الهند في مرمى ترامب وباكستان تعود للواجهة

تشهد السياسة الخارجية الأميركية تجاه جنوب آسيا تحوّلات بارزة خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، مع تغيّر واضح في التعامل مع كلٍّ من الهند وباكستان.
فبينما كانت الهند تُعتبر حليفا أساسيا لمواجهة النفوذ الصيني، بدأت مؤشرات الفتور تظهر في العلاقة بين واشنطن ونيودلهي، تزامن مع ذلك خطوات أميركية نحو تعزيز علاقاتها مع باكستان.
وقد فتح هذا التحول المفاجئ الباب أمام سلسلة من التساؤلات: ما الذي يدفع ترامب إلى الابتعاد عن الهند، الحليف الذي راهنت عليه واشنطن لعقود طويلة، ويقترب من باكستان، الدولة التي لطالما وُصفت في الدوائر الأميركية بأنها “شريك صعب”؟
والأهم من ذلك، كيف سينعكس هذا التحوّل على استقرار جنوب آسيا؟ وما موقعه في إطار الصراع الأوسع بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ الإقليمي والدولي؟
الهند.. من الشراكة إلى المواجهة
أبرز مظاهر الفتور كان تجاريا، فقد فرض ترامب تعريفات جمركية بدأ سريانها اعتبارا من 27 أغسطس/آب وتصل إلى 50% على سلع هندية أساسية مثل المنسوجات والمجوهرات والمأكولات البحرية.
وقد أصابت هذه الإجراءات قطاعات التصدير الهندية بالشلل الجزئي، ودفعت الروبية إلى أدنى مستوياتها التاريخية أمام الدولار.
بالنسبة لواشنطن، كان الهدف المعلن هو “حماية الصناعات الأميركية” ومعاقبة الهند على ما تصفه بسياسات “غير عادلة” مثل الحماية الزراعية واستيراد النفط الروسي رغم العقوبات.
ورغم أن الولايات المتحدة هي أكبر سوق تصدير للهند، بصادرات بلغت 87.4 مليار دولار في 2024، فإن ذلك لا يمثل سوى 2% من الناتج المحلي الإجمالي الكلي للهند.
ازدادت حدة التوتر بين واشنطن ونيودلهي عندما صعّد الرئيس ترامب لهجته منتقدا اعتماد الهند على النفط الروسي، متهما إياها بشكل مباشر بأنها تسهم في تمويل حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
غير أن الرد الهندي لم يتأخر، إذ شددت نيودلهي على أن وارداتها من النفط الروسي ليست خيارا سياسيا بقدر ما هي ضرورة اقتصادية تضمن استقرار أسواق الطاقة، مؤكدة في الوقت نفسه أنها ستواصل هذه المشتريات طالما أنها تحقق “مصلحة مالية مباشرة”.
ومنذ اندلاع الحرب الشاملة في أوكرانيا عام 2022، رفعت الهند وارداتها من الخام الروسي بشكل ملحوظ، حتى أصبحت تمثل قرابة 37% من مجمل الصادرات النفطية لموسكو، بحسب تقديرات شركة “كاساتكين كونسالتنغ” الروسية.
يشير محللون اقتصاديون إلى أن هذه الرسوم، التي تراوحت بين 10% و25% حسب المنتج، ليست مجرد أداة مالية، بل تحمل “رسائل سياسية” مفادها أن الهند لم تستجب لتوقعات واشنطن في مجالات الإنصاف التجاري وحماية الملكية الفكرية.
وفي هذا السياق، أشار تقرير صادر عن “مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن” إلى أن هذه الإجراءات الجمركية قد تؤدي إلى تباطؤ الصادرات الهندية بنسبة تتراوح بين 5 و7%، وهو ما يخلق ضغوطا على الميزان التجاري بين البلدين.
وقدّرت “سيتي غروب” أن الرسوم الجمركية البالغة 50% تمثل خطرا سلبيا يتراوح بين 0.6 و0.8 نقطة مئوية على نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي.
وقال أجاي سريفاستافا، مؤسس مركز أبحاث “مبادرة التجارة العالمية” ومقره نيودلهي: “هذه صدمة إستراتيجية تهدد موطئ قدم الهند طويل الأمد في الأسواق الأميركية كثيفة العمالة، وتخاطر بتفاقم البطالة في مراكز التصدير، وقد تضعف مشاركة الهند في سلاسل القيمة العالمية”.
وأضاف أن المنافسين قد يستفيدون “مما قد يؤدي إلى إقصاء الهند من أسواق رئيسية حتى بعد رفع الرسوم الجمركية”.
ويرى خبراء اقتصاديون أن فرض الرسوم الجمركية على الهند هو جزء من إستراتيجية ترامب لإعادة التوازن التجاري وضمان مصالح واشنطن الاقتصادية، مع الضغط على نيودلهي للانفتاح أكثر على الاستثمارات الأميركية.
هذه السياسة تكرّر أسلوب ترامب المعروف وهو استخدام الاقتصاد كسلاح ضغط سياسي. لكن على مستوى العلاقة الثنائية، أدّت إلى اهتزاز الثقة وتآكل المكاسب التي تحققت في العقد الأخير عبر اتفاقيات الدفاع والتكنولوجيا.
كشمير عقدة سياسية مستمرة
أعربت الإدارة الأميركية عن “تخوفها من التصعيد في كشمير بعد سياسات نيودلهي الأخيرة”، وهو ما دفع صانع القرار الأميركي إلى إعادة تقييم الأولويات الإستراتيجية في جنوب آسيا، وربما النظر في خيارات أخرى لتوازن النفوذ في المنطقة.
وبينما ترفض نيودلهي أي تدخل خارجي في القضية، وتعتبرها شأنا داخليا صرفا، لم يتردد ترامب في التلويح بالوساطة بين الهند وباكستان، خصوصا بعد التوترات الحدودية الأخيرة.
وبالنسبة للهند، هذه تصريحات تمثل تجاوزا لخط أحمر سيادي، وهنا يتضح الفارق حيث إدارة بايدن السابقة كانت حذرة جدا في هذا الملف، أما ترامب في ولايته الثانية فيسعى إلى الظهور بمظهر “صانع الصفقات الدولية”، حتى لو جاء ذلك على حساب حليف إستراتيجي.
تغيّر الحسابات الإستراتيجية
خلال العقد الماضي، كان يُنظر إلى الهند باعتبارها حجر زاوية في الإستراتيجية الأميركية لاحتواء الصين في المحيطين الهندي والهادي، لكن ترامب يبدو أقل التزاما بهذا التصور، فبراغماتيته الاقتصادية جعلته يتعامل مع الهند بوصفها منافسا تجاريا مزعجا أكثر من كونها شريكا إستراتيجيا.
هذا التحول أثار قلق دوائر السياسة الخارجية الأميركية، حيث يحذر بعض الخبراء من أن استمرار الضغط قد يدفع الهند إلى تعزيز روابطها مع الصين أو روسيا، مما سيُفقد واشنطن ورقة بالغة الأهمية في مواجهة بكين.
أوضح مؤسس ومدير مجلس الأبحاث الإستراتيجية والدفاعية هابيمون جاكوب في مقال نشرته صحيفة “هندوستان تايمز” أن احتمالات اندلاع مواجهة خطيرة بين الهند والصين قد تكون محدودة في الوقت الراهن، غير أن الحديث عن تقارب دائم بين الجانبين يبدو بعيد المنال.
فثقة نيودلهي في نية بكين تظل هشة، خاصة في ظل السلوك العسكري الصارم الذي تنتهجه الصين في مناطق حساسة مثل بحر جنوب الصين وتايوان.
🔹 أعلنت الهند والصين استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد أكثر من خمس سنوات من الانقطاع، في خطوة تعكس رغبة البلدين في ترميم العلاقات الثنائية وسط تصاعد الضغوط الاقتصادية الأميركية.
🔹جاء الإعلان على لسان رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” خلال لقائه بالرئيس الصيني “شي جين بينغ”… pic.twitter.com/iGRbMYUD7H
— الجزيرة نت | اقتصاد (@AJAeconomy) September 1, 2025
التقارب مع باكستان
على النقيض، تشهد العلاقات الأميركية الباكستانية مؤشرات إيجابية على صعيد التعاون الأمني والعسكري. فقد زار قائد الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير، الولايات المتحدة مرتين خلال الأشهر الأخيرة، حيث ناقش مع المسؤولين الأميركيين “برامج الدعم العسكري والتدريب المشترك، وتعزيز قدرات باكستان في مكافحة الإرهاب”.
ويؤكد محللون أن هذه الزيارات تمثل “إعادة باكستان إلى موقع محوري في الحسابات الأميركية” بعد سنوات من التوتر والابتعاد، خاصة في ظل الدور الحيوي الذي تلعبه باكستان في أفغانستان ومحاربة الجماعات التي تصفها واشنطن بالإرهابية العابرة للحدود، مثل طالبان باكستان وتنظيم الدولة.
يقول إيليان بليتر مراسل صحيفة نيويورك تايمز في إسلام آباد “من الواضح أن باكستان قد استعادت مكانتها في سجل واشنطن الجيد، في أحدث تحول في علاقة تراوحت بين المد والجزر لعقود.
ويضيف أن باكستان باتت اليوم في موقع تفاوضي أفضل من غريمتها الهند، إذ حُددت نسبة الرسوم على صادراتها بـ19%، وهي الأدنى في المنطقة، في الوقت الذي تواجه فيه نيودلهي إجراءات تجارية عقابية.
ويشير تقرير لمجموعة الأزمات الدولية إلى أن واشنطن تعمل على تعزيز “برامج التدريب والتجهيز للقوات الباكستانية” بما يتوافق مع احتياجات مكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهو ما يعكس “نهجا أكثر مرونة وإستراتيجية” في التعامل مع إسلام آباد مقارنة بالسياسة السابقة.
في الخطاب الجديد لإدارة ترامب، يُشاد بدور باكستان في مواجهة الإرهاب الإقليمي، إذ أعادت واشنطن تصنيف بعض الجماعات البلوشية كمنظمات إرهابية، وهي خطوة لاقت ترحيبا واسعا في إسلام آباد. في الوقت نفسه، يُبرز البيت الأبيض تعاون باكستان في مواجهة تنظيم الدولة خراسان والجماعات المسلحة العابرة للحدود.
وقد أعادت هذه المقاربة لباكستان صفة “الشريك الأمني” بعد سنوات من التوتر والاتهامات الأميركية لها بإيواء جماعات متطرفة، وتُرجم هذا التقارب عبر موافقة أميركية على تحديث أسطول مقاتلات “إف-16” الباكستانية، وهو ملف حساس ظل مجمّدا لسنوات.
ويصف الكاتب الباكستاني عابد حسين سياسة الرئيس ترامب الجديدة تجاه باكستان بأنها تحول جذري بالنسبة لدولة اتهمها قبل 7 سنوات فقط، بتقديم “كل ما في وسعها للولايات المتحدة من أكاذيب وخداع، وتوفير ملاذات آمنة للإرهابيين”، ووصفها سلفه جو بايدن بأنها “واحدة من أخطر الدول”.
وجاء في مقال لمركز دراسات العربية الأوراسية أن إدارة ترامب تسعى إلى إعادة إحياء العلاقات مع باكستان كجزء من إستراتيجية أوسع لمواجهة التحديات الإقليمية، ومنها نفوذ الصين وروسيا في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
ويشير المقال إلى أن باكستان، بفضل موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وعلاقاتها الوثيقة مع دول مثل السعودية والصين، تُعد شريكا لا غنى عنه في هذا السياق. ومع ذلك، فإن هذا التقارب يثير قلق الهند، التي ترى في أي تحسّن في العلاقات الأميركية الباكستانية تهديدا محتملا لمصالحها الإستراتيجية، خاصة في ضوء التنافس التاريخي مع باكستان بشأن كشمير”.
وترى الباحثة في المركز الدولي للدراسات الجيو سياسية حنين جركس أن العلاقات الأميركية مع الهند وباكستان تتحرك ضمن إطار ديناميكي متغيّر، تحكمه اعتبارات المصالح الإستراتيجية والاقتصادية وتوازن القوى العالمي.
فكما كان التحالف الأميركي الباكستاني خلال الحرب الباردة موجها لمقارعة الاتحاد السوفياتي، كان التحالف الأميركي الهندي في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي موجها لمقارعة الصين، على حد تشبيهها.
وتضيف الكاتبة “أن المرحلة الحالية تشهد بداية تقارب أميركي جديد مع باكستان وربما عودة التحالف الأميركي الباكستاني، لضمان عدم تقارب إسلام آباد بشكل مفرط مع الصين التي كان لأسلحتها دور كبير في تعزيز توازن الردع العسكري لباكستان في صراعها الأخير مع الهند”.
ولا يمكن فصل هذا التقارب عن الحملة الدبلوماسية التي شنتها إسلام آباد في واشنطن خلال الأشهر الماضية، عبر لقاءات متكررة ورسائل إعلامية مدروسة، روّجت باكستان لنفسها كـ”شريك براغماتي” قادر على تقديم خدمات أمنية وسياسية سريعة. هذه الرسالة انسجمت تماما مع نهج ترامب القائم على “الصفقات” لا التحالفات الطويلة الأمد.

التداعيات على الإقليم
التحوّل الأميركي نحو باكستان يُفسَّر في نيودلهي كنوع من الانحياز الضمني، مما يزيد من حساسية أي تصعيد مقبل في كشمير. في المقابل، قد تفهم إسلام آباد هذه الإشارات كغطاء سياسي لتعزيز موقفها.
يطرح هذا التحوّل الأميركي تساؤلات جوهرية حول مستقبل الصراع الإقليمي، لا سيما في كشمير. إعادة التوازن الأميركي بين نيودلهي وإسلام آباد قد تغيّر موازين القوى في جنوب آسيا، بما قد يضعف الموقف الإستراتيجي للهند في مواجهة الصين ويعزز النفوذ الأميركي الباكستاني في المنطقة.
ويشير خبراء إلى أن هذا التغيير يعد جزءا من “إستراتيجية ترامب لإعادة رسم التحالفات التقليدية” مع التركيز على الدول التي يمكن الاعتماد عليها في ملفات أفغانستان ومكافحة الإرهاب.
ويؤكد الباحث في الشؤون الآسيوية، رافي مالهوترا، أن “الولايات المتحدة تحاول عبر تعزيز علاقتها مع باكستان أن تضمن شريكا موثوقا قادرا على المساهمة في استقرار المنطقة، خاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان”.
ولعل أخطر تداعيات السياسة الجديدة، بحسب وصفه، أنها تُضعف الهند كشريك أميركي محتمل في مواجهة الصين، فإذا شعرت نيودلهي بأنها تُعامل كخصم تجاري لا كحليف إستراتيجي، فقد تنفتح أكثر على بكين في مجالات الطاقة والبنية التحتية. وبالنسبة لواشنطن، هذا السيناريو سيكون بمثابة خسارة ورقة ضغط مهمة في التنافس العالمي.
ترامب والملفات الدولية
ما يجري ليس انفصالا تاما عن تاريخ السياسة الأميركية في المنطقة، بل هو انعكاس لطريقة ترامب في إدارة الملفات الدولية. فالرجل يفضّل النتائج السريعة على الإستراتيجيات طويلة الأمد، ويقيس التحالفات بميزان الصفقات لا المبادئ. فمع الهند، يضغط بالعقوبات للحصول على تنازلات تجارية. ومع باكستان، يلوّح بالتقارب ليحصل على خدمات أمنية ولوجستية.
وهكذا تدخل السياسة الأميركية في جنوب آسيا منعطفا جديدا في ولاية ترامب الثانية، بين الفتور مع الهند والتقارب مع باكستان ليسا مجرد تفاصيل عابرة، بل مؤشرات على تحوّل أوسع في أولويات واشنطن من تحالفات طويلة الأمد إلى صفقات سريعة ومرنة.
يبقى السؤال مفتوحا حول مستقبل العلاقات الأميركية الهندية، وكيفية تأقلم نيودلهي مع التحولات الأميركية، في الوقت الذي تستفيد فيه باكستان من إعادة التوازن لصالحها.