أخبار فلسطين: هدنة من ورق واعتراف دولي يصيب إسرائيل بالهستيريا
في مشهدٍ أقرب إلى مسرح العبث، تتصدر أخبار فلسطين العناوين مجدداً، بعد أخذ “استراحة قصيرة” تم تسميتها عالميًا باتفاق وقف إطلاق النار. وفي الوقت نفسه، اشتعلت أروقة الدبلوماسية بخبر الاعتراف الدولي بفلسطين، وهو الحدث الذي جعل إسرائيل تدخل في حالة ارتباك تشبه من اكتشف فجأة أنه ليس البطل في القصة كما كان يظن طوال الوقت.
هدنة بطعم الحرب
لقد قامت إسرائيل بخرق الهدنة عشرات المرات منذ اليوم الأول، وقتلت العشرات وأصابت المئات، وكأنها تمارس رياضة يومية اسمها “اختبار صبر الوسطاء”. أما تبرير إسرائيل فهو إنها “ترد على مصادر النيران”، وهو المصطلح الدبلوماسي اللطيف الذي يعني عادةً أن الطائرات بدون طيار خرجت في نزهة دموية جديدة.
حركة حماس تؤكد التزامها بالاتفاق “نصًا وروحًا”، بينما تستمر إسرائيل في القصف وإغلاق المعابر ومنع دخول الوقود، في مشهد يطرح سؤالًا بديهيًا: هل يُقصد بوقف إطلاق النار التوقف الكامل عند الإشارة الحمراء، كما نفعل نحن، أم الإشارة البرتقالية التي يمكن للبعض التوقف عندها، ولآخرين الاستمرار على نفس الوتيرة؟
الوسطاء في مهمة مستحيلة
أما الوسطاء، فهم الآن يحاولون إدارة مسرحية خرجت عن النص، محاولين إقناع الجميع بالالتزام بالقواعد قبل انتهاء المشهد. مصر وقطر وتركيا يتواصلون مع الأطراف ليل نهار لتهدئتهم، لكن كل مكالمة تُقابل بانفجار جديد على الأرض.
الولايات المتحدة، كعادتها، دخلت على الخط لتوزّع شهادات الأخلاق على الجميع. أصدرت الخارجية الأميركية بياناً غامضاً، تتهم فيه حركة “حماس” بالتخطيط لخرق الهدنة، وتحديداً – يا للعجب – ضد “المدنيين”. يبدو أن واشنطن اكتشفت فجأة أن هناك مدنيين في غزة، لكن فقط عندما لا تكون الصواريخ من صنعها أو من تمويل حلفائها.
البيان بدا كما لو أنه كُتب في غرفة مكيفة داخل مبنى الخارجية، بينما شاشات الأخبار خلفهم تعرض صور الأطفال تحت الركام. الغريب أن أمريكا، التي سقطت قذائف إسرائيلية بفضل دعمها فوق رؤوس الناس وهم نيام، وجدت وقتاً لتعبّر عن “قلقها العميق” من احتمال أن تهاجم حماس المدنيين. كأنها تقول: “نحن نرفض العنف… إلا عندما يكون صناعة أمريكية ومضمون النتائج”.
ترامب يدخل المسرح
ولأن المسرح السياسي لا يكتمل دون ظهور مفاجئ لشخصية مثيرة، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يُدلي بدلوه. قال الرجل بثقة الملوك: “لن نرسل جنودنا إلى غزة، لكننا سنتدخل إذا لم تنزع حماس سلاحها”.
بعبارة أخرى، هو لا يريد حرباً… لكنه يحتفظ بحق إعلانها من بعيد.
ترمب تحدث أيضاً عن رؤيته لإعادة إعمار غزة، مؤكداً أن “الأمر ليس صعباً جداً”، وكأن الحديث عن إصلاح حي دمرته القذائف يشبه ترتيب حديقة منزل. وأضاف أن الدول الغنية ستدفع التكاليف، لأن من الواضح أن العالم ما زال يؤمن بنظرية “التمويل من الهواء”.
غزة: الحياة بين الأنقاض
في غزة، لا يحتاج الناس إلى بيانات لتذكيرهم بأن الحرب لم تنتهِ. ما زالت رائحة الغبار والموت تمتزج في الهواء، والعائلات تبحث بين الركام عن أحبائها.
وزارة الصحة أعلنت مقتل عشرات الفلسطينيين منذ بدء الهدنة، وتسلم جثامين لمواطنين كانت أيديهم مكبلة. البعض يتحدث عن جرائم حرب، بينما العالم مشغول في اجتماعات تبحث “سبل تثبيت التهدئة”، وهي عبارة دبلوماسية معناها الحقيقي: “دعوا الوقت يمرّ، فربما يملّ الطرفان من القتال”.
إسرائيل ودوامة الاعتراف الدولي
في الوقت الذي تنهمك فيه غزة بانتشال جثثها، كانت إسرائيل تحاول انتشال أعصابها بعد الأخبار المتزايدة عن تحركات دولية للاعتراف الرسمي بفلسطين.
الاعتراف، كما تصفه الصحافة العبرية، “خطر وجودي”، وكأن كلمة على ورق قادرة على زعزعة أمة تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم. ومع ذلك، تصرفت تل أبيب وكأنها اكتشفت مؤامرة كونية ضدها، فبدأت تصرخ يميناً ويساراً وتحذر من “الانعكاسات الكارثية”، بينما العالم ينظر إليها بدهشة: ألم تقلوا إنكم أقوياء؟ فلماذا كل هذا الذعر من مجرد مؤتمر؟
مشهد النهاية
في نهاية هذا العرض العبثي، يبدو أن الجميع يلعب أدواره بإتقان:
- إسرائيل تواصل “الرد على مصادر النيران” حتى لو لم تكن هناك نيران، وكأنها تمارس لعبة الغميضة على المدنيين.
- الولايات المتحدة تمنح دروساً أخلاقية حول حماية المدنيين، بينما ظلت صواريخها التي تدعم فيها إسرائيل تتساقط فوق رؤوس الناس على مدى عامين متتاليين، لتبرز التناقض في أبهى صوره.
- الوسطاء يكررون كلمات مثل “التوازن” و”الاستقرار” وكأنها تعويذة سحرية يمكنها إيقاف الخراب، بينما العالم ينظر بدهشة إلى المسرحية العبثية.
- الشعب الفلسطيني، هو الجمهور الوحيد الذي لم يختر حضور هذا المسرح، لكنه مضطر لمشاهدته كل يوم، من بين الأنقاض ورائحة الغبار والموت.
أما الاعتراف الدولي بفلسطين، فقد أصبح بالنسبة لإسرائيل ككابوس سياسي: فكرة تزعجها أكثر من أي صاروخ، لأنها المرة الأولى التي يقترب فيها العالم أجمع من الاعتراف بأن هذا الشعب يستحق حياة طبيعية. ومع كل تصعيد جديد، يبدو أن إسرائيل تركض في كل الاتجاهات بلا بوصلة، وواشنطن توزع بياناتها الأخلاقية من برج عاجي، بينما التاريخ يكتب سطوره الأخيرة بقلم ساخر لا يرحم.





