محمد محمود باشا.. من الصعيد إلى قيادة الحكومة المصرية
ويضيف المؤلف قائلاً: إن سجلات المحاكم الشرعية المصرية تشير إلى وجود جالية حجازية كبيرة في المدن المصرية امتهنت تجارة النحاس والعطور والفحم والحبوب وغيرها من السلع، علاوة على الصيرفة والسمسرة وتملك العقارات والأراضي الزراعية، وإنها اندمجت بالمجتمع المصري عن طريق المصاهرة والزمالة في معاهد الدرس والتجاور في السكن وأماكن العمل، فحصل أفرادها مع مرور الوقت على المواطنة الكاملة وصاروا جزءاً من الأمة المصرية، ما أتاح لهم لعب دور اقتصادي واجتماعي مؤثر في الحياة المصرية.
ونقرأ في كتاب «دور القبائل العربية في صعيد مصر» لمؤلفه الدكتور ممدوح عبدالرحمن عبدالرحيم الربطي ما مفاده، أن القلاقل في شبه الجزيرة العربية جعلت قبائلها تتوافد على صعيد مصر وأنها سرعان ما طاب لها العيش هناك، لاسيما أنها استُقبلت بالترحاب من القبائل التي سبقتها ومن الصعايدة أنفسهم، الأمر الذي أغراهم بالانتقال من حالة الإقامة المؤقتة إلى اتخاذ المكان معاشاً وسكناً دائماً.
كانت تلك مقدمة للحديث عن زعيم مصري من أبناء الحجاز النجباء ممن هاجرت عائلته قديماً إلى صعيد مصر واستقرت به وبرزت على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأنجبت أبناء شغلوا مناصب وزارية ومقاعد برلمانية.
هذا الزعيم المصري هو المرحوم محمد محمود باشا، الذي تولى منصب رئيس وزراء المملكة المصرية أربع مرات ما بين عامي 1928 و1939، والذي أطلقت الحكومة في عام 1945 اسمه على واحد من أهم شوارع وسط القاهرة وهو «شارع محمد محمود» بالقرب من ميدان التحرير، تخليداً لأعماله وإنجازاته لبلده، ناهيك عن قيام مكتبة الإسكندرية بدراسة تاريخية عن عائلته على مدار 4 سنوات وأصدرتها في كتاب بعنوان «العائلة السليمية.. سيرة عائلة من صعيد مصر»، وذلك ضمن مشروع ترعاه المكتبة باسم «مشروع ذاكرة تاريخ مصر الحديث والمعاصر».
نعتمد هنا في سرد سيرته ومسيرته على العديد من المصادر الصحفية، علاوة على عدد من المؤلفات التي أوردت ذكره وتحدثت عن صولاته وجولاته ومعاركه السياسية ككتب: «مذكراتي في نصف قرن» لأحمد شفيق باشا، و«قصة حياتي» لأحمد لطفي السيد، و«سعد زغلول زعيم الثورة» لعباس محمود العقاد، و«المعتدلون في السياسة المصرية.. دراسة في دور محمد محمود باشا» لماجدة محمد محمود.
ولد محمد محمود في «ساحل سليم»، مركز أبوتيج، محافظة أسيوط بصعيد مصر في 4 أبريل 1878، ابناً لوالده محمود باشا سليمان بن سليمان بن عبدالعال بن عثمان المنحدر من قبيلة بني سليم ببادية الحجاز. حيث إن عبدالعال بن عثمان هاجر لمصر واستوطن الشاطئ الشرقي لضفة نهر النيل بأسيوط جنوب مصر، لذلك سميت تلك المنطقة بساحل بني سليم نسبة للقبيلة. وأنجب عبدالعال هذا أربعة أبناء هم: همام (شغل منصب حكمدار مصر على مستوى الصعيد، وكان عضواً بمجلس الأحكام في وزارة الحقانية)، وتمّام (كان متفرغاً لأعمال الزراعة ورعاية مصالح أهالي ساحل سليم، وتُوفي في الحجاز)، وسليمان (وهو جد المترجَم له، وكان أحد أربعة مصريين صعايدة حصلوا على رتبة البكوية)، وأبوزيد (شغل منصب حاكم جنوب الصعيد). ومن الروايات المتداولة عن محمود باشا سليمان (والد المترجَم له)، أن الإنجليز عرضوا عليه تولي عرش مصر بعد سقوط الدولة العثمانية، لكنه رفض لأسباب منها أنه لن تكون له استقلالية التصرف والقرار في ظل الإنجليز، وأن مخالفتهم سوف تعني العزل والإذلال. ثم جاء أحفاده الذين تولوا وزارات التجارة، والتموين، والأشغال العمومية، والمواصلات، والداخلية، وشغلوا المقاعد البرلمانية لسنوات في العهد الملكي. هذا علماً بأن محمود باشا سليمان كان وكيلاً لمجلس شورى القوانين ورئيساً لحزب الأمة عند تأسيسه عام 1907، وأحد كبار ملّاك الأراضي الزراعية في الصعيد.
تلقى محمد محمود باشا تعليمه بمدرسة أسيوط الابتدائية عام 1892، ثم التحق بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة التي أتم فيها دراسته سنة 1897. أكمل دراسته الجامعية في كلية باليول بجامعة أكسفورد التي منحته شهادة في علم التاريخ سنة 1900، ليصبح بذلك أول مصري يتخرج من أكسفورد، وربما أول صعيدي يحمل مؤهلاً جامعياً.
بعد عودته من إنجلترا تم تعيينه ما بين 1901 و1902 في منصب وكيل مفتش بوزارة المالية، ومنها انتقل إلى وزارة الداخلية سنة 1904، وفي العام التالي اختير ليكون سكرتيراً خاصاً للمستشار الإنجليزي لوزير الداخلية.
وهو أول من أطلق فكرة تأليف وفد سنة 1918 للمطالبة بحق مصر في تقرير مصيرها وفقا للمبادئ الـ 14 التي أعلنها الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. ولهذا الغرض قام بتأليف الكتاب الأبيض الذي سرد فيه قضية مصر وحقها في الاستقلال سياسياً، ولهذا الغرض أيضاً خصص منزله القريب من شارع الفلكي بالقاهرة لاجتماعات الزعماء الوطنيين المصريين مثل سعد زغلول وعلي شعراوي وعبدالعزيز فهمي وأحمد لطفي السيد وغيرهم بقصد تشكيل الوفد المزمع إرساله إلى لندن والإعداد لثورة ضد السلطات البريطانية في حال رفضها، الأمر الذي تسبب في اعتقاله من قبل الإنجليز في 8 مارس 1919، ونفيه إلى مالطة مع سعد زغلول وإسماعيل صدقي وحمد باشا الباسل (عميد قبيلة الرماح بالفيوم)، وهذا أدى بدوره إلى انفجار الشارع المصري بالاحتجاجات والمظاهرات والاصطدامات، وهو ما أجبر الإنجليز على الإفراج عنهم والسماح لهم بالعودة إلى مصر في 8 أبريل 1919. بعد ذلك شكل محمد محمود باشا مع رفاقه وفداً للسفر إلى باريس ولندن، وظل لمدة عامين يتنقل بين العاصمتين ويفاوض الإنجليز دون جدوى.
ونتيجة لبروز خلافات وانقسامات في صفوف الوفد حول أهداف ومسارات التفاوض مع الإنجليز، انفصل صاحبنا مع زميله عدلي يكن وأسسا في عام 1922 «حزب الأحرار الدستوريين» كحزب مدافع عن الدستور المصري، الذي ظل منافساً قوياً لحزب الوفد بقيادة سعد زغلول، على الرغم من الصداقة القوية التي ربطته بسعد باشا زغلول قبل ثورة 1919 إلى الحد الذي كان لا يمر فيه يوم دون أن يلتقيا. وقد ترأس عدلي يكن «الأحرار الدستوريين» أولاً ثم ترأسه من بعده محمد محمود باشا في الفترة من 1929 إلى 1941، ثم عبدالعزيز فهمي باشا ومحمد حسين هيكل باشا إلى أن تم حله في ديسمبر 1952 بعد انقلاب يوليو.
في عام 1926 كان صاحبنا على موعد مع أول حقيبة وزارية وهي وزارة المواصلات التي تولاها من يونيو 1926 وحتى أبريل 1927 ضمن حكومة عدلي يكن باشا الثانية ثم حقيبة المالية التي تولاها من أبريل 1927 وحتى يونيو 1928 في حكومة عبدالخالق ثروت باشا الثانية، فحقيبة المالية مجدداً من مارس 1928 إلى يونيو 1928 في حكومة مصطفى النحاس باشا الأولى. وإبان توليه وزارة المواصلات، يذكر له قرارات بإنشاء مطار الإسكندرية، والبدء في إنشاء مطار القاهرة الدولي، ومد خطوط التلغراف والتليفونات لأول مرة بين القاهرة والإسكندرية.
رئاسة الحكومة 4 مرات
قلنا، إن محمد محمود باشا تولى رئاسة الحكومة المصرية 4 مرات. كانت الأولى في 25 يونيو 1928 في عهد الملك فؤاد، حينما شكل حكومة تولى فيها بنفسه حقيبة الداخلية، طارحاً برنامجاً يقوم على العمل من أجل استقلال مصر وتحقيق الحريات والعدالة وتطبيق اللامركزية. واستمرت حكومته هذه حتى 2 أكتوبر 1929. أما حكومته الثانية فقد شكلها في 30 ديسمبر 1937 في عهد الملك فاروق واستمر رئيساً لها ووزيراً للداخلية حتى 27 أبريل 1938، وخلال زعامته الثانية قام بحل البرلمان الوفدي وأدار البلاد والانتخابات العامة بقبضة حديدية. ثم جاءت وزارته الثالثة ما بين 27 أبريل 1938 و24 يونيو 1938، فوزارته الرابعة التي حكمت من 24 يونيو 1938 وحتى سقوطها في 18 أغسطس 1939 بسبب مناورات علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي آنذاك (كما قيل). بعد وزارته الرابعة ترأس المعارضة في مجلس النواب، إلا أنه لم يعش طويلاً إذ تُوفي في يناير 1941.
ورغم العديد من الإنجازات الداخلية التي حققتها حكوماته الأربع (مثل تأسيس أول قوة بحرية مصرية، إنشاء جامعة الإسكندرية، تعديل التشريعات الضريبية، استصدار القوانين المنظمة للموازين والمقاييس والمكاييل والعلامات والبيانات التجارية، وفرض قانون بألا تزيد فوائد المعاملات التجارية على 8%، والبدء بتنفيذ أول برنامج للإصلاح الزراعي تأثراً بما رآه في الريف البريطاني إبان دراسته هناك، ونقل تبعية الفنون والآثار والأوبرا من وزارة الأشغال إلى وزارة المعارف، علاوة على عقد اتفاقية سنة 1929 لتوزيع مياه النيل التي نصت على حق مصر في الاعتراض على إقامة أي مشاريع أجنبية على النهر وروافده)، إلا أن الكثيرين وصفوا أسلوبه في إدارة مصر بالديكتاتورية والتشدد، والقمع، مشيرين إلى قراراته الخاصة بمنع الموظفين العموميين من الاشتغال بالسياسة وحظر المظاهرات على الطلبة، وتعطيل الصحف وإلغاء رخص بعضها، وتزوير الانتخابات وغير ذلك. لذا نجد أن الصحافة المصرية، وعلى رأسها مجلة روز اليوسف لم تهاجم قط مسؤولاً مصرياً بقدر ما هاجمت محمد محمود بالحق والباطل.
نموذج للأرستقراطية الوطنية المحلية
وفي هذا السياق، كتب الدكتور محمد الجوادي (صاحب كتاب «محمد محمود باشا وزعامة الأقلية») في مدونة «أبو التاريخ»، أنه يتحفظ على ما قيل عن صاحبنا الذي وصفه بـ«أبرز نموذج للأرستقراطية الوطنية المحلية»، قبل أن يقول عنه إنه كان يحترم الديمقراطية، لكنه لم يحبها فتحولت كراهيته لها إلى ازدراء الديمقراطية ونتائجها وثمارها، وإن حبه للحياة الحزبية بتجلياتها المتناقضة كان يفوق حب كل معاصريه لأنه كان رجلاً حزبياً من الطراز الأول، بل «النموج الأبرز للزعيم الحزبي في نطاق الأقلية». واختتم الجوادي حديثه بالقول إن: «ثقافة محمد محمود الإنجليزية كانت بمثابة أبرز الأسباب التي جعلته يعاني كثيراً في تسيير أمور الدولة، فقد كان هذا التسيير يجهده إلى حد كبير ويجعله يحس بضيق النفس لأنه كان يريد أن يقود نظاماً فرنسياً في بنائه البيروقراطي بعقلية سكسونية، وربما شعر في كثير من الأوقات أن التفاهم مع السلطات الإنجليزية أسهل عليه من التفاهم مع وزرائه ومديريه».
وأدلى الدكتور محمد حسين هيكل بشهادة وتقييم لمواقف صاحبنا قال فيها: «كان في المواقف كلها رجل كفاح وصراحة ونزاهة لا ترقى إليها ريبة ولا تعلق بها شائبة»، مضيفاً: «مَنْ لمصر بمثل هذه المواهب والسجايا يهبها صاحبها هبة سماح لخدمة وطنه وأمته ما وهبها محمد محمود خلال تلك السنوات الثلاث والعشرين في إقدام وجرأة ليس كمثلهما إقدام ولا جرأة».
ونختتم بالإشارة إلى أن ابنه «محمود محمد محمود» تولى في السنوات الأخيرة من العهد الملكي رئاسة ديوان المحاسبة، وكان مرشحاً دائماً لتولي إحدى الوزارات، لكنه لم يصبح وزيراً إلا في أولى حكومات عهد الثورة برئاسة علي ماهر باشا، وأن ابنه الثاني «همام محمد محمود» هو مؤسس علم هندسة الإلكترونيات بمصر. كما نشير إلى أن أسرته قدمت للسينما والمسرح المصري أحد أبنائها وهو الفنان القدير مختار عثمان (ابن عم المترجَم له).