“الشوك والقرنفل”: كيف تصنع الرواية الوعي المقاوم؟

لا تكتب كل الروايات بالحبر؛ بعضها ينحت في الألم، وهناك نصوص تولد في المطابع، بينما تولد أخرى في الزنازين. رواية “الشوك والقرنفل” ليحيى السنوار، الصادرة في 9 ديسمبر 2025، هي عمل خرج من العتمة، لكنه أضاء الوعي أكثر مما أضاء الورق. هذه الرواية ليست مجرد قصة، بل هي وثيقة تاريخية واجتماعية تتناول موضوع المقاومة الفلسطينية من منظور إنساني عميق.
الرواية ليست حكاية للتسلية، بل تجربة تنقل للقارئ: من بيت أم مثقلة بالفقد، إلى مخيم ضيق، إلى زقاق مزدحم بالأطفال، وصولا إلى زنزانة تشهد كيف يصنع الإنسان المقاوم. تستكشف الرواية ديناميكيات الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال، وتتعمق في العوامل التي تدفع الأفراد إلى تبني مسارات مختلفة، بما في ذلك المقاومة والتعاون.
الأم.. البطل الغائب عن الغلاف
يلفت النص النظر إلى البطولة التي لا تظهر في المشهد النمطي؛ فالبطلة هنا ليست حاملة سلاح، بل امرأة حملت بيتين غاب رجالهما.. تطعم الفقر، وتربي الرفض، وتبعث أبناءها إلى الأزقة وهم يحملون ما تبقى من الكرامة. هذا التركيز على دور الأم يمثل تحولا في تصوير البطولة التقليدية، حيث يتم تسليط الضوء على القوة الخفية والتضحيات الصامتة التي تقدمها النساء في المجتمعات التي تعاني من الصراع.
بهذا المعنى، يعيد النص تعريف البطولة: المقاومة ليست قرارا فجائيا، بل نسيج تربية طويلة وصبر صامت. الرواية تقدم صورة واقعية ومعقدة للمقاومة، بعيدًا عن التبسيط والتنميط.
الخيانة كجرح اجتماعي
لا تجمل الرواية المخيم ولا تصوره كملاذ طاهر بلا عيوب، بل تسلط الضوء على هشاشاته عبر شخصية “حسن”: نموذج العميل الذي لم يسقط فجأة، بل عبر مسار انكسار طويل انتهى على يد أخيه المقاوم. هذا التصوير الدقيق لظاهرة الخيانة يثير تساؤلات حول العوامل التي تدفع الأفراد إلى التعاون مع الاحتلال، ويقدم تحليلاً نفسياً واجتماعياً معقداً لهذه الظاهرة.
هنا لا يحاكم النص فقط، بل يفكك الظاهرة: الحرب ليست على الحدود فحسب، بل في المناطق الهشة داخل المجتمع ذاته. الرواية تظهر أن الصراع لا يقتصر على المواجهة العسكرية، بل يمتد ليشمل الصراعات الداخلية والخلافات الأيديولوجية داخل المجتمع الفلسطيني.
لماذا لم يقاوم الجميع؟
تقدم الرواية إجابة غير مألوفة عن سؤال يغيب عن الشعارات: لماذا تراجع بعض الفلسطينيين، خصوصا بعد نكسة 1967، عن الفعل المقاوم؟ الرواية لا تقدم تفسيراً واحداً، بل تستكشف مجموعة متنوعة من العوامل التي يمكن أن تؤثر على قرار الأفراد بالمشاركة في المقاومة.
ثلاثة عوامل تتكرر في السرد:
- رخاء اقتصادي مؤقت أثر على الإرادة.
- احتلال ناعم هدأ الألم دون إزالة الاحتلال.
- هزيمة نفسية عمقت قناعة “لا جدوى”.
بهذا التحليل، تتحول الرواية إلى قراءة في سوسيولوجيا المقاومة أكثر منها وصفا للبطولة. الرواية تظهر أن المقاومة ليست مجرد فعل فردي، بل هي نتاج لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة.
يتوقف السرد عند أثر الشيخ أحمد ياسين، لكن ليس بوصفه شخصية سياسية، بل بوصفه نقطة انعطاف في الوعي: الإيمان ليس انسحابا، بل هو انخراط في الجبهة. هذا التركيز على الجانب الروحي والإيماني للمقاومة يضيف بعداً جديداً إلى فهم هذه الظاهرة.
رحلة مدرسية تتحول إلى مختبر وعي
من أجمل مقاطع الرواية مشهد الرحلة المدرسية إلى قرى 1948.. الرحلة ليست ترفيها، بل ممارسة تربوية كاملة: يدفع فيها ثمن الفقير بلا جرح لكرامته، وتستعاد أسماء القرى إلى الذاكرة، ويقسم الخبز على الجميع، ويقرأ التاريخ على الطريق. هذه التفاصيل الصغيرة تظهر كيف يمكن للتجارب اليومية أن تساهم في تشكيل الوعي المقاوم لدى الأجيال الشابة.
الحافلة هنا ليست وسيلة نقل، بل منصة لإدراك أن الأرض ليست خريطة، بل ذاكرة تتنفس. الرواية تظهر أن العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم ليست مجرد علاقة جغرافية، بل هي علاقة عاطفية وروحية عميقة.
ما وراء الغلاف
تفتح الرواية سؤالا مستقبليا لا يجيب عنه النص صراحة: من يصنع الإنسان الذي يقرر أن يقاوم؟ البيت؟ المخيم؟ المدرسة؟ المسجد؟ وتلك التجارب الصغيرة التي تمر قرب قرية مدمرة، فتوقظ شيئا في الداخل؟ الرواية لا تقدم إجابات سهلة، بل تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة المقاومة وكيفية تشكلها.
الرواية لا تمنحك إجابة مكتملة، بل تضع أمامك إشارات: هو جيل لم يبدأ بالرصاص، بل بالوعي، وبالخبز المقسوم على الجماعة، وبدمع أم لم يره أحد. الرواية تظهر أن المقاومة ليست مجرد فعل عنف، بل هي تعبير عن الإرادة والصمود والإصرار على الحياة.
لا تبدو “الشوك والقرنفل” رواية للقراءة فقط، بل وثيقة لتفكيك معنى المقاومة وكيفية تشكلها. إنها تقول إن المقاومة ليست لحظة تنفجر فجأة، بل نبتة تنمو ببطء.. شوك يؤلم، وقرنفل يفوح، وبينهما جيل يصنع طريقه في صمت. وبقدر ما تتحدث الرواية عن الماضي، فإنها تترك سؤالا معلقا: كم من القرنفل نبت في الخفاء؟ وكم من الشوك ينتظر دوره في الحكاية القادمة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.





