البرد عدو السوريين الخفيّ

19/2/2025–|آخر تحديث: 19/2/202504:47 م (توقيت مكة)
في رده على سؤال عن سبب انتسابه وهو شاب للحزب القومي السوري الاجتماعي رغم أنه معروف بازدرائه للسياسة وأهلها في كتاباته وأدبه؛ قال الأديب السوري الراحل محمد الماغوط إنه لفقره كان خلال صباه يلجأ إلى مكاتب الأحزاب ليتدفأ، وكان في مقر الحزب القومي السوري بمسقط رأسه في مدينة السلمية، “صوبيا”، وهي المدفأة التي تقي من برد الشتاء، ولم تتوفر عند غيره من الأحزاب، فانتسب إليه بحثا عن الدفء.
هذه الكوميديا الماغوطيّة السوداء تجسّد حال غالبية السوريين في بحثهم عن الدفء وقد فتك بهم البرد الشديد على مدى سنوات عديدة لا ترحم. ففي دمشق المنهكة التي تحاول أن تمسح عن وجهها قترة الظلم المتراكم، أعداء صامتون سوى ذلك النظام الذي ما تزال تركته الثقيلة تفتك بالسّوريين.
في تلك البيوت المتعبة التي لا تصدّ قرا ولا تردّ حرا ولا تملك أدنى مقومات عزل الحرارة، يعاني الناس من البرد الذي ينخر العظام، فيستقر فيها مورثا أهلها الأمراض والأسقام التي لا تخطر على بال.
في العادة، يعتمد السوريون على “الصوبيا”، وهي المدفأة التي تتغذى على المازوت (السولار)، لطرد البرد من البيوت في الشتاءات القارسة. وكانت المدفأة أنيس السوريين جميعا في عقود خلت، فلا تكاد تجد بيتا يخلو منها في الشتاء، غير أن هذا السلوك قد تأثر بسوء الوضع المعيشي الذي فتك بهم في العقد الأخير.
فالمحظوظ والثري وحده هو الذي يستطيع منذ قرابة 10 سنوات إلى اليوم تركيب مدفأة في إحدى غرف بيته، والجميع ينظر إليه نظرة غبطة لا تخلو من الحسد.
أما الغالبية العظمى من الناس، فإنها تقضي الشتاء من دون مدافئ أبدا ومن دون أية وسيلة تدفئة، وتعتمد في تدفئتها على تسميك الثياب ووضع قبعات الصوف في الرؤوس والتلفع بالأغطية، وكل هذا ما هو إلا وسيلة لتحصيل الدفء الذي يبقى بعيد المنال، لا تحظى به أطراف الأطفال المزرقة من شدة البرد، ولا يملك له الآباء والأمهات إلا نظرات الحسرة مع الحوقلة المنكسرة.
الدفء للمترفين
في بعض الأرياف، يعتمد الناس على مدافئ الحطب مما تسبب في عمليات قطع واسع وجائر للأشجار الحرجيّة، ومع ذلك فإن أسعار الخشب ليست في متناول غالبية الشعب المسحوق، إذ يصل سعر طن الخشب إلى 4.5 ملايين ليرة سورية، مما يجعل مدافئ الحطب هذه أيضا حكرا على ذوي الطَول، وغدا من يركّبها هم المترفون فقط، رغم أنها كانت -قبل أن يفتك النظام بما تبقى لهم من حول وقوة- مرفوضة لا يقبل بها عامة الناس.
ومن صور المأساة أن يعمد البعض من أجل تدفئة أطفاله الذين لا يحتملون البرد إلى تركيب مدفأة، لكنه يضع فيها بدل الوقود أكياس النايلون التي يجمعها من حاويات القمامة، وبإمكانك معرفة فداحة الأمر بمجرد السير في الشارع، لتخترق صدرك روائح النايلون المحروق والدخان الأسود الذي يؤذي الحيّ كلّه ولا يؤذي فاعله وحده.
قبل سقوط النظام، كانت المعضلة من شقين: الغلاء الفاحش للمازوت وعدم توفره، وبعد سقوط النظام مباشرة توفرت مادة المازوت بكميات كبيرة قادمة من لبنان ومن مناطق الجزيرة السورية، لكن هذا المازوت اتسم بسوء النوعية، فهو لم يخضع للمعالجة التكريرية المطلوبة، مما تسبب في سوء رائحته وتأثيراته الضارة على البيئة والمستخدمين.
هذا المازوت غالبا ما يباع على الأرصفة في مختلف شوارع وساحات دمشق، في عبوات سعتها 10 ليترات وسعرها 14 ألفا للعبوة الواحدة، وهو ما يقارب 14 دولارا، ورغم توفرها وسوئها، فإنّها أيضا ليست في متناول كثير من السوريين لعدم توفر السيولة المالية في أيديهم.
السوريون يتابعون أخبار النشرة الجوية، لكن لا تبهجهم أخبار المطر القادم ولا المنخفضات القطبية ولا الثلج ولا الجليد ولا صوت فيروز وهو يغني “تلج تلج عم تشتي الدنيا تلج”، وهي الأغنية التي كانوا يرددونها يوما ما بكل حبور وهم يتابعون صور الثلج أو المطر من جانب المدافئ التي كانت تشتعل قبل أن تغدو حلما ثقيلا.