن سعيد ذلك الرمز الخالد في القلب والروح والوجدان.
ويتابع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد التعبير المؤثر الرقيق عن مشاعره تجاه والده الجليل فيقول: «رحم الله والدي ووالد دبي الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وأسكنه فسيح جناته. رحم الله مَنْ أسس الأوطان، وشيّد البنيان، وبنى الإنسان» لتكون هذه الكلمة تلخيصاً لمسيرة عظيمة لقائدٍ كبير كان يعرف ماذا يريد من الحياة، فهو رجل البناء في جميع الميادين، فأعلى بناء الوطن وشيّد بناء المؤسسات الكبرى في الوطن، ولم يغفل عن بناء العنصر الأهم في مسيرة الحياة ألا وهو الإنسان، فكان يعرف أن التقدم لن يكون في المسار المادي فقط ولكن يجب أن يكون متوازياً مع التقدم في بناء الإنسان على جميع مسارات الحياة.
«33 عاماً مرّت على رحيله، أكملنا فيها مسيرته، وأنفذنا فيها وصاياه، وانطلقنا فيها نحو آفاق عالمية مستندين على أساساته».. وتزداد نبرة الحب والوفاء لطيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد في كلام صاحب السمو، فيؤكّد على أن مرور ثلاثة وثلاثين عاماً لم تكن سوى امتدادٍ لرؤية الشيخ راشد رحمه الله، تنفيذاً لوصاياه، وإكمالاً لمسيرته، وانطلاقاً نحو آفاق جديدة كان يرنو إليها بثاقب بصيرته رحمه الله.
«سيبقى شعبه يذكره، ويدعو له، ويترحّم عليه ما بقي أثره وعمله ومدينته التي تحبه».. ولأن الشيخ راشد، رحمه الله، كان صادق الحب لشعبه، فإن شعبه ظل صادق المحبة له، حريصاً على أن تظل ذكراه لامعة في قلوبهم الأصيلة، يدعون له بالرحمة، ويذكرونه بكل خير، ويشتاقون لتلك الأيام الطيبة في ظل حكمه السعيد، وستظل دبي وفيّة لفارسها الذي بناها على عينه، وقدّم في سبيلها الغالي والنفيس.
رحم الله طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وأطال الله في عمر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ضميراً للوطن وحارساً لمنجزاته، ومعلّماً للأجيال قيمة الوفاء للبُناة الراحلين.