المشاحة في الاصطلاح: تفكيك المسلمة نحو تأسيس للصرامة الدلالية

لا جرم من القول، إن في ركام الخطابات الفكرية والفقهية واللسانية التي راكمها العقل العربي والإسلامي، ما تنبعث من زمن بعيد مقولة ترددت على ألسنة العلماء والمشتغلين في الحقول المعرفية المختلفة، حتى غدت وكأنها مسلمة لا تستوجب تمحيصا ولا مساءلة: (لا مشاحة في الاصطلاح) وقد جرى الترويج لها على نحو يوهم بأن الخلاف الاصطلاحي أمر عرضي هامشي لا ينفذ إلى صلب المعنى ولا يغير في بنية الفهم، بل لا يعدو كونه تفاوتا في التعبير عن مضمون واحد. غير أن هذه المقولة، عند تفكيكها، تكشف عن هشاشة معرفية ومخاتلة دلالية تسهم في ترسيخ الفوضى المفهومية، وتعطل إمكانات التواصل العلمي والاتساق النظري.
وإذا شئنا أن نجاوز مظاهر السطح إلى باطن النسق المفاهيمي، فإننا ملزمون بأن نعيد للمصطلح مكانته بوصفه كيانا بنيويا لا يؤتى إلا من داخله. إن المصطلح، في جوهره، ليس مجرد وعاء لفظي يسعف التعبير أو يجمله، بل هو نقطة تقاطع حاسمة بين اللغة والمعنى والمنهج، أي إنه بنية دلالية مغلقة تملك سلطة تأويلية تعيد تشكيل الواقع في أفقها الخاص لا العكس. فحين يطلق مصطلح على شيء ما، فإن هذا الإطلاق لا يكون بريئا ولا محايدا، بل هو فعل امتلاك معرفي يدرج المفهوم داخل شبكة من التحديدات الدلالية التي تمنح التأويل طابعا تملكيا لا يقبل الشراكة. ومن ثم، فإن القول بعدم المشاحة في الاصطلاح لا يعبر إلا عن استخفاف بطبيعة الاصطلاح ذاته، وإغفال لعلاقته البنيوية بالمعرفة، وكأن المفاهيم تعبر عن ذاتها دون أن يغير الاصطلاح بنيتها أو يعيد إنتاجها.
تطور المصطلح
ومن هذا المنطلق، لا يجوز لنا أن نساير خطابا يتخفى وراء الاستبدالات المعجمية فيغفل عن أن المفردات ليست أشكالا بل آليات إنتاج معرفي. لقد خضعت المصطلحات في نشأتها وتطورها لاختبارات أبستمولوجية دقيقة فرضتها العلوم الوضعية والإنسانية على حد سواء، بغية ضبط استعمالها وتحديد صلاحياتها التداولية داخل الحقول المختلفة. فليس من المباح معرفيا أن تستبدل مفردة بأخرى لمجرد تشابهها الظاهري أو توافقها المعجمي، لأن هذا الخلط يفضي إلى ضلال دلالي، وينتج خطابا هشا يعجز عن ضبط حدوده المعرفية. وليس عبثا أن يتحول الحقل السياسي أو القانوني أو الفقهي إلى فضاء مملوء بالضجيج الاصطلاحي، حين تطلق المصطلحات دون التزام بمعايير البناء والانضباط، فتغدو الكلمات رغاء لا معنى له، وتفقد المفاهيم سلطتها التفسيرية لصالح تشويش فكري مريع.
ولعل المسلك التأويلي الذي زجت فيه مقولة “لا مشاحة في الاصطلاح” خير شاهد على خيانة سياقها ومحو قيدها. إن المقولة الفقهية التي ظهرت في سياقات محددة لدى بعض العلماء كابن قدامة وغيره، كانت تتعلق بالخلافات اللفظية التي لا تمس جوهر الأحكام الشرعية، بل تدور حول التسمية أو الصيغة. لكنها حين سحبت من سياقها الفقهي المخصوص، وجرى تعميمها لتشمل كل الحقول المعرفية، وقعت في مغالطة كبرى. فليست كل الخلافات اللفظية محايدة أو سطحية؛ فبعضها ينهض على خلفيات فلسفية وتصورات أنطولوجية متباينة، تجعل من التباين الاصطلاحي مسألة جوهرية لا شكلية.
إنا إذ نقر بهذه الحقائق لا نسعى إلى تضييق مجالات الإبداع، بل نروم تحصين فضاء الفكر من فوضى الدلالة وعبث التلقي. بل إن المصطلح، في بنيته العميقة، يعيد إنتاج المفهوم داخل منظومة رمزية مغلقة تشكل أفق الفهم والتحليل، وتحدد طرائق الإدراك والتمثيل. ولذلك، يصبح الصراع على المصطلح صراعا على سلطة التأويل، لا على التعبير اللفظي. فالتسمية ليست مجرد إحالة لغوية، بل هي فعل تأسيسي، يدرج الموضوع داخل نظام معرفي بعينه، ويقصي التأويلات الأخرى. من هنا، فإن التساهل في التعاطي مع المصطلحات، أو تبرير الخلط بينها، لا يمكن أن يفهم إلا كنوع من القصور المعرفي أو التواطؤ الأيديولوجي، لاسيما حين تستثمر المصطلحات في الخطابات السياسية والإعلامية لتزييف الوعي وتوجيه الرأي العام، كما هو الحال مع مفردات مثل الإصلاح، الإرهاب، الديمقراطية، الاستقرار وغيرها.
الانضباط المصطلحي
وإذا كان البعض يتذرع بأن الانضباط المصطلحي قيد على الحرية، فإننا نرد عليه بأن الحرية التي لا تصدر عن تماسك مفهومي تفضي إلى انحلال الفكر. إن الانضباط الاصطلاحي، بهذا المعنى، ليس تقييدا للحرية الفكرية، بل هو شرط إمكانها. فلا فكر دون وضوح، ولا جدل دون تمييز، ولا إنتاج معرفيا دون اتفاق على المفاهيم وحدودها. والمصطلح، حين يبنى على وعي نظري وسياق تاريخي، يغدو أداة للتفكير لا عبئا عليه. أما حين يترك سائبا، فسرعان ما يتحول إلى معوق للتراكم العلمي، ومسوغ للخلط المفاهيمي. وهكذا، تظهر التجربة الفكرية عبر العصور أن اللامشاحة في الاصطلاح ليست سوى مقولة تسوغ الفوضى، وتعفي من مشقة التدقيق والتفكيك، فتنتج خطابا بليدا لا يستحق صفة الفكر.
لذا نقول، أما آن لنا أن نكف عن الاحتفاء بهذه المقولة التي أفرغت من سياقها وتم تحويلها إلى ذريعة لإسقاط المعنى، وتسويغ العجز النظري، والاحتماء بالمجاز في مواضع الحسم الدلالي؟ أما آن للفكر أن يستعيد مشاحته؟ فالمشاحة ليست خصومة لغوية، بل هي صراع على المعنى، على الحقيقة، على القول الممكن داخل عالم تعاد فيه هندسة الواقع من خلال لعبة المصطلحات. إننا لا نختلف حول الألفاظ، بل نتصارع على أنماط تأويلها، ومفاتيح استخدامها، وشروط سريانها في الحقول المختلفة.
وفي خضم هذا التفكك الدلالي، لا مناص من أن نعيد تحديد موقعنا من المصطلح، لا كلفظ، بل كبنية نسقية تتأسس عليها سلطة المعنى. إن اللحظة الفكرية الراهنة، بما تشهده من انزياحات دلالية وتسيب تأويلي، تفرض علينا أن نعيد تمركزنا حول الاصطلاح، لا بوصفه هامشا بل باعتباره مركز الصراع المعرفي، وساحة التأويل الكبرى التي منها يعاد إنتاج المعنى وتشكيل الأنساق. ولن يكون ذلك ممكنا ما لم نعلن، بوضوح، أن المشاحة ضرورة منهجية، وأن كل تخل عنها هو اصطفاف مع العجز، وتنازل عن أداة الفهم، وارتكاس إلى ما قبل اللغة.
صفوة القول إن دفاعنا عن مركزية الاصطلاح ليست معركة لغوية سطحية، بل هي معركة على سلطة الفهم وبنية المعنى. ومن يتنازل عن المصطلح، يتنازل من حيث لا يدري عن القدرة على تشكيل المفاهيم وتوجيه الفكر. ومن هنا، فإن نقد مقولة “لا مشاحة في الاصطلاح” هو نقد لليونة الزائفة التي تدعي الحياد، بينما تخفي خلفها نزوعا إلى إفراغ الفكر من حدته ومنطقه. وبهذا فان المشاحة ليست خصومة شكلية، بل هي دفاع عن جوهر المعنى، وعن المعركة المعرفية التي تدور في باطن اللغة، لا على سطحه.