الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلمية إلى عشق اللغة العربية
يخوض الكاتب بحر تجربته، فيجد أن القارب الذي يستعين به على رحلته لن يوصله إلى غايته، فيقرر أن يستعيض عن ذلك بسفينة ثقافية يستغرق في صناعتها وقتا من الزمن، ولا ضير في ذلك إن كانت هي الطريق الحقيقي الذي سيوصله إلى جزيرة الحرف أو محيطات الكلمة.
ياسين كني الأديب المغربي الشاب الذي غير تخصصه الجامعي بعد أعوام ليذهب إلى شغف اللغة، وشوق الحكاية، هو ذاته اليوم الذي يفوز عن روايته “ع ب ث” المكتوبة بحروف ثلاثة متباعدة، بجائزة كتارا في دورتها العاشرة عن فئة الروايات العربية غير المنشورة، فكانت هذه الأسئلة معه في رحلته الثقافية:
-
استغرقت كتابة نصك الفائز “عبث” 5 أعوام، كيف يحتمل النص التغيرات النفسية والفكرية والإبداعية للكاتب؟ ألا يكون النص تحت تأثير متغيرات كثيرة من الكاتب؟
استغراق مدة طويلة للكتابة مردُّه أساسا إلى أنني كاتب غير متفرغ، فَلَدي وظيفة وأسرة وإكراهات تجعل الكتابة ممارسة مُقتَطَعة من جدول زمني حافل. وإذا كانت مدة الكتابة الطويلة تمنح فرصة لإنضاج النص وخصوصا إذا كان شكل وموضوع النص يحتاجان إلى ذلك، وهو ما ينطبق على رواية “ع ب ث”.
فإن هذه المدة تعرض أمامك إكراهات كثيرة نفسية وفكرية وأيضا إكراهات الحاجة لذلك النص في زمن النشر، ولذلك كثيرا ما تخليت عن نصوص في منتصف مشوار الكتابة، لأنني لم أعد راضيا عنها، أو لأن السياق لم يعد يلائمها ولم تعد الحاجة لطرحها قائمة.
ونص “ع ب ث” بدوره خضع للعديد من التغييرات شكلا وموضوعا خلال رحلة الكتابة وخرج بصورة مغايرة للخطة السردية التي وضعتها له، ويمكن أن أُجمل القول وأدّعي أن واقع الرواية يشبه الواقع الحقيقي، لا يمكننا أن نرسم طريقا نمشي عليه فللقدر/التاريخ رأي آخر.
-
حدّثنا عن شغف العربية، كيف قررت أن تنتقل لدراسة اللغة العربية بعد أعوام من الدراسات العلمية؟ وليتك تخبرنا عن ما أضافته هذه الدراسات إلى إبداعك النثري والنقدي.
لشغفي بالعلوم كانت دراستي دائما علمية، لكن لضغط السياق الاجتماعي أكثر، في مناخي كانت دراسة الأدب مخصصة للفاشلين دراسيا، كنت أحب الأدب منذ طفولتي، فقرأت الشعر والرواية والقصص منذ المرحلة الابتدائية، أما في المرحلة الثانوية ودراستي في الكلية فقد تركت الأدب تقريبا، فقلّت قراءتي وكتاباتي.
لكن حينما اشتغلت مدرّسا في الريف المغربي في وقت لم يكن هناك شيء يشغلك في منطقة نائية غير الكتب عدت للقراءة والكتابة، وراكمت نصوصا كثيرة، لكن الرضا كان غائبا، أحسست أن الإضافة التي يمكن أن أقدمها لم تكن حاضرة، وهنا قررت العودة للدراسة، درست العربية وصادفت النقد الثقافي والدراسات الثقافية.
وكان هذا إضافة لقراءاتي الفلسفية انقلابا كبيرا في شخصيتي وفكري وهو ما انعكس مشروعا كتابيًّا ليست الرواية والأدب إلا جزءا منه، يضاف إلى عملي في الدراسات النقدية الثقافية في الأدب وخارج الأدب، ويمكن أن أقول إن الجامعة أضافت إلي منهجيا أكثر مما أضافته لي معرفيا.
-
انتقلت الكثير من النصوص الروائية إلى عالم الدراما والسينما، فباتت أقرب إلى الجمهور، وطوّرت في أدوات الكاتب، كيف تقرأ هذه التجارب؟ وهل تقف أحلامك الروائية عند دفتي الكتاب الورقي أو الإلكتروني فقط؟
الأدب هو أفضل أساس يمكن أن نبني عليه، فالسينما والتلفاز يقدمان إضافة، وهناك أعمال كبيرة عربيا وعالميا كانت بين دفتي كتاب قبل أن تُحلِّق إلى الشاشة، بالنسبة لي أتمنى أن تحظى أعمالي “الرّوائية” المنشورة بفرصة الانتقال إلى الشاشة.
وقد كتبت أيضا نصا مسرحيا شارك في مهرجان شرم الشيخ وتأهل للأعمال المرشحة، وأشتغل على مشروع رباعية سيناريو مسلسل كتبت جزأه الأول من 30 حلقة، وإذا وجدت مخرجا أو منتجا يؤمن به قد يحفزني على كتابة الأجزاء الأخرى، كما قلت إنني أمتلك مشروعا ويهمني أن يكون له منافذ متعددة لكي يصل إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين، والعصر عصر الصورة.
-
في سفرك من الرباط إلى الدوحة، بحار وصحارى وتاريخ عريق من الإصدارات المعرفية والإبداعية والثقافية وغيرها، أين تتوقف مطولا في هذا الإرث؟ وما الإضافات التي يود أن يقدمها كاتبنا إلى هذا الرصيد المعرفي الكبير؟
حينما بدأت أكتب لم أفكر أبدا في النشر ولذلك كنت أكتب كثيرا وبأريحية، لكنني حينما فكرت في النشر توقف مدادي، شكّل سؤال الإضافة إلحاحا بالنسبة إلي، نظرت إلى الإرث الحضاري الكبير الذي يزخر به تراثنا العربي، لذلك تأخرت روايتي الأولى 10 سنوات بين إنهاء الكتابة والنشر.
قررت أنني لن أنشر إلا مرورا بلجنة قراءة أو تحكيم تُزكّي العمل، لا يمكن أن أفرض عملي على متلقّين بخلفية حضارية كبيرة وانفتاح على عالم شُرعت أبوابه، خصوصا وأنا في بلد موقعه الجغرافي جعله ينفتح شرقا وغربا.
وهذا ما كان، فصدرت روايتي الأولى “تيغالين” في مصر، وتوالت الأعمال محاولا أن أساهم ولو يسيرا في صناعة المعنى وإعادة صياغة العالم مع الحالمين الذين اكتفوا من ترك المجال أمام المجرمين والتافهين.
-
بين تأثير ثقافي عربي في الأندلس، وتأثير ثقافي استعماري سابق في بلادنا، كيف يتعامل المثقف مع هذه المفارقة؟ خاصة وأنتم على مقربة من تلك الجغرافيا؟ وأين تقع الترجمة في مشروعك الثقافي؟
نحن اليوم أبناء القوى المنتصرة، تاريخنا وهويتنا بناه المنتصرون والمتملقون لهم من صناع المعنى، وهم اليوم بمقياس عالمي ويحوزون سلطة وقوة لم تتح تاريخيا لغيرهم، المثقف اليوم يحتاج أولا أن يعي هذا ليخرج من الجدار الدوغمائي (الجمود الفكري) الذي يحاصرنا، ويستغل الانفتاح العالمي للخروج من القبضة الثقافية الرأسمالية.
هذا الخروج يجب أن يؤهله للانخراط في جبهة التحرير الثقافي، وقد أسماها جون زيغلر التحالف المدني العالمي، تحالف مقاوم يوقف الحمق الذي يقود الأرض إلى المحرقة، الرمزية والحقيقية، هذا يعني بالنسبة لي أن نبني حضارة عالمية تحافظ على الخصوصيات، تحترم الجميع.
فالتأثير الاستعماري اليوم أكبر منه زمن الاحتلال العسكري، لذلك يجب أن نتسلح بالوعي، هذا لا يعني أن الغرب شر كامل، شخصيا أغلب وسائلي الفكرية والكتابية غربية المنشأ، موقعنا في المغرب وتعلم اللغات والترجمة أمور ضمنت لنا التعرف على الغرب بطريقة أعمق، دون وسائط في كثير من الأحيان، أنا من الذين يؤمنون بمشروع إنساني لا يمحو الخصوصيات، لأنني أمتلك جذورا متينة يُعدُّ التفريط فيها حُمقا كبيرا وسباحة في المجهول.
-
هل يختصر الفوز بالجوائز الأدبية المسافات الزمنية بين المبدعين والشهرة؟ ولماذا لا نجد الأسماء العربية في قوائم الجوائز العالمية؟
الجوائز تضمن الانتشار، تفتح النوافذ، لكن الإبداع الحقيقي هو الذي يضمن البقاء، فالشهرة لا تعني الكثير للمبدع والمثقف؛ ما يعني له هو التأثير. الشهرة أن تكون معروفا عند جمهور واسع، والتأثير أن تغير أفكارك الجمهور الواسع مباشرة أو من خلال مثقف وسيط يكون قارئا لأفكار المبدع.
شهرة سان سيمون مثلا محدودة جدا، لكن تأثيره في ماركس وإنجلز كان كبيرا، وتأثيرهما في العالم كان أكبر بكثير من خلال تأثيرهما في مئات المثقفين وملايين من الجماهير والعالم أجمع، التأثير هو رهان المثقف وليس الشهرة، وهذا لن يضمنه لك إلا عمق وجدّة عملك، فالجائزة تُسلط الضوء والباقي على الكاتب.
أما حضور كُتَّابِنا في الجوائز العالمية فهو متناسب مع حجمنا كأمة اليوم، نحن أبناء هذه الأمة وهذا السياق، والبذرة تتحدد جودة نبتتها إن أنبتت من جودة التربة التي بذرت فيها، لكن مبدعينا يتطورون، يحتاجون سياقا أفضل، في كتاب جمهورية الأدب تجد شروط العالمية، نحن للأسف لا نتوفر على شروط الإبداع فكيف بالعالمية، لكن المحاولات الفردية ترفع التحدي وستستمر متحدية السياق الداخلي وحتى النسق الثقافي الغربي الذي يرفع من مثقفينا من يتنكر لجذوره ويخدم أجندات المتحكمين العالميين.
-
يحمّلك الفوز مسؤولية مضاعفة لتقدم الأفضل باستمرار؟.. ما أهم مشاريعك القادمة؟
المسؤولية تحمّلها لك القيم التي تحملها، الجائزة تمتحن تلك القيم، تقدمك للسوق ومغرياته، تجردك من الادعاءات، الجائزة تزيد من عدد الذين سيقيّمونك، هناك يكبر الامتحان، وشخصيا أستشعر هذا، لذلك فأنا أشتغل وفق مشروع شخصي، له أهداف وغايات.
وفي هذا السياق لدي مشاريع قائمة سأحاول أن أنهيها تواليا، روايات وكتاب في الدراسات الثقافية ورباعية سيناريو مسلسل، كما لدي التزامات بحثية رفقة مجموعة من الشركاء. طبعا وسط هذا تولد فكرة هنا وهناك ستشعل الفتيل لأعمال جديدة لكنها ستظل مؤطرة بالمشروع نفسه.
-
يتلفّت الأدباء والأديبات في غزة بفلسطين اليوم بحثا عمن ينصرهم، يُشردون ويقتلون ويعتقلون وتهدم بيوتهم ومكتباتهم ومساجدهم ومدارسهم وجامعاتهم، كيف تقرأ هذه الإبادة؟ وهل من طريق ثقافي ومعرفي لنصرتهم؟
الإنسان الفلسطيني اليوم يمتحن الإنسانية جمعاء، يمتحن إنسانيتنا وقيمنا وادعاءاتنا، فهو يسدّد ثمن انتقال عالمي نحو نظام عالمي جديد، ومخاض العالم تركّز ألمه في فلسطين، ومهما قلنا أو فعلنا لا يمكن إلا أن نعزّي أنفسنا ونكذب عليها أننا نقوم بالمسؤولية.
فالمثقف أمام مهمتين رئيسيتين، الأولى: أن يُبقي القضيّة حيّة عسى أن يأتي جيل ينهيها لصالح الحق والعدالة، أما المهمة الثانية فهي أن يعيد موقعها بالنسبة للإنسانية.
إنّ إصرارنا على أنها صراع عربي إسرائيلي، يقزم القضية، فعلى فلسطين أن تكون قضية الإنسان، إنها صراع بين الوجود بالمشروعية والحق وبين الوجود بالقوة وسلطة الواقع، وعلى الإنسانية أن تنتصر في هذا الصراع لصالح الحق والعدالة، وليس لصالح السردية التلمودية الطبقية الإمبريالية.
وأستغل الفرصة هنا لأطلب الصفح من جميع الفلسطينيين الذين ينوبون عن العالم في القيام بهذا الدور، إنهم يبقون جدار الإنسانية قائما عسى أن تستيقظ يوما وتبني وتدعم هذا الجدار، فلولا فلسطين لانهار الجدار، فهي اليوم ليست مجالا جغرافيا بقدر ما هي قيمة، قيمة يتمثلها الفلسطيني كما يتمثلها الأبرار والأحرار في مناطق أخرى من العالم.
-
كيف يمكن أن نرمم جسور الإبداع بين شرق الأمة وغربها؟ كيف يمكن أن نعرف مبدعينا وأن نقرأ لهم؟ ما المطلوب لفعل ذلك؟
نحن نعيش اليوم نكران الأخ لأخيه، الجسور مهدمة بين جهات الشرق نفسه ونواحي الغرب نفسه، لكننا نمتلك ما لا يمتلكه غيرنا، نمتلك لغة توحدنا، تخيّل أمة تتحدث لغة واحدة، اللغة هنا قناة تواصل وآلية تفكير، تستطيع أن تتنقل عبر ربوع الأمة وتتواصل بلسان واحد وتجد مشتركا كبيرا.
في الدوحة التقيت بعرب من جنسيات متعددة، وتواصلت معهم بأريحية كبيرة، وتبادلنا حديثا في الثقافة والفكر والسياسة، لم أشعر أبدا أنهم ذلك الآخر الأجنبي، بل كأنني أتحدث مع مغربي من أقصى شمال المغرب أو من أقصى جنوبه، تتغير اللكنة قليلا لكن القلوب تحس بالدفء والعقول تحس بالانسجام.
على المثقف اليوم أن يتعالى على الصراعات السياسية والعرقية والطائفية التي تؤجّج لتضعفنا؛ وجودنا مرتبط بتجمعنا، كلما زاد الجمع زادت المنعة، دور المثقف اليوم أن يبحث سبل الجمع وينفي سبل التفرقة، المثقف يمتلك لذلك إرثًا تاريخيا وثقافيا كبيرا.