الساعي العجوز
يعد أناكساغوراس من أشهر فلاسفة اليونان، فهو من وضع مذهباً فلسفياً في أثينا، كاد يكون هو المذهب الأوحد، وبسبب ذلك المذهب تعرضت حياته للخطر، ودفع ثمن مذهبه حياته. ويدور مذهبه حول فكرة أن الكون لم يكن على حالته الحالية أول الأمر، فقد كان كتلة واحدة ممتزجة ببعضها بعضاً، ولكن دخلت قوى خفية، وبثت فيه روح الفوضى والحركة، ليتشكل ويتكون على الشكل الحالي. وتلك القوى سماها «العقل الكلي» أو «النوكس». وهذا «النوكس» كان له الفضل في خلق الكون على حالته الحالية، فقد بث نظاماً فوضوياً، أي أنه يعتمد على بعثرة الأشياء يميناً ويساراً، مما يجعل لكل شيء استقلالاً تاماً عن غيره، بعد أن كان مفهوم التمازج هو المذهب السائد.
ويقول الله تعالى في كتابة الكريم: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، أي أن لكل منهما حداً لا يعدوه ولا يقصر دونه، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان ذاك، فلكل منهما نظام ثابت، لا الليل سابق النهار ولا النهار سابق الليل، فكل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخٍ، وكأن أحدهما ينسلخ من الآخر. وباختصار، فهو خلق الخالق، لم يكن عبثاً ولا لعباً، ولا حتى فوضوياً،
فالقمر مثلاً كوكب أصغر من الشمس، ينير ليلاً ويرسل على الأرض ضوءاً يهتدي به الجميع، وينتفع بضوئه البحارة والمسافرون، ويختلف شكله حسب الشهور القمرية، أما عن النجوم فهي تلك الكواكب الكثيرة، التي نراها ليلاً منتشرة في السماء، ويختلف حجمها، فمنها ما هو أكبر من حجم الشمس، ولكنها ترى صغيرة لبعدها الشاسع عنا، ومنها أيضاً ما هو أصغر من الشمس، والذي يهمنا معرفته من هذه النجوم «النجم القطبي» الذي يظهر في جهة الشمال، لأنه به يهتدي المسافرون براً وبحراً، وبه تعرف الجهات الأصلية الأربع.
والحكمة فيما ورد أن لكل منا نظامه الخاص، وفلسفته الخاصة أيضاً، ونجمه القطبي الذي يهتدي به، والذي يختلف من شخص لآخر، ويحمل أوزار فلسفته، التي قد تودي بحياته مثل صاحبنا الفيلسوف أناكساغوراس! ولذلك اخترت أن تكون فلسفتي في الحياة بسيطة وبعيدة عن العقد الغريبة، التي ليس لها أساس من الصحة سوى في عقلنا الباطن.
هأنذا الساعي العجوز ما زلت أعيش في زمن البساطة، أحمل بريدي في حقيبة عتقت من كثرة التجوال، وكأن دهوراً قد مرت عليها وليس حقبة زمنية واحدة.، ولكن على رغم ذلك أعشقها وكأن هناك رابطاً بيننا، فلطالما أعدت ترميمها، بل أشعر أحياناً وكأن جلدها صنع من تجارب وخيبات أمل أصحاب الرسائل! ففي كل مرة أقف عند تلك التلة الجانبية، وتحدثني نفسي: أيها العجوز ما تحمله فاق طاقتك، كفاك فقد سقم جسمك، وهلك حالك، وبلغت بك المشقة، إلى متى وقد أصبحت خيوطك واهية، وثيابك بالية، من أثر السفر، وما زالت كل قرية تدلي بدلوها، وما زلت تحمل همومها على ظهرك.
سرعان ما يتلاشى كل ذلك عندما تصل سلسلة الذكريات إلى السيد آدم، فهو لا يقبل أن يستلم أحد المظاريف غيري طوال 30 عاماً، وما زال الحديث بين صد ورد وأنا أمشي في طرقات على غير هدى في انتظار المساء، والمساء في انتظار الصباح، وهكذا لا أحتاج لنجم قطبي لأجوب العالم. أحفظ هذه المدن عن ظهر قلب بين رعد لجب وسحاب لجب. أسافر لأنتقي أصحاب المظاريف، وأخرج أنقاها وأصدقها لأحملها على ظهري، وأجلبها للسيد آدم، رئيس تحرير صحيفة «يوهان كارولوس». تبدأ رحلتي في أول العام، وتنتهي في آخر العام، وفي كثير من الأحيان تكثر عليه المظاريف، وأقرر أن أكتفي بهذا القدر، وهذا العام قررت أن أكتفي بهذا القدر فحمل الحقيبة فاق قواي.
ومن بين هذا وذاك أضعت طريقي، ودخلت أقدامي إلى شارع مظلم، وسيدة عجوز ثمانينية أرجعتني بزيها ولباسها إلى ذلك الزمن، وتلك العصور الجميلة. لم يكن لباسها فحسب يشعرك بأنها تنتمي إلى تلك العصور، فمن خلال نافذتها أيضاً لك أن تتخيل أنها كانت تقيم في مبنى عتيق، تحمل شرفة كالنبلاء، في وقت اختفى فيه النبلاء.
توقفت وقلت لها: مساء الخير، أيتها النبيلة.
ضحكت وقالت: مساؤك لطيف، كإطرائك الجميل.
فقلت لها: إنك تقيمين في حصن منيع بإطلالة كالنبلاء، بشرفة عريضة نصفها الأول مكشوف، ونصفها الآخر مخفيّ، ووجهك الجميل يتوسطهما وكأنك في قصص مصورة.
بصوت خافت، قالت: أيها العجوز إن النبل لغة الذكاء،
النجابة والنباهة لا يتقنهما سوى أمثالك.