“تاريخ العطش” لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني

لطالما كان العطش رمزًا ثقافيًا عميقًا في الشعر العربي، إلا أن الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب يتناول هذا الرمز في ديوانه الأخير “تاريخ العطش” بطريقة جديدة ومبتكرة، محولًا إياه إلى محور لسؤال شعري وفلسفي معاصر. يصدر الديوان عن الدار الأهلية في عمّان، ويقدم قراءة متعمقة للعطش ليس كمجرد حاجة جسدية، بل كاستعارة لوحدة الوجود والبحث الدائم عن المعنى.
يستكشف أبو شايب في “تاريخ العطش” مفهوم “الظمأ الكوني” من خلال لغة شعرية مكثفة وصور بلاغية معبرة، معتمدًا على أسلوب يمزج بين التراث الصوفي والتعبير المعاصر. الديوان ليس مجرد تدوين لتاريخ غياب الماء، بل هو تأريخ لحالة الوجود الإنساني الذي يتوق باستمرار إلى الاكتمال، وهو ما يجعله إضافة مهمة إلى المشهد الشعري العربي.
تاريخ العطش: أبعد من الرمزية الحسية
يبدأ الديوان بمفارقة دلالية واضحة، فـ”التاريخ” يشير إلى التراكم والزمن، بينما “العطش” يمثل النقص والفراغ. يطرح أبو شايب سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن تدوين تاريخ لما هو ناقص؟ يجيب الشاعر من خلال رؤيته الشعرية بأن العطش ليس مجرد حدث عابر، بل هو سردية مستمرة، ومادة أساسية لبناء الوعي الإنساني.
يستمد أبو شايب إلهامه من مصادر متنوعة، بدءًا من الموروث الديني، مثل اقتباسه لمقولة السيد المسيح “أنا عطشان”، وصولًا إلى الفلسفة الصوفية. لكنه لا يكتفي بالتقليد، بل يعيد صياغة هذه المصادر لتعكس رؤيته الخاصة للعالم، ويدعو القارئ إلى التفكير في معنى العطش في سياق العصر الحديث.
العطش والوجودية
يرى أبو شايب أن العطش يتجاوز كونه حاجة بيولوجية ليصبح شرطًا وجوديًا للمعرفة. ففي نصوصه، يتحول العطش من معاناة فردية إلى مرآة تعكس جفاف الواقع العربي الراهن. يستخدم الشاعر العطش كأداة نقدية لفضح الظلم والقهر، والتعبير عن آمال وطموحات الشعب الفلسطيني.
يستكشف الديوان العلاقة بين العطش والزمن، فالعطش ليس مجرد شعور لحظي، بل هو حالة مستمرة تتراكم عبر الأجيال. يصور أبو شايب الماضي بأنه بئر جافة، والحاضر بأنه صحراء قاحلة، والمستقبل بأنه سراب بعيد المنال. لكنه في الوقت نفسه، يزرع في قلب القارئ بذرة الأمل، ويدعوه إلى البحث عن الماء في داخله.
هندسة الديوان وتطور الفكرة
لا يترك أبو شايب نصوصه عشوائية، بل يقدم الديوان بهيكلية مدروسة تتوزع فيها تجربة العطش على خمسة أقسام رئيسية. يمثل كل قسم مرحلة جديدة في رحلة الكشف عن الذات والعالم، بدءًا من التيه الذاتي وصولًا إلى الظمأ الكوني. هذا التقسيم يعكس تطور فكرة العطش في ذهن الشاعر، ويساعد القارئ على فهم عمق هذه الفكرة.
يتميز الديوان بلغة شعرية متقشفة، تعتمد على اقتصاد التعبير. يستخدم أبو شايب كلمات قليلة، لكنها تحمل معاني عميقة. يتجنب الشاعر الزخرفة البلاغية المفرطة، ويفضل الوضوح والبساطة. هذا الأسلوب يتماشى مع موضوع الديوان، ويعكس حالة الجفاف واليباس التي يعيشها الشاعر.
المرأة والنبع: رمزية الخلاص في “تاريخ العطش”
في مواجهة هذا الجفاف الوجودي والسياسي، يلجأ أبو شايب إلى رمزية الأنثى والنبع. تصور الأنثى كحاملة للخصب والحياة، والنبع كمصدر للماء والمعرفة. في قصائده، يمزج الشاعر بين المقدس والمدنس، ويرفع من قيمة الجسد والحب والشهوة. يرى أبو شايب أن هذه الأمور ليست عيبًا أو ضعفًا، بل هي قوة دافعة نحو الوجود والإبداع.
يستخدم الشاعر صورًا شعرية معبرة لوصف العلاقة بين الأنثى والنبع. فالمرأة هي الأرض التي تتلقى الماء، وهي الرحم الذي يحمل الحياة. النبع هو القلب الذي ينبض بالحب، وهو العقل الذي يبحث عن المعرفة. من خلال هذه الصور، يوضح أبو شايب أن الخلاص يكمن في الاتحاد بين الذات والآخر، بين الجسد والروح، بين الأرض والسماء.
يستحضر أبو شايب في الديوان شخصيات أسطورية، مثل ربة عمون، لتعزيز رمزية الأنثى والنبع. يرى الشاعر أن هذه الشخصيات تمثل قوة كامنة في اللاوعي الجمعي، وأنها قادرة على إلهامنا وتحفيزنا على التغيير. من خلال إعادة إحياء هذه الشخصيات، يساهم أبو شايب في استعادة الهوية الثقافية العربية، والتعبير عن آمال وطموحات الشعب الفلسطيني.
يختتم الديوان بدعوة إلى التحرر من القيود والتحليق في فضاء الإبداع. يدعو أبو شايب القارئ إلى أن يكون “حفيد الماء”، أي أن يحمل في قلبه وعد الماء، وأن يسعى إلى تحقيق هذا الوعد في حياته. يؤكد الشاعر أن الشعر ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو طريق للنجاة الرمزية، وأداة للمقاومة والتغيير.
من المتوقع أن يثير ديوان “تاريخ العطش” جدلاً واسعًا في الأوساط الأدبية والثقافية العربية. الديوان يمثل تحديًا للتقاليد الشعرية السائدة، ويقدم رؤية جديدة ومبتكرة للعالم. سيراقب النقاد والمحللون عن كثب ردود فعل القراء، وتأثير الديوان على المشهد الشعري العربي.





