ما نماذج العالم؟.. الخطوة التالية في تطور الذكاء الاصطناعي

شهدت السنوات الأخيرة صعودًا ملحوظًا في شعبية نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية، خاصةً بعد الكشف عن “شات جي بي تي” في نهاية عام 2022. ومنذ ذلك الحين، تسعى الشركات جاهدةً لتعزيز قدرات هذه النماذج وتطبيقها في مختلف المجالات. ولكن، بقي السؤال قائمًا حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم العالم الحقيقي والتفاعل معه، وليس مجرد وصفه. هنا تظهر أهمية نماذج العالم، التي تعد تطورًا نوعيًا في هذا المجال.
تعتبر نماذج العالم أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة مصممة لفهم التفاعلات والتنبؤ بالأحداث في بيئات محددة، وذلك من خلال محاكاة قوانين الفيزياء وآلية عمل العالم. هذا يختلف عن النماذج التقليدية التي تركز على توليد النصوص والصور والأكواد. وقد دفع هذا التطور يان ليكون، أحد رواد الذكاء الاصطناعي ورئيس الأبحاث السابق في “ميتا”، إلى ترك منصبه وتأسيس شركة خاصة لتطوير هذه النماذج، مما أثار فضول المستخدمين حول ماهيتها وكيف تختلف عن النماذج السائدة.
ما هي نماذج العالم؟
يكمن مفهوم نماذج العالم في قدرة الأنظمة على بناء تمثيل داخلي للبيئة المحيطة، مما يسمح لها بالتخطيط واتخاذ القرارات بناءً على فهمها للعواقب المحتملة لأفعالها. بعبارة أخرى، هذه النماذج لا تكتفي بمعالجة البيانات، بل تحاول استيعاب “كيف تعمل الأشياء” في العالم الحقيقي.
يمكن لهذه النماذج أن تمكن الروبوتات من فهم كيفية التعامل مع الأشياء دون إتلافها، أو من التنقل في بيئات معقدة. على سبيل المثال، يمكن للروبوت استخدام نموذج العالم للتنبؤ بكيفية تأثير قوة معينة على جسم ما، وبالتالي تجنب إسقاطه أو تحطيمه.
على الرغم من أن فكرة نماذج العالم ليست جديدة تمامًا، إلا أن دمجها مع تقنيات الذكاء الاصطناعي اللغوية الحديثة يمثل نقلة نوعية. هذا الدمج يسمح بإنشاء نماذج أكثر قوة ومرونة، قادرة على التعامل مع مجموعة واسعة من المهام والتحديات.
تطبيقات عملية لـ نماذج العالم
تتيح نماذج العالم اللغوية توليد عوالم افتراضية تحاكي القوانين الفيزيائية الواقعية، ويمكن التفاعل معها من خلال الأوامر النصية أو الصوتية. تخيل أن تطلب من النموذج إنشاء سباق خيول، ثم تجربة السباق من منظور الفارس، مع تفاعلات واقعية للبيئة المحيطة. هذا النوع من المحاكاة يفتح الباب أمام تطبيقات جديدة في مجالات مثل التدريب والترفيه والتصميم.
ظهر هذا المفهول لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم عاود الظهور بقوة في عام 2018، ومع استثمارات شركات رائدة مثل “إنفيديا” أصبح أكثر واقعية.
الاختلاف عن “شات جي بي تي”
يكمن الفارق الجوهري بين نماذج العالم ونماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية مثل “شات جي بي تي” في طريقة عمل كل منهما. تعمل النماذج اللغوية من خلال التنبؤ بالكلمة أو الجملة التالية بناءً على البيانات التي تم تدريبها عليها. بمعنى آخر، هي تعتمد على التعرف على الأنماط والإحصائيات، ولا تمتلك فهمًا حقيقيًا للمعنى أو السياق.
في المقابل، تركز نماذج العالم على بناء فهم أعمق للعلاقات السببية والقوانين الفيزيائية التي تحكم العالم. فهي تحاول الإجابة على سؤال “ماذا سيحدث إذا…؟” من خلال محاكاة العواقب المحتملة لأفعال مختلفة. وبالتالي، يمكنها تقديم استنتاجات أكثر دقة وموثوقية، خاصةً في المواقف التي تتطلب التفكير المنطقي وحل المشكلات.
على سبيل المثال، إذا سألت “شات جي بي تي” عن تأثير اختفاء الجاذبية، فإنه سيقدم لك إجابة بناءً على النصوص التي قرأها حول هذا الموضوع. ولكن، إذا سألت نموذج العالم، فإنه سيقوم بمحاكاة العواقب الفيزيائية لاختفاء الجاذبية، مثل تطاير الأجسام وانفصال الغلاف الجوي عن الأرض.
كيف تعمل نماذج العالم؟
تعتمد نماذج العالم على أسلوبين رئيسيين للتدريب، وفقًا لخبراء في المجال. الأول هو التدريب التفاعلي، حيث يتعلم النموذج من خلال التفاعل المستمر مع البيئة. في هذه الحالة، يقوم النموذج بتوليد العالم خطوة بخطوة، بناءً على الإجراءات التي يتخذها المستخدم. يشبه هذا الأسلوب طريقة عمل ألعاب الفيديو، حيث تتغير البيئة استجابةً لتحركات اللاعب.
أما الأسلوب الثاني فهو التدريب المسبق، حيث يتم بناء نموذج كامل للعالم قبل البدء في التفاعل معه. هذا يسمح للمستخدم باستكشاف العالم بحرية، والتجربة مع مختلف السيناريوهات.
يؤكد الخبراء أن كلا الأسلوبين لهما مزاياهما وعيوبهما، وأن اختيار الأسلوب المناسب يعتمد على التطبيق المحدد.
استخدامات غير محدودة
تتجاوز استخدامات نماذج العالم مجرد الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة. يمكن تطبيقها في مجالات متنوعة، مثل أتمتة العلوم، والتفاعل بين الإنسان والحاسوب، والتدريب الافتراضي، والتصميم الهندسي.
تشير التوقعات إلى أن نماذج العالم ستلعب دورًا حاسمًا في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً ومرونة، قادرة على التكيف مع التغيرات في البيئة واتخاذ القرارات المستقلة.
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه تطوير هذه النماذج، مثل الحاجة إلى كميات هائلة من البيانات، وصعوبة محاكاة التعقيد الهائل للعالم الحقيقي. من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة مزيدًا من التقدم في هذا المجال، مع ظهور تقنيات جديدة وأكثر كفاءة.
ما يجب مراقبته في المستقبل القريب هو التقدم في تطوير خوارزميات التعلم المعزز، والجهود المبذولة لإنشاء قواعد بيانات شاملة للعالم الحقيقي. كما يجب متابعة الاستثمارات التي تقوم بها الشركات الكبرى في هذا المجال، والتي ستحدد إلى حد كبير مسار التطور.





