المستثمرون يراهنون على اضطرار المصارف المركزية لإرجاء تخفيضات الفائدة
يرجئ المستثمرون توقعاتهم بشأن خفض أسعار الفائدة حول العالم، إذ تعقّد مواجهة الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة لضغوط الأسعار، من خطط مصارف مركزية أخرى لتيسير سياساتها النقدية.
وقد كبحت الأسواق بالفعل تقديراتها حيال خفض المركزي الأوروبي، ومصرف إنجلترا لفائدتيهما، بالإضافة إلى فائدة الفيدرالي ذاته، في أعقاب صدور آخر مجموعة مخيبة للآمال من بيانات التضخم في الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، ذكر جيمس نايتلي، كبير خبراء الاقتصاد الدولي لدى «آي إن جي» في نيويورك: «ثمة بعد عالمي لمشكلة الفيدرالي مع التضخم، ولا يمكن للمصارف المركزية الأخرى تجاهل هذا الأمر»، وتابع: «على وجه الخصوص، فمن شأن عدم قدرة الفيدرالي على خفض الفائدة عما قريب تحفيز قوة الدولار، ما سيتسبب في ضغوط على الاقتصاد الأوروبي وقيود على مصارف مركزية أخرى في سعيها لخفض الفائدة، علاوة على ذلك، ثمة قلق من أن ما يحدث على صعيد التضخم في الولايات المتحدة قد تشهده أوروبا بدورها».
وذهب مسؤولون لدى المركزي الأوروبي، ومصرف إنجلترا، إلى أنهم لا يجابهون مشكلات التضخم ذاتها مثل الولايات المتحدة، ما يشي بتمتعهم بمجال أكبر لخفض الفائدة في وقت أبكر، لكن التغيرات التي تطرأ على السوق تشير إلى التداعيات العالمية الناجمة عن استمرار مشكلة التضخم في الولايات المتحدة. ويرجح المتداولون حالياً، خفض المركزي الأوروبي للفائدة بمتوسط يبلغ نحو 0.7 نقطة مئوية هذا العام، اعتباراً من اجتماع السياسة التالي الذي ينعقد في 6 يونيو، في حين كانوا يرجحون منذ أسبوعين تقليصاً إجمالياً للفائدة قدره 0.88 نقطة مئوية.
واتجهت تقديرات المتداولين في بداية العام، عندما بدا التضخم الأمريكي وكأنه يسلك مساراً هابطاً متماسكاً، إلى تخفيض الفائدة بواقع 1.63 نقطة، لكن الأسواق تتحسب حالياً إلى خفض مصرف إنجلترا للفائدة 0.44 نقطة مئوية هذا العام، مقابل 0.56 نقطة قبل أسبوعين، ومقارنة باتجاه التقديرات نحو 1.72 نقطة في بداية العام.
تعزى هذه التغيرات إلى تقليص السوق لتوقعاتها بشأن الفيدرالي، الذي يرجح تثبيته للفائدة عند أعلى مستوياتها منذ 23 عاماً في اجتماع هذا الأسبوع. وفي بداية 2024، توقع المستثمرون خفض الفيدرالي للفائدة بما يصل إلى ست مرات هذا العام، كل واحدة بقيمة ربع نقطة مئوية، بيد أنهم يرجحون خفضين اثنين فقط في الوقت الراهن.
وتباينت مواقف الولايات المتحدة ونظرائها الأوروبيين فيما سبق، لكن المناطق الأخرى ستواجه خطر الإضرار باقتصاداتها إذا قلصت فوائدها على نحو أكثر صرامة مقارنة بالفيدرالي، إثر تداعيات القرارات على أسعار الصرف وتكاليف الواردات والتضخم.
قال ناثان شيتس، كبير خبراء الاقتصاد لدى مصرف سيتي الأمريكي: «هناك احتمالية جيدة بوقوع تباعد من حيث الاقتصاد الكلي، لكن هناك حد للمدى الذي قد يصل إليه هذا التباعد». وذكر شيتس أن الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للمركزي الأوروبي لدى خفض الفائدة على نحو صارم في بيئة يتريث فيها الفيدرالي.
وأكد جيروم باول، رئيس الفيدرالي، هذا الشهر، أن التضخم الأمريكي يستغرق وقتاً أطول من المتوقع لكي يبلغ مستهدفه، ملمحاً إلى أن تكاليف الاقتراض قد تحتاج لأن تظل مرتفعة لأمد أطول مقارنة بما كان يعتقد سابقاً.
وفي البيانات الصادرة منذ أيام، سجل مؤشر التضخم المفضل لدى الفيدرالي مستويات فاقت التوقعات عند 2.7% في مارس على أساس سنوي، وتراهن حفنة ضئيلة من المتداولين حالياً على رفع الفيدرالي للفائدة في غضون 12 شهراً.
ويعتقد مارسيللو كارفاليو، رئيس قسم الاقتصاد العالمي لدى «بي إن بي باريبا»، أن المركزي الأوروبي ليس معتمداً على الفيدرالي ولا بمعزل عنه.
ورغم أن توقعات الأسواق بأن ارتفاع تكاليف الاقتراض سيحد من حرية حركتها، لكن يصر كبار مسؤولي المركزي الأوروبي على أن مشكلة التضخم الأقل خطورة تتطلب استجابة مختلفة.
وقالت كريستين لاغارد، رئيسة المركزي الأوروبي في واشنطن هذا الشهر:«إنه حيوان من نوع آخر نحاول ترويضه». وأسهبت لاغارد في بيان اختلاف جذور ومحركات زيادات الأسعار في كلتا المنطقتين، منوهة بأن أوروبا كانت أكثر تأثراً بتكاليف الطاقة، فيما تأثرت الولايات المتحدة بالعجز المالي الكبير.
من ناحية أخرى، أوضح أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، أن ديناميكيات التضخم الأوروبي مختلفة بعض الشيء عن تلك الأمريكية.
وسلط كبار مسؤولي المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، الضوء على خفضهم الفائدة هذا الصيف، رغم بيانات التضخم التي أدت بالمستثمرين إلى توقع خفض الفيدرالي الفائدة للمرة الأولى في نوفمبر.
ويعد هذا التحول تناقضاً ملحوظاً بالمقارنة بوقت مبكر من العام الجاري، حينما كان يعتبر الفيدرالي في صدارة المصارف المركزية التي ستخفض الفائدة.
ولفت محمود برادهان، رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي لدى «أموندي أسيت مانجمنت»، إلى أن المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، يعملان في بيئة نمو أكثر ضعفاً، وأنهما لن يشعرا بالندم إذا خفضا الفائدة في وقت مبكر.
ومع ذلك، فقد أدلى مسؤولو المركزي الأوروبي بتلميحات متباعدة بشأن مدى كبر فجوة الفائدة التي قد يتسامحون معها مقارنة بالفيدرالي.
وصرح فرانسوا فيليروي دي غالاو، محافظ المركزي الفرنسي، لصحيفة ليزيكو الفرنسية، بأنه يتوقع استمرار خفض الفائدة بوتيرة برغماتية بعد يونيو. ومع ذلك، حذر روبرت هولزمان، محافظ المركزي النمساوي:«أجد صعوبة في الجنوح بعيداً عن الفيدرالي».
وانخفض اليورو بنسبة 3% مقابل الدولار منذ بداية العام إلى ما يتخطى مستوى 1.07 بقليل، لكن عزز المستثمرون من رهاناتهم على استمرار خسائره ليصل إلى مستوى التعادل مع العملة الأمريكية.
وأفاد بحث صدر حديثاً عن المركزي الأوروبي، بأن هذا التراجع من شأنه زيادة تضخم منطقة اليورو بنحو 0.3 نقطة مئوية على مدى العام المقبل. وقال لويس دي غويندوس، نائب رئيسة المركزي الأوروبي هذا الأسبوع، بأن المصرف سيحتاج لأن يضع في اعتباره تأثير تحركات أسعار الصرف.
ويتبدى التأثير واسع المدى للسياسة الأمريكية بشدة في اليابان، حيث تزداد رهانات المستثمرين على حاجة المركزي لمواصلة رفع تكاليف الاقتراض، مع تعزيز ضعف الين للتضخم. يشار إلى هبوط الين لأدنى مستوياته منذ 34 عاماً أمام الدولار، ما تسبب في ازدياد أسعار السلع المستوردة.
ومع ذلك، يشير بعض صانعي السياسة في الاتحاد الأوروبي، إلى أن تبني الفيدرالي موقفاً أكثر تشدداً وتسببه في ضيق الأوضاع المالية العالمية، سيعضد مسألة تيسير السياسة في منطقة اليورو ودول أخرى.
سيكون تشديد السياسة في الولايات المتحدة ذا تأثير سلبي على تضخم وإنتاج منطقة اليورو، حد تعبير فابيو بانيتا، محافظ المركزي الإيطالي الخميس الماضي، مضيفاً أن هذا من المرجح أن يعزز احتمالية خفض الفائدة لا أن يضعفها.
وتؤثر السياسة الأمريكية الأكثر تشدداً على أسواق السندات العالمية، إذ تحذو تحركات السندات الحكومية الألمانية لأجل 10 أعوام حذو تحركات سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 أعوام.
وإذا ما ارتفعت عوائد السندات الأوروبية بمقدار نصف نقطة مئوية جراء تأثرها بالأسواق الأمريكية، فسيتطلب تعويض تأثير ضيق الأوضاع المالية خفضاً قدره 0.2 نقطة مئوية للفائدة من جانب المركزي الأوروبي، حد تقديرات «بي إن بي باريبا». وبالمثل، فسيتطلب الأمر تخفيضات إضافية قدرها 0.13 نقطة مئوية من جانب مصرف إنجلترا.
ولفت توماش فيلاديك، الخبير الاقتصادي لدى «تي رو برايس» في لندن، إلى أن المركزي الأوروبي ومصرف إنجلترا، سيحتاجان للتصدي بنشاط لهذا الضيق في الأوضاع المالية العالمية لكي تكون أوضاعهما المالية المحلية أكثر توافقاً مع الأساسيات في اقتصاداتهما.