الروائي أحمد مسعود: الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ستكون ثقافية
![](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/D8B5D8B5D8B3-1739263237-780x470.jpg)
في ظل الحرب الإسرائيلية الأطول على غزة، وجد الأدباء والفنانون الفلسطينيون أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج: نقل معاناة شعبهم إلى العالم، ومحاولة الصمود وسط الألم.
في هذا السياق، استضاف برنامج “ريفريم” (إعادة صياغة)، الذي تقدمه الكاتبة فاطمة بوتو لقناة الجزيرة الإنجليزية، الكاتب والمخرج الفلسطيني أحمد مسعود، الذي نشأ في مخيم جباليا للاجئين ويكرّس أعماله لسرد القصص اليومية من فلسطين.
أحمد، الذي كتب رواية “مهما حدث” (Come What May) ذات الطابع البوليسي، والمسرحية الكوميدية السوداء “صانع الكفن” (The Shroud Maker)، تحدث عن تأثير الحرب على العائلات الفلسطينية، مستعرضا المأساة الشخصية التي عاشها بفقدان شقيقه خالد.
واستهل مسعود حديثه بكلمات مؤثرة عن مقتل شقيقه خالد في 22 يناير/كانون الثاني، عندما استهدفته طائرة مسيرة إسرائيلية من نوع “كوادكوبتر” أثناء ذهابه لشراء الخبز لعائلته. هذه الطائرة، التي وصفها بأنها مزيج بين الطائرة بدون طيار والمروحية، يُعتقد أنها تعمل بالذكاء الاصطناعي وتتخذ قرارات القتل ذاتيا.
ويقول مسعود “أُصيب خالد برصاص الطائرة المسيرة، وتقدّمت الدبابات إلى المنطقة، فظلّ ينزف في الشارع 3 أيام وسط القصف المكثف. ولم يتمكن أحد من الوصول إليه. وعندما استطاع أبناؤه وأبناء عمومته أخيرا سحبه، كان لا يزال على قيد الحياة، لكنه توفي أثناء نقله إلى المستشفى على عربة يجرّها حمار. ولو توفرت سيارة إسعاف أو مسعفون، ربما كان سينجو، لكنه لم يحظَ بهذه الفرصة”.
التعامل مع الألم
عن تجربة العيش في المنفى، يعترف مسعود بأنه لا يعرف كيف يتعامل مع مشاعره وسط هذه الأزمة، لكنه يرى في الكتابة ملاذا وعلاجا نفسيا يساعده على مواجهة الصدمة.
“أحاول أن أبقى قويا من أجل عائلتي، أقدم لهم الدعم العاطفي والمالي، وأساعدهم على البقاء على اتصال ببعضهم البعض. لكن في النهاية، الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يمنحني بعض الراحة. إنها تتيح لي التعبير عن تلك المشاعر المكبوتة، سواء في شكل قصيدة، أو قصة قصيرة، أو حتى مسرحية. الفن يسمح لي بتفريغ الألم، وتحويله إلى شيء يمكنني النظر إليه دون الشعور بنفس الجروح التي أحدثها”.
ويرى أحمد مسعود أن الفن هو مساحة للأمل وخلق عوالم بديلة، حيث يمكن للفنان أن يرسم واقعا جديدا أو يسائل الواقع القائم. ومن خلال الأدب والمسرح، يسعى إلى إلقاء الضوء على التجربة الفلسطينية بطريقة إنسانية تتجاوز العناوين الإخبارية الجافة.
ويؤكد مسعود أن الفلسطينيين لا يملكون سوى الأمل والقدرة على الحكي، مشددا على أن الرواية والشعر والمسرح ليست مجرد أدوات تعبير، بل هي أيضا أدوات مقاومة تحفظ الذاكرة وتنقلها للأجيال القادمة.
حفظ للذاكرة الفلسطينية
يرى الكاتب والمخرج الفلسطيني أحمد مسعود أن الفن شكل من أشكال المقاومة، وأن الكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل أداة للحفاظ على التاريخ الفلسطيني في وجه محاولات الطمس والتدمير. في حواره مع فاطمة بوتو، تحدث مسعود عن تأثير الحرب على غزة، وكيف تغيرت حياته ككاتب خلال العام الماضي، حيث أصبح حسابه على إكس (تويتر سابقا) منصة لتوثيق يوميات الحرب، كما بدأ في كتابة الشعر لأول مرة.
ويؤكد مسعود أن الكتابة أصبحت بالنسبة له رد فعل مباشر على الدمار الذي يحيط به، ويقول “لم أكن أكتب الشعر من قبل، لكنني بدأت ذلك عندما فقدت شقيقي، لأنني لم أستطع التعبير عن مشاعري في شكل مسرحية أو قصة لها حبكة ونهاية. لا توجد نهاية هنا، الأمر واضح: إنها إبادة جماعية. كيف يمكن للمرء أن يعبّر عن ذلك؟”.
وأشار إلى أن فقدان غزة التي يعرفها جعله عاجزا عن التعرف على المدينة التي نشأ فيها، مضيفا “لطالما كتبت عن غزة التي كانت، وأتمنى أن أكتب عن غزة التي ستكون، وليس عن غزة التي يراها الجميع اليوم في الأخبار، مجرد أنقاض ودمار”.
غزة التي كانت
عندما طلبت منه فاطمة بوتو أن يصف غزة كما يتذكرها، أجاب مسعود بحنين واضح: “كانت فوضى جميلة، تشبه نابولي إلى حد كبير. عندما زرت نابولي لأول مرة، شعرت أنني وصلت إلى نسخة أوروبية من غزة. كانت مدينة متوسطية مفعمة بالحيوية، بأزقتها الضيقة، وأسواقها، ومقاهيها، ومطاعمها، ومسارحها، ومراكزها الفنية. كان سكانها مبتسمين، يحبون المزاح، ويأكلون الكثير من الفلفل الحار”.
لكنه يوضح أن رحلته الأولى من مخيم جباليا إلى مدينة غزة كانت بمثابة صدمة ثقافية بالنسبة له، إذ نشأ في بيئة تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية مثل نظام الصرف الصحي، بينما وجد في المدينة عراقة التاريخ وجماله، من المسجد العمري الكبير الذي يعود للقرن السادس، إلى قصر الباشا العثماني.
فقدان التراث الثقافي في غزة
مع تدمير المسجد العمري وكنيسة القديس بورفيريوس، التي تُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم، تساءلت بوتو: كيف يمكن الحفاظ على التراث الثقافي لغزة؟
يرى مسعود أن الكتابة هي الوسيلة الأهم لحفظ هذا التاريخ، قائلا “الأدب هو الأثر الذي يبقى. بعد 200 أو 300 عام سيبقى الشعر والروايات والأعمال الفنية كشهادات على ما حدث. لدينا مسؤولية كفنانين فلسطينيين، وكحركة تضامن دولية، للحفاظ على هذه الذاكرة”.
وأضاف أن تجاهل الإعلام العالمي لتدمير المعالم الثقافية يزيد من ألمه، خاصة أن المسجد العمري كان جزءا من روايته “مهما حدث”، حيث دارت بعض أحداثها داخل أروقته.
وتحدث مسعود عن نشأته كلاجئ فلسطيني، حيث كانت القصص، التي يسمعها من والده وجدّه عن المنزل العثماني الفاخر الذي امتلكته العائلة في حين أصبح الآن لإسرائيل، جزءا من ذاكرته الجماعية. في المقابل، كان واقعه اليومي مختلفا تماما، إذ اعتاد الذهاب كل أربعاء لاستلام المساعدات الغذائية من وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، المكونة من الخبز والذرة واللحم المعلّب.
ورغم صعوبة الظروف المعيشية، كان منزلهم يعج بالكتب أكثر من الطعام، فقد درس والده الأدب العربي وكان شغوفا بالقراءة، مما جعل أحمد يتعرف على الأدب في سن مبكرة: “في سن التاسعة قرأت لينين، لأن والدي كان يساريا. وبحلول العاشرة، كنت قد قرأت جميع أعمال غسان كنفاني، الروائي الفلسطيني الذي اغتيل عام 1972 بسبب كتاباته. كان لدينا 4 مجلدات من كتب محمود درويش، وبدلا من شراء الطعام، كان والدي يشتري كتبا مستعملة من السوق”.
ويرى مسعود أن الأدب هو السلاح الذي سيضمن بقاء الهوية الفلسطينية حيّة، رغم كل محاولات الطمس والتدمير.، معتبرا الكتابة ليست مجرد توثيق، بل وسيلة للحفاظ على التاريخ الفلسطيني من الطمس. فبالنسبة له، القصص والأدب ليست مجرد خيال، بل هي واقع موازٍ يمنح الفلسطينيين القوة للبقاء، ويمنح العالم نافذة لفهم معاناتهم وتاريخهم.
ويؤمن الكاتب والمخرج الفلسطيني أحمد مسعود بأن الكتابة ليست مجرد أداة تعبير، بل هي وسيلة للبقاء والمقاومة في وجه محاولات الطمس والتدمير. وفي حواره مع فاطمة بوتو، ناقش مسعود كيف أصبح الأدب والفن في قلب المواجهة، ليس فقط عبر توثيق الفظائع، بل أيضا كآلية لمقاومة الإبادة الثقافية والوجودية للفلسطينيين.
مصير الأدباء والفنانين
يرى مسعود أن الكتاب والأدباء لا يملكون قوة عسكرية، لكنهم يمتلكون قوة الأمل، ويقول “الكتاب يصنعون عوالم جديدة، يفتحون الأفق لرؤية إمكانيات لم تكن تخطر على البال، ويقربون الحقيقة من الناس. لا أعتقد أن قصيدة غيّرت الحكومات، لكنها تصنع فرقا هائلا لأنها تمنح الأمل، وهو في حد ذاته قوة جبارة”.
وأضاف أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف الأدباء والشعراء والمترجمين عمدا، لأنهم قادرون على تغيير القلوب والعقول. وأشار إلى أن العديد من الكتاب في غزة تلقوا تهديدات مباشرة بالقتل من الجيش الإسرائيلي قبل أن يتم اغتيالهم، مما يعكس الخوف من تأثير الكلمة.
وعند سؤاله عن آماله، أجاب مسعود بأنه يؤمن بحل الدولة الواحدة، حيث يعيش الفلسطينيون والإسرائيليون على قدم المساواة، لكنه يرى أن التحدي الأكبر هو أن يُنظر إلى الفلسطينيين كبشر عاديين، وليس فقط كضحايا أو أعداء.
“نريد أن نُرى ككتاب، كأطباء، كمهندسين، كأكاديميين. نريد أن يُفهم أننا مجتمع كامل، فيه الخير والشر، الأبطال والأوغاد، وليس مجرد صور نمطية”.
وأشار إلى أن الفلسطينيين يوثقون يوميات حياتهم تحت الحصار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط للحديث عن الاحتلال، بل أيضا عن التحديات اليومية، مثل الغلاء الفاحش والاحتكار، مما يؤكد أن الفلسطينيين ليسوا مجرد “قضية”، بل شعب حيّ له تعقيداته الاجتماعية والاقتصادية.
دور المقاطعة الثقافية في المقاومة
عند مناقشة تأثير المقاطعة الثقافية لإسرائيل، أوضح مسعود أن العديد من الكتاب والفنانين حول العالم دعموا القضية الفلسطينية، لكنه شدد على أن هذا الدعم ليس كافيا.
“هناك كتّاب لم يتخذوا موقفا بعد، وليس لدي وقت لهؤلاء. يجب أن نستخدم الضغط الأخلاقي ونرفض التعامل معهم حتى يدركوا أن صمتهم مكلف”.
وعن الانتقادات التي ترى أن المقاطعة الثقافية “تقيد الحوار”، قال مسعود “عندما يكون هناك إبادة جماعية، لا يوجد مجال للحوار مع المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، خاصة أن معظمها مدعوم من الدولة وتشارك في تقديم عروض بالمستوطنات غير الشرعية”.
الانتفاضة الثالثة ثقافية
يعتقد مسعود أن الانتفاضة القادمة ستكون انتفاضة ثقافية، ويؤكد أن الإنتاج الثقافي الفلسطيني، سواء في المسرح أو السينما، شهد نموا كبيرا في العقد الأخير، حيث يتم إنتاج أفلام من فلسطين أكثر من تلك القادمة من سوريا ولبنان مجتمعتين.
“علينا حماية هذا الزخم الثقافي، لأنه رغم قتل العديد من الفنانين، فإن الفكرة والتأثير يجب أن يستمرا”.
وعندما طُلب منه ذكر نص ساعده على التعامل مع المجازر والدمار، أشار مسعود إلى أنه بدأ كتابة الشعر كرد فعل مباشر على مقتل شقيقه، لأنه لم يكن يستطيع صياغة الألم في حبكة أو قصة تقليدية، قائلا “ليس هناك التواءات حبكة درامية هنا، إنه واضح: إنها إبادة جماعية. كيف يمكنك التعبير عن ذلك؟”.