التراث الإماراتي بين التحدي والاستجابة
خلال الأسبوع الماضي، راجعت كتاباً للمؤرخ والفيلسوف البريطاني «أرنولد توينبي»، تناول فيه العديد من الموضوعات المتعلقة بالحضارات وكيفية تطورها. ما شدني في قراءة «دراسة في التاريخ» هو نظرية التحدي والاستجابة التي قدمها توينبي، وهي فكرة أساسية تفسر كيفية تطور الحضارات من خلال مواجهتها للتحديات البيئية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وردود فعلها عليها. ووجدت أنه من خلال هذه النظرية يمكننا إعادة قراءة مشهد التراث الثقافي لدولة الإمارات، وخاصة في ظل التحديات المعاصرة التي يمكن أن تواجهها الهوية الإماراتية.
وفقاً لنظرية توينبي، الحضارات تتطور عندما تواجه تحديات كبرى، وتكون قدرتها على البقاء والنمو مرتبطة بطريقة استجابتها لتلك التحديات. عندما تواجه أمة تحدياً قوياً، سواء كان من الطبيعة أو من قوى اجتماعية أو سياسية، يتمثل النجاح في قدرتها على صياغة استجابة ملائمة تعزز من هويتها وتحفظ استمراريتها.
إذا نظرنا إلى التراث الإماراتي من خلال هذا المنظور، سنجد أن المجتمع الإماراتي قد واجه العديد من التحديات عبر تاريخه. من التحديات البيئية القاسية في الصحراء إلى التحديات الثقافية والاقتصادية التي نتجت عن العولمة والهجرة. الإمارات، بفضل تاريخها الطويل وقوتها الثقافية، استجابت لهذه التحديات بطرق مبتكرة ومؤثرة. واحدة من الاستجابات الواضحة هي إعادة صياغة التراث الإماراتي بطرق تحافظ على أصالته، مع دمجه في سياقات حديثة تجعل منه عنصراً حياً ومتجدداً.
مع نهايات القرن العشرين ومع بداية القرن الحادي والعشرين، واجهت دولة الإمارات، كما واجهت معظم دول العالم، تحديات سرعة العولمة والحداثة وتغلغلها في المجتمعات، والذي أدى إلى تدفق التأثيرات الثقافية الأجنبية. وهنا يبرز دور «التحدي والاستجابة» في الحفاظ على التراث الإماراتي وهويته. بدلاً من أن تُذوب الهوية الثقافية الأصيلة في بحور العولمة الغامضة، من خلال الرقابة والمتابعة والتخطيط لاستجابة خاصة فريدة، تقوم على الحفاظ على التراث الثقافي، وإحياء العادات والتقاليد والحرف اليدوية والمهرجانات الشعبية.
يشير توينبي، إلى أنه يمكن للتحديات أن تكون مصدراً للإبداع والتجديد أحياناً، وهذا ما يجب عمله بدقة متناهية، فيكون المراقب والمشرف والمختص قادراً على الفرز والتصنيف، والسماح لما يمكن تجديده وتحديثه من التراث، تحت عين المؤسسات والمختصين، أما ما لا يمكن تجديده فإبرازه بنسخته الأصلية، وبما يحافظ ويحمي الهوية الوطنية، وفي الحالتين، فهذه استجابة قوية وذكية للعولمة، تساعد على تعزيز التراث الشعبي والفلكلور كعناصر أساسية في الهوية الوطنية، وبما يسمح بانفتاح دولة الإمارات على العالم كمركز عالمي للتجارة والثقافة.
الفهم العميق لنظرية «التحدي والاستجابة» لتوينبي، يجعلنا نتأمل ونبحث في مدى قدرة التراث الثقافي الإماراتي على الاستجابة الإيجابية وليس استجابة سلبية للتغيرات السريعة التي جلبتها العولمة، ومن وجهة نظري كباحثة مختصة، فإنني أجد الاستجابة لغاية الآن هي استجابة إيجابية حيوية تتميز بقدرة تراثنا العريق على التجدد والتكيف مع متطلبات العصر دون أن يفقد جوهره. وقد يكون هذا هو السر الذي ساهم في نجاح الإمارات في الحفاظ على هويتها الوطنية وتوازنها بين الأصالة والحداثة. ونلاحظ ذلك دوماً في إحياء الحرف اليدوية التقليدية إضافة إلى المهرجانات التراثية الثقافية وكل المبادرات والفعاليات التي تعمل على صون التراث من النسيان، وتمنحه حياة جديدة من خلال تعزيز قيمته الثقافية والسياحية في الوقت نفسه.
المشهد التراثي الإماراتي يُظهر كيف يمكن استثمار نظرية توينبي «التحدي والاستجابة» في صياغة استراتيجيات ثقافية متجددة، لا تقتصر فقط على الحفاظ على الماضي، بل تسعى لجعل التراث جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدولة، وكذلك ينشط المعنيون، في جعل هذا التراث عالمياً، فقد سرّني بالأمس مثلاً، تدشّين معهد الشارقة للتراث نصباً تذكارياً لفن «العيّالة» الإماراتي العريق، في جزيرة نامي بجمهورية كوريا، ليمثل رمزاً للأصالة والتنوع الثقافي الغني الذي تتمتع به دولة الإمارات، ويكون جسراً حضارياً يعكس عمق التواصل الثقافي بين البلدين، وقد تم ذلك بحضور الدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، والسفير عبدالله سيف النعيمي سفير دولة الإمارات لدى كوريا، وفريد مين الرئيس التنفيذي لشركة جزيرة نامي للفنون والتعليم وقد سُميت الحديقة التي تم تدشين النصب فيها بحديقة «الإمارات».