برامج حوارية للمرشحين في إندونيسيا بدل الخطابات الجماهيرية
جاكرتا- شهدت الأشهر الأخيرة في إندونيسيا حملات انتخابية واسعة النطاق لمرشحي الرئاسة، وإن كان المرشحون لا يختلفون في ظاهر أسلوب جولاتهم بين المحافظات، إلا أن اللافت هو بروز ظاهرة الحوار والنقاش بين المرشح والناخبين، بدل صعود المرشح على منصة عالية وتحدثه مع الجمهور، ثم مغادرته الساحة من دون تبادل أي حديث.
وظهر هذا الأسلوب مع مرشح تحالف التغيير أنيس باسويدان، عبر برنامج حواري “تحدوا أنيس” أو “حاصروه بالسؤال” يحضره الآلاف ويتنقل بين المحافظات، يجلس فيه أنيس على منصة تتوسط الحاضرين ويبدأ الحاضرون بإلقاء الأسئلة عليه ونقاشه بشكل يحمل معنى التحدي.
ولعل ما دفع حملة باسويدان إلى طرح هذه الفكرة عوامل، منها شخصيته الأكاديمية المعتادة على الحوار والاستماع إلى الناقدين، بخبرته الأكاديمية كأستاذ جامعي، بل ورئيس لجامعة “بارامادينة”، وصولا إلى حكم العاصمة جاكرتا لمدة 5 سنوات انتهت عام 2022.
العامل الآخر هو وجود شريحة كبيرة من الشباب الذين يتطلعون للنقاش والحوار وتبادل الآراء وطرح الإشكاليات على المرشح، في ظل حوارات ساخنة تدور في إندونيسيا بين الراغبين في التغيير مقابل المؤيدين لاستمرارية حكم الرئيس الحالي جوكو ويدودو، بنقل الحكم إلى وزير دفاعه برابوو سوبيانتو ونجله راكا بومينغ راكا، مرشحي تحالف “تقدم إندونيسيا” للرئاسة ونيابتها، ويتوافق ذلك مع سردية تحالف التغيير الساعي إلى تغيير سياسي، لا الاستمرارية.
22 حلقة حوارية
نُظّم حوار “تحدوا أنيس” 22 مرة، وكان آخرها في مدينة سورابايا ثاني كبرى مدن إندونيسيا، وتحمل الحوارات شعار “لنغير معا”، ويقدمها وينظمها شباب من تلك المدن، وفي كل حلقة يكون مقدموها مختلفين عن سابقيهم، ويحمل المشاركون لافتات ناقدة أو ساخرة سياسيا من الوضع القائم، ويحرص أنيس على قراءتها.
وأثيرت قضايا عديدة كقضايا الحريات والديمقراطية، وحيادية السلطة في الانتخابات، وقضايا الصحة والطفل، وإشكاليات الاستثمار الأجنبي في عدم حل معضلة البطالة، ومعاناة المتقاعدين، وإصلاح الشركات الحكومية، وغلاء دراسة الطب وقلة الأطباء في أقاليم عديدة.
وناقش شباب مع أنيس آليات صناعة القرار، وجلس معه الفلاحون وسائقو سيارات الأجرة والصيادون والطلبة والأطباء والعمال والصحفيون، وساءلوه عن فكره بشأن حرية الصحافة والإعلام، والفساد المالي والإداري في قطاع التعليم، وموازنات تنمية الريف وغير ذلك.
حاجة الشباب السياسية
ترى إيفي سينتا ديوي أستاذة الخطاب السياسي في جامعة باجاجارن في مدينة باندونغ الإندونيسية أن “التحولات السياسية -خاصة تلك المتعلقة بالأخلاق السياسية وتراجع الديمقراطية- ولّدت فئة شبابية ناقدة تريد التغيير”، مشيرة إلى أن برامج “تحدوا أنيس” جذابة، لأنها “نموذج حملة حوارية جعل من الإشكالات الاجتماعية قضية سياسية، وأجاب عن تساؤلات الناخب الشاب الناقد، الذي يسعى إلى تغيير أوضاع بلاده”.
وحسب بحث أجرته ديوي، فإن 77.7% من جيل الشباب، الذين ولدوا بين عامي 1997 و2012، في إقليم جاوا الغربية الأكثر سكانا بين أقاليم إندونيسيا، يرون أنهم بحاجة إلى تثقيف سياسي، وأن 98.8% منهم يرون أن الثقافة السياسية مهمة بالنسبة لهم.
وأكدت المتحدثة نفسها أهمية مثل هذه البرامج الحوارية “لأنها تبني تقليدا حواريا بين الشباب، ومن خلال هذا الحوار يُصنع الرأي العام، الذي يمكن أن يدفع بذلك التوجه بشكل جماعي”.
وأضافت أن “من روح الديمقراطية أن يكون هناك تبادل في الآراء، وهذا لا يتم إلا بالحوار، لكن لا بد أن يبني وعيا جمعيا، لا أن يكون منغلقا في دوائر مجموعات أو فئات معينة، فأكثر من 270 مليونا من السكان لم يصلوا جميعا إلى الوعي بضرورة أن يكون للديمقراطية خطاب يناضل من خلاله، وأن النقاش العام يولد رأيا عاما”.
“حاسبوا أنيس”
كان لافتا أن المشاركين في آخر حلقات هذا البرنامج الحواري في مدينة سورابايا، الجمعة ليلا، وبحضور أكثر من 20 ألف شخص، طلب بعضهم من أنيس باسويدان، في حال فوزه في انتخابات الأربعاء المقبل، أن ينظم برنامجا حواريا آخر يحمل اسم “حاسبوا أنيس” لمتابعة ما وعد به الناخبين من أفكار وبرامج.
وبخصوص ذلك تقول موليزا دونا، وهي باحثة الشؤون السياسية في هيئة البحث والإبداع الإندونيسية، للجزيرة نت إن “نقطة ضعف الحملة الدعائية الحوارية هذه أن الجمهور يستمع لأفكار ووعود انتخابية، لكن ليس هناك تعهد أو التزام بين المرشح والجمهور”، وأضافت أنه “لا بد أن يكون هناك عقد اجتماعي في المنتديات الانتخابية هذه عندما يلتقي المرشح بالناخبين، وتعهد بالالتزام بهذا العقد الاجتماعي، لأنه لو كان هناك اتفاق فلا بد وأن يكون هناك تبعات لذلك”.
وقالت دونا إنه “من الضروري رفع مستوى المشاركة الشعبية بعد التصويت”، مشيرة إلى تظاهرات الطلبة والعمال الذين يحتجون على عدم التزام السياسيين بوعودهم بعد تسلمهم السلطة، وقالت إن “الحكومة تسعى لتحقيق مستوى من المشاركة الشعبية فقط، من خلال النظر إلى نسبة مشاركة الناخبين، لكن الأكثر أهمية هو مستوى فاعلية المجتمع في مراقبة الوعود السياسية للمرشحين، وأن يتم إشراك المجتمع في صناعة السياسات”.
“واجهوا البروفيسور”
وفي الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية، تلقف محمد محفوظ المرشح لمنصب نائب الرئيس مع غانجار برانوو، عن حزب النضال من أجل الديمقراطية، فكرة البرامج الحوارية وأطلق برنامجا مشابها أسماه “واجهوا البروفيسور”، مستفيدا من خبرته الأكاديمية والقضائية، لكنه أقل حضورا.
فمحفوظ أستاذ جامعي يبلغ من العمر 66 عاما، وكان أيضا رئيسا للمحكمة الدستورية، ووزيرا للعدل وحقوق الإنسان، ووزيرا للدفاع، وكان آخر منصب تسلمه قبل استقالته بأيام للتفرغ للانتخابات هو الوزير المنسق للشؤون السياسية والقانونية والأمنية.
ويرى خبير السياسات العامة نصر الزمان أن “مثل هذه البرامج الحوارية تجعل من معايير تقييم المرشحين أكثر ارتفاعا في نظر الناخبين”، معتبرا ذلك تحولا في أسلوب الحملات الانتخابية، وقال إن “هذا الأسلوب يجعله متطلبا شعبيا، بأن يرى المرشحون في المستقبل أن من واجبهم الجلوس إلى طاولة الحوار والنقاش مع الناخبين، في جلسات كالتي أطلقها أنيس باسويدان، ثم قلده محمد محفوظ”.