المحامي والإعلام.. أين ينتهي الحق ويبدأ الواجب؟

لم يعد ظهور المحامي في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مشهداً نادراً، بل أصبح ظاهرة يومية تتسابق فيها الأصوات لتفسير الأنظمة والتعليق على القضايا. وفي خضم هذا الحضور المتزايد، تتسلل اجتهادات غير دقيقة، تُقدَّم أحياناً على أنها يقين قانوني، بينما هي في الحقيقة نصوص مبتورة أو قراءات مجتزأة. ولعل الأخطر من ذلك حين يتحوّل الحديث عن العقوبات النظامية إلى مادة للتداول الإعلامي، تُذكر فيها أرقام وعقوبات بقطعيات لا تستند إلى تحقق، وكأن الحكم قد صدر سلفاً. هنا لا تتضرر المهنة وحدها، بل تتأثر ثقة المجتمع بالعدالة نفسها، حين تختلط الكلمة الإعلامية بالقرار القضائي.
وقد شدّد معالي وزير العدل رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمحامين الدكتور وليد الصمعاني، في مؤتمر المحاماة السعودي 2024، على أن أي طرح قانوني في وسائل الإعلام لن يُقبل مستقبلاً دون أساس نظامي صحيح، مبيّناً أن مثل هذه الآراء إذا كانت خاطئة أو غير دقيقة قد تؤدي إلى اهتزاز الثقة بالمهنة. وهو تأكيد رسمي على أن الضوابط الإعلامية للمحامين ليست تقييداً، بل حماية لجوهر المهنة وصوناً لثقة المجتمع في العدالة.
هذا الواقع، وإن كان يعكس تعطّش المجتمع لفهم القوانين، إلا أنه يكشف أيضاً الحاجة الملحة إلى ضوابط تُميّز بين التثقيف المسؤول والتشويش العابر. ومن هنا جاء تحرّك وزارة العدل، التي وضعت إطاراً واضحاً يوازن بين حق المحامي في التعبير وواجبه في صون المهنة وهيبتها. فالمحامي حين يتحدث في الإعلام لا يمثّل نفسه فقط، بل يقدّم صورة عن المهنة بأكملها. وإذا انزلق إلى التسرع أو البحث عن الأضواء، فإن الضرر يتجاوز سمعته الشخصية ليصيب ثقة المجتمع بالعدالة ومصداقية النص النظامي.
ويزيد من خطورة المشهد أن بعض المتدربين أو الخريجين الجدد يقدّمون أنفسهم على أنهم محامون أو مستشارون قانونيون، في حين أن هذه الألقاب لها ضوابط نظامية لا يجوز تجاوزها. هذا الخلط لا يضر فقط بالمهنة، بل يُضلل المجتمع الذي يبحث عن رأي قانوني مسؤول. كما أن استخدام لقب «مستشار قانوني» على نحو واسع من غير ترخيص أو صفة رسمية يفتح الباب أمام تضليل إعلامي يختلط فيه الرأي بالاختصاص. وفي ظل سعي البعض لإثبات حضورهم بأي وسيلة، يصبح الضبط هنا واجباً مهنياً لا مجرد خيار تنظيمي.
المجتمع يحتاج بالفعل إلى التثقيف القانوني، لكن التثقيف يختلف تماماً عن الاستعراض الإعلامي. فالتثقيف يقدّم المعرفة العامة بلغة واضحة منضبطة، أما الاستعراض فيميل إلى المبالغة أو انتقاء العقوبات لإثارة الانتباه. وهنا يظهر الدور المركزي للوزارة في أن تجعل الظهور الإعلامي أداة لبناء الوعي، لا منصة للتشويش. ومن المفيد هنا أن تُصاحب ضوابط الوزارة بعض الأدوات العملية التي تمنح الحضور الإعلامي قيمة مضافة، يمكن تلخيصها في خمس نقاط رئيسية:
1. إطلاق منصة رسمية للتوعية القانونية: تكون بإشراف خبراء معتمدين، لتقديم محتوى موثوق يُميّز التثقيف القانوني الرشيد عن الاستعراض الإعلامي العابر.
2. اعتماد مهني خاص بالظهور الإعلامي: يمنح المحامي الذي يرغب في الحضور الإعلامي شهادة موثوقة بعد اجتياز برنامج تدريبي، بما يضمن أن كلمته أمام الناس تضيف إلى الوعي العام ولا تُربك المشهد.
3. ميثاق شرف إعلامي: يلتزم فيه المحامون بعدم التطرّق للعقوبات أو القضايا المنظورة إلا وفق الضوابط، ليبقى الخطاب القانوني منضبطاً ويعكس هيبة العدالة لا سطحية الجدل.
4. ضبط استخدام الألقاب المهنية: بحيث لا يُستخدم لقب «محامٍ» أو «مستشار قانوني» إلا وفق الترخيص الرسمي من الوزارة، منعاً للخلط الذي يُضلل المجتمع ويُضعف ثقة الناس بالمهنة.
5. إبراز النماذج الملتزمة: عبر إتاحة مساحة أكبر إعلامياً للمحامين الذين يلتزمون بالضوابط، ليكونوا قدوةً في المشهد ويعيدوا التوازن المطلوب بين الحق والواجب.
إن وزارة العدل، حين وضعت هذه الضوابط، لم تضيق على المهنة، بل رفعت من مكانتها. فالمحاماة ليست مهنةً للبحث عن الأضواء، بل مهنة ذات رسالة عمادها الثقة والدقة. والظهور الإعلامي متى التزم بضوابط الحق والواجب، يصبح جسراً لتعزيز وعي المجتمع بالقانون، بدلاً من أن يكون ساحة استعراضية تُربك الناس وتشوه صورة العدالة.
أخبار ذات صلة