عصف ذهني في أوروبا بحثاً عن “تأمين على الحياة” في عالم ترامب

رغم تنوع الملفات الشائكة المطروحة للنقاش في مؤتمر ميونيخ للأمن (16 – 18 فبراير)، كان مصدر القلق الأكبر الذي هيمن على القادة والسياسيين الأوروبيين ليس روسيا، ولا الصين، إنما حليفتهم الكبرى: الولايات المتحدة.
فقد أربك الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الحسابات الأوروبية مجدداً بعد أن أعرب عن انتقاداته لدول الحلف التي لا تلتزم بالإنفاق على السياسات الدفاعية، بل وتهديده بتشجيع روسيا على مهاجمتها.
أثيرت مناقشات جانبية مكثفة في مؤتمر ميونيخ وخارجه، بشأن مستقبل التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، خاصة أن وجهة نظر ترامب بشأن الحلفاء ليس مجرد رأي فردي، بل تيار وازن في سياسات الحزب الجمهوري. رغم ذلك، لم ينجم “العصف الذهني” الأوروبي سوى عن مزيد من دوامة الحيرة.
وينتاب الزعماء الأوروبيين حالة من القلق لا تتعلق فحسب بمستقبل حلف شمال الأطلسي في حال فوز ترامب على الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات المقررة في نوفمبر، بل أيضا إزاء تأخر حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار في الكونغرس الأمريكي حيث يطالب الجمهوريون باتخاذ تدابير أمنية على الحدود للموافقة على مشروع القانون.
وكتب آندرو جراي لوكالة “رويترز” تحليلاً خلص فيه إلى سعي أوروبا لنهج يحظى باستحسان معسكر ترامب بشأن حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا.
ويتواصل الزعماء الأوروبيون مع أعضاء الكونغرس الأمريكي وقادة الأعمال ومراكز البحوث في إطار جهودهم للتأثير على معسكر ترامب، وهي الجهود التي بدأت حتى قبل أسبوع من تصريحاته المثيرة للجدل.
المال .. لغة ترامب
ومن بين الحجج التي يقدمها الزعماء الأوروبيون لدعم وجهة نظرهم هي أن دول أوروبا تنفق المزيد على الدفاع وتعتزم عمل ما هو أكثر، وأن مثل هذا الإنفاق والمساعدات المالية لأوكرانيا تحقق لشركات الأسلحة الأمريكية مليارات الدولارات، وأن الدفاع عن أوروبا يعكس قوة الولايات المتحدة أمام الصين، التي كانت محورا أساسيا لسياسة ترامب الخارجية.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس أمام مؤتمر ميونيخ بحضور العشرات من المشرعين الأمريكيين: “نحن الأوروبيون علينا أن نولي اهتماما أكبر بأمننا الآن وفي المستقبل”. أكد شولتس وغيره من الزعماء الأوروبيين، مثل رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، على أنهم أصبحوا أكثر جدية بشأن الدفاع لأن ذلك يصب في مصلحتهم الخاصة، وليس بسبب ترامب.
وتعهد السيناتور الأمريكي جيه. دي. فانس للحلفاء في “الناتو” بأنه يمكنهم التعويل على مساندة الولايات المتحدة في أي هجوم حتى تحت قيادة دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
لكن الجمهوري الموالي لترامب أشار في ميونخ إلى أنه يجب أن تصير أوروبا أكثر استقلالية في القضايا الأمنية، وأوضح أن هذه هي رسالة ترامب.
وناشد السيناتور الأمريكي ألمانيا بصفة خاصة الاستثمار بشكل أكبر في قواتها، وتساءل: “إذا كانت ألمانيا تملك خامس أكبر ناتج محلي بالعالم، وروسيا لا تنتمي حتى لأكبر 10 دول في هذا الشأن، أفلا ينبغي أن تكون ألمانيا قادرة على أن تضمن وحدها ردا فعالا ضد روسيا؟”.
وليست ألمانيا غافلة عن هذا التحدي الأمني، خاصة من روسيا. ففي ميونيخ دعا وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس الحلفاء الغربيين إلى أن “يستعدوا لصراع يمتد لعقود مع روسيا” وفق تصريح نشرته “دي دبليو” الألمانية. وكان قائد الجيش الألماني الجنرال كارستن بروير قد قال منذ أسبوع في حوار لصحيفة دي فيلت الألمانية، إن على القوات المسلحة الألمانية أن تكون مؤهلة لخوض حرب في غضون خمس سنوات.
واختار بعض الأوروبيين التحدث بلغة ترامب، للتخفيف من الضغوط عليهم، وهو المال. ففي أواخر الشهر الماضي، سافر ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إلى الولايات المتحدة في زيارة استهدفت في جزء منها إقناع معسكر ترامب بالبقاء في الحلف ودعم أوكرانيا.
وفي ميونيخ قال ستولتنبرج: “معظم الأموال المخصصة لأوكرانيا ينتهي بها المطاف في الولايات المتحدة من خلال شراء الأسلحة. على سبيل المثال، صواريخ جافلين من إنتاج الولايات المتحدة”.
الصين وأوروبا.. لعبة واحدة
وفي السياق ذاته، لعب الصينيون والأوروبيون لعبة واحدة في اتجاهين، حيث يحاول الأوروبيون الإيحاء أن الولايات المتحدة لن تكون قوية بما يكفي أمام الصين إذا لم تكن أوروبا معها، وهو ما صرح به ستولتنبرج حين أشار إلى مخاوف الولايات المتحدة بشأن الصين بالقول “الولايات المتحدة تمثل 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومع حلفائنا في حلف شمال الأطلسي، نمثل 50 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و50 بالمئة من القوة العسكرية العالمية. إذا حافظنا على وحدتنا، سنكون بأمان”.
في المقابل، كان وزيرة الخارجية الصيني وانغ يي قد وجه رسالة إلى نظرائه الأوروبيين في ميونيخ بقوله: “مهما تغير العالم، فإن الصين سوف تكون ثابتة ومستقرة وقوة للاستقرار، وعلى الصين وأوروبا أن تبتعدا عن الانحرافات الجيوسياسية والأيديولوجية وأن تعملا معًا”.
ووفق تحليل كتبته سيمون مكارثي لشبكة “سي إن إن” فإنه لم يكن من الممكن أن يكون توقيت تعليقات ترامب أفضل بالنسبة لوانغ وهو في أوروبا لإصلاح العلاقات المتدهورة مع الكتلة.
وقد يرى وانغ المزيد من النجاح في استقرار العلاقات مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المهتمة بتعزيز العلاقات الاقتصادية – وتلك التي تنظر بشكوك إلى الانتخابات الأمريكية الوشيكة.
وفي اجتماعاته الأوروبية، استخدم وانغ “عامل ترامب” للإشارة إلى أن الانحياز الكامل للولايات المتحدة ليس في مصلحة الدول الأوروبية، وفقًا لليو دونجشو، الأستاذ المساعد في جامعة سيتي في هونج كونج.
ووفق تقرير لشبكة “سي إن إن” فإن “أسوأ كابوس للصين هو تشكيل جبهة موحدة عبر الأطلسي بشأن قضايا التجارة والتكنولوجيا والأمن. ستستخدم الصين كلمات ترامب لتعزيز الرسالة في العواصم الأوروبية بأن واشنطن ليست شريكا يمكن الاعتماد عليه”.
تأمين على الحياة
الأسبوع الماضي استضاف وزير الخارجية الفرنسي الجديدـ ستيفان سيجورنيه، نظيريه، الألمانية أنالينا بيربوك، والبولندي ورادوسلاف سيكورسكي خارج باريس.
وجاء الاجتماع عقب تصريحات ترامب بشأن الناتو، وعلق الوزير الفرنسي على ذلك بالقول: إن أوروبا بحاجة إلى بوليصة “تأمين على الحياة” إضافية، إضافة للناتو.