“الحرب الدراسية”.. إسرائيل تواصل التحريض على المنهاج الفلسطيني
“لن تكون هناك سلطة مدنية تعلم أبناءها القضاء على دولة إسرائيل، ولا يمكن أن تكون هناك سلطة تدفع رواتب عائلات القتلة”
هكذا تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي مؤخرا وجه فيه اتهامات مباشرة للمناهج الفلسطينية واصفا إياها بأنها “مناهج إرهابية تغذي كراهية إسرائيل”.
وتناقش إسرائيل مع حلفائها بمزيد من التشكيك مسألة قدرة السلطة الفلسطينية على تولي زمام إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب لصالحها كما تأمل.
ولم تتوقف إسرائيل يوما عن استهداف المناهج الفلسطينية، بل تسخر لذلك طاقاتها وجهودها، فقد عمدت إلى فرض المنهاج الإسرائيلي في مدارس القدس، وقدمت مرارا مجموعة من المغريات لحث المدارس الفلسطينية على تبني هذا المنهاج، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتدخل إسرائيل في مضامين المنهاج الفلسطيني من خلال عملية مستمرة من أعمال الحذف والتشويه وخلق رواية تنفي صفة الشعب عن الفلسطينيين.
المنهاج الفلسطيني من منظور إسرائيلي
يدرك الساسة والمنظرون في إسرائيل بشكل جيد أهمية المناهج والكتب المدرسية في صقل الوعي المجتمعي، فغالبا ما تشكل المناهج منطلقا للصراعات السياسية والأيديولوجية بين الدول أو حتى في الدولة الواحدة، وترى إسرائيل في المنهاج الفلسطيني عاملا خطيرا في إطالة عمر الصراع، ودافعا لاستحضار العمق التاريخي لنضال الشعب الفلسطيني وسعيه للتخلص من الاحتلال، وحقه المشروع بإقامة دولته المستقلة.
ويتمثل خطر الإبقاء على المنهاج الفلسطيني من وجهة نظر إسرائيل بقدرته على تكوين روابط حقيقية بين المفاهيم الوطنية والكيانية الفلسطينية، كما يتصل ذلك بدور المنهاج في الحفاظ على الإرث الثقافي والمجتمعي كهوية وقيمة وطنية.
يأتي استهداف المنهاج الفلسطيني في قلب خطة إسرائيل الخمسية (2023-2028) التي وضعها وزير مالية الاحتلال “بتسلئيل سموتريتش” لأسرلة وتهويد القدس بمخصص مالي يبلغ 3 مليارات و200 مليون (889 مليون دولار) شيكل، وهنا يذكر الكاتب والمختص بشؤون القدس الأستاذ راسم عبيدات أن إسرائيل رصدت 800 مليون شيكل (222 مليون دولار) لأسرلة العملية التعليمية وحدها، أي ما يعادل 20% من الميزانية الكلية للخطة التي تأتي امتدادا لخطة سبقتها خلال الفترة 2018-2023 ولم تحقق هدفها المتمثل بأسرلة 90% من العملية التعليمية في القدس [1].
في هذا تأكيد صريح على مركزية قضية المنهاج الفلسطيني في خطة دولة الاحتلال، لكونه عنصرا أساسيا في جبهة الوعي والذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، وفي أسرلته اختراق وصهر للثقافة الوطنية الفلسطينية.
نضال نقابي مقدسي يواجه التطبيع والأسرلة
منذ وصول اليمين الإسرائيلي المتطرف بزعامة وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” إلى سدة الحكم توسعت رقعة استهداف عناصر العملية التعليمية الفلسطينية لتشمل الأنشطة اللامنهجية، إذ عمدت الحكومة المتطرفة إلى دمج المظاهر التطبيعية في الأنشطة اللاصفية في مدارس القدس، إذ تضمن حفل أقامته مدرسة الأفق في بيت حنينا رقصة على أغنية عبرية، كما تضمن حفل تخريج في مدرسة الوردية رفع علم الاحتلال على هامش عرض مسرحي قدمه مجموعة من الطالبات.
وقد رفض اتحاد أولياء أمور الطلبة المقدسيين ما وصفه ممارسات الاحتلال الرامية لكي الوعي والإضرار بالمصلحة الوطنية الفلسطينية.
وأكد الاتحاد إدانته لهذا المنحى الخطير من خلال عدة بيانات أصدرها، كما حمل المسؤولية للمرجعية الدينية الكنسية في مدرسة الوردية. في ضوء ذلك طالب اتحاد أولياء أمور الطلبة المقدسيين بإقالة الأب “إبراهيم فلتس” واستقالة المديرة “لوسي” من إدارة مدرسة الوردية.
ويقف اتحاد أولياء أمور الطلبة المقدسيين سدا منيعا في مواجهة الممارسات المخططة التي يقوم بها الاحتلال بحق الطلبة والكادر التعليمي في القدس، ويعول الاتحاد على الأهالي وأولياء الأمور بوقفتهم الجادة والحقيقية لمنع هذه المخططات الرامية لتفريغ مدينة القدس من قاطنيها الفلسطينيين. وفي وقت سابق من عام 2023 نفذ اتحاد أولياء أمور الطلبة المقدسيين خطوات نقابية تعبيرا عن موقفه الرافض لقرار بلدية الاحتلال دمج مدرستي العمرية والمولوية، ونقل طلبة مدرسة القادسية إليهما تمهيدا للسيطرة عليها وتحويلها للمستوطنين.
ويبذل الاحتلال جهودا كبيرة لتفتيت هذا الجسد النقابي وإقصائه، لا سيما بعد أن أكد الاتحاد عزمه تكليف فريق من المحامين والمستشارين القانونيين على خلفية استمرار سعي الاحتلال تحويل مدرسة القادسية (خليل السكاكيني) لمتحف إسرائيلي وشطب هذه المدرسة من قائمة المؤسسات التعليمية المقدسية إلى الأبد.
إلى جانب الإنفاقات المهولة على أسرلة المناهج، لجأت حكومة الاحتلال إلى استغلال تعدد المرجعيات الإشرافية لدى مؤسسات التعليم في القدس، فأغلقت مكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطينية في القدس بغية إنهاء مظاهر الدور الإداري للسلطة الفلسطينية على أرض القدس. وينسجم ذلك مع ما صرحت به مؤسسات دولة الاحتلال منتصف فبراير/شباط 2024 حول نيتها إنهاء أعمال منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في القدس لتبقى إسرائيل المرجعية الرقابية والإشرافية الوحيدة على مدارس ومؤسسات التعليم في القدس.
لقد أصبح اتحاد أولياء أمور الطلبة المقدسيين وحيدا في وجه هذه الإجراءات المتدحرجة الهادفة لتبديد الهوية العربية والإسلامية في المدينة وخلق واقع يتماشى مع تسويق نظرية الاحتلال.
مدارس مدينة القدس والمنهاج الذي تتبناه
تتعرض مدارس مدينة القدس لهجمات مستمرة تستهدف المحتوى المنهاجي الذي تتبناه بالدرجة الأولى. ففي عام 2023 شهدت مدارس مدينة القدس أعنف هجمة نفذتها سلطات الاحتلال بدواعٍ إشرافية إدارية وفنية، إذ نفذت وزارة المعارف الإسرائيلية وطواقم بلدية الاحتلال حملات دهم لمجموعة من المدارس تم خلالها تفتيش حقائب الطلبة بحثا عن كتب المنهاج الفلسطيني، في حين مُنع طلبة مدارس الأقصى من دخول بوابات المسجد المبارك بدعوى احتواء حقائبهم على مقررات تعليمية فلسطينية. وعلى الصعيد المقابل لا تتوقف إسرائيل عن تقديم شتى أنواع المغريات للمدارس لإنفاذ ما سمته المنهاج الفلسطيني المعدّل.
وتندرج المدارس في القدس ضمن 5 فئات :
- أولا: مدارس الأوقاف وتخضع هذه المدارس لمديرية التربية والتعليم في القدس كجهة إشرافية، وتعمل ضمن إطار وزارة التربية والتعليم الفلسطينية وتلتزم بالمنهاج الفلسطيني.
- ثانيا: المدارس الأهلية والخاصة، وهي المدارس التابعة للكنائس أو الجمعيات الخيرية أو مدارس أهلية وخاصة (تتبع أفرادا). وتلتزم المدارس بالبرامج التعليمية الفلسطينية والمنهاج الفلسطيني، رغم أن غالبيتها يعمل تحت ضغوطات إسرائيلية بسبب حصولها على مخصصات إسرائيلية شهرية.
- ثالثا: مدارس المعارف والبلدية، وهي المدارس التي تدار بشكل كامل ومباشر من دائرة المعارف الإسرائيلية وبلدية الاحتلال وتخضع لتطبيق المناهج الفلسطينية المحرفة وجزء منها يطبق فيها المناهج الإسرائيلية.
- رابعا: مدارس شبه معارف (مقاولات) وهي مدارس مرخصة أي معترف بها ولكن غير رسمية، ويطلق عليها أيضا اسم مدارس المقاولات؛ لأن إدارتها تتعاون مع المعارف الإسرائيلية وتلتزم بتعليماتها كاملة، لفتح صفوف في مبانٍ سكنية، وذلك مقابل مخصصات تتقاضاها من بلدية الاحتلال.
- خامسا: مدارس الوكالة، وهي المدارس التي تعمل تحت إدارة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وتلتزم بالنظام التعليمي الفلسطيني والمنهاج الفلسطيني. [2]
مشاهد من المحتوى المنهاجي الأصلي ونظيره المحرف
نستعرض فيما يلي بعضا من المقررات الدراسية المحرفة [3] وفيها تم استبدال عنوان “القُدْسُ مَدينَةُ السَّلام” ب”مَدينَةُ القُدْسِ عاصِمَةُ وَطَني فِلَسْطين”، و”القدسُ هي عاصِمةُ دولةِ إسرائيل” ب”القدسُ هي عاصِمةُ دولةِ فلسطين”، وطبريّا: بَلدَة يَهودِيَّة قَديمَة ب”طبريّا: بَلدَة فِلَسطينِيَّة قَديمَة” وتهدف المؤسسة الإسرائيلية من خلال ذلك إلى فصل القدس عن هويتها الفلسطينية وإحلال فكرة أنها مدينة متعددة القوميات والعرقيات.
وفي كتاب الرياضيات للصف السابع الأساسي [4] تم استبدال خريطة أوروبا التي تُظهر الفروق بدرجات الحرارة بين دول القارة الأوروبية بخريطة فلسطين التاريخية.
ولا تكتفي إسرائيل بالتحريف المباشر للمحتوى المنهاجي الفلسطيني، لا سيما المقررات الدراسية المعمول بها في مدارس القدس، بل تستمر بضغوطها على السلطة الفلسطينية من خلال عدة مؤسسات مانحة دولية. وبرغم المراجعات المستمرة التي تجريها السلطة الفلسطينية على المناهج تبقى المؤسسات المانحة منحازة إلى التوجه الإسرائيلي.
ونلاحظ في هذا المثال المأخوذ من كتاب الصف السابع، (ج1، طبعة 2017، ص 57)، [6] الذي يذكر “النقيفة” كواحدة من الأدوات الشعبية التي استخدمها الفلسطينيون في الدفاع عن مناطق سكناهم وممتلكاتهم من اعتداءات قوات الاحتلال في الانتفاضة، ليتم تعديل هذا النص في طبعة 2020 بنص آخر يكتفي بذكر “النقيفة” كأداة تراثية ليس لها علاقة بالانتفاضة إنما تستخدم للّعب واصطياد الطيور.
وأخيرا، لا بد من التأكيد على أهمية كشف مخططات الاحتلال ومؤسساته في حق العملية التعليمية بشكل عام والتزوير الروائي فيما يخص المحتوى المنهاجي لا سيما في مدارس مدينة القدس.
كما تبرز ضرورة الإشارة لحقيقة أن حماية المنهاج الفلسطيني هي مسؤولية جماعية يُنتزع فيها حق التعليم، ثم تحمل المسؤولية الوطنية بنقل رواية الأجداد والآباء إلى الأبناء والأحفاد [7]، فهي ليست مسؤولية السلطة الحاكمة التي قد تناور وفق رؤيتها السياسية ومصالحها الآنية.