الرباط التي أحببتها 2-2
بعض المدن تشبه صديقاً قديماً عرفناه في طفولة أعمارنا ثم تاه منا في الزمن،إنها كأولئك الأصدقاء تماماً، تشبه الأيام التي تظل عالقة على طرف القلب هي تستحق أن نلحق بها ونحن نستمهلها حتى نفرغ من غسل كل الأوعية التي امتلأت بأيامنا وتركناها تتسرب منا دون مبالاة، بعض المدن ضاعت من بين أيدينا إلى الأبد، وبعضها ما تزال تلوح لنا، فيما يشبه تلويحة الفرصة الأخيرة.
الرباط مدينة بسيطة في تكوينها الظاهري، لا جسور ولا أنفاق ولا ناطحات سحاب ولا أبراج من حديد وزجاج ومرايا، ولا زحام، ولا مجمعات فارهة ومدن إدارية ومدن سياحية، مدينة تطل عليها من شرفة غرفتك فتجدها خضراء من أولها لآخرها، من موج البحر الذي يتدحرج على ساحل المحيط حتى أغصان الغابات الملتفة والكثيفة والزاهية بخضرة نظيفة تلمع مع أشعة الشمس، كأنما بالكاد انتهت من تعليقها على حبال غسيل ممتدة في سماء المدينة.
أسواقها ليست حديثة ولا فاخرة ولا تحمل أسماء مخيفة يحرسها رجال أمن مدججون بثياب فاخرة وأسنان لامعة، ولكنك تجد فيها كل ما يمكن أن يجعل أيامك ممتعة، فإذا دخلت في أحشائها فاحت روائح التوابل والعسل والجوز والتمر والشاي الأخضر والنعناع الطازج، وأصوات لا تفهم ما يقول أصحابها لكنك تشعر بترحيبهم بك وقدرتهم على اجتذابك ببساطة.
تشتري كل ما تشاء بيسر وسهولة، وبنفس اليسر يمنحك الحظ فرصة التعرف كل يوم على صديق جديد، سرعان ما تجد نفسك على مائدة غدائه في اليوم التالي، دون تكلف ولا مبالغة، ألم أقل لكم بالأمس إنهم وارثو تقاليد أسلافهم المرابطين؟ ومن بين أحفاد هؤلاء وحدهم أولئك المحصنون بقلوبهم من نقشوا مودتهم في قلبي، حين مدوا صوبي أيادي مفتوحة باتساع محيط.
لقد حزنت وأنا أغادر الرباط، لم أشأ أن أترك ذلك الهواء الحلو وتلك القلوب الطيبة وذلك السير الذي لم يتوقف في كل مكان، شعرت بأنني لم أشبع من المدينة، كإنسان لا يريد لأيام البهجة أن تشرد أو تتسرب من بين يديه، لا يريد مزيداً من الشرود والغفلة أن يسطوا على المزيد من الوقت!