تاريخ تمحوه الجرافات.. إزالة معالم تاريخية في مقابر الإمام الشافعي
عاد صوت الجرافات يهدر من جديد في مقبرة الإمام الشافعي، وهي تزيل وتهدم مقابر وأحواش تعدى عمرها مئات السنين، وبعد أن أزالت وهدمت مئات المقابر، اضطرت مئات الأسر لنقل رفات ذويها لمناطق مختلفة في أماكن بعيدة عن القاهرة.
وبات هذا المشهد متكررا خلال الأعوام الأربعة الماضية، حيث تقوم السلطات في مصر بمد وتوسيع شبكة المواصلات التي تصل أحياء القاهرة ببعضها البعض.
لكن الحدث الذي أثار سخطا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، هو تلك الهجمة الشرسة من الهدر والهدم والتخريب التي طالت هدم مقابر مهمة مثل مقبرة شاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، وهدم السلطات مدفنا تاريخيا يعود لمستولدة محمد علي باشا، أي التي أنجبت منه ولدا، وهو محمد حليم باشا، الابن الثاني لمحمد علي، ووريث عرشه قبل أن يتغير نظام الميراث.
الدكتورة جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني بجامعة باريس، ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية (IRD)، وصاحبة أول وأهم كتاب مطبوع عن تاريخ الجبانات المستهدفة الآن بالهدم؛ خاضت العديد من المعارك لمنع هدم أيه جبانات داخل حيز القاهرة التاريخية، وهي ترى أن الدفاع عن هذه الجبانات بمثابة “واجب مقدس” وامتداد لثقافة المصريين القدماء الذين أولوا اهتماما للحفاظ على مقابرهم، كما تراها تعبيرا عن هوية مصر التاريخية.
وفي اتصال خاص من باريس، قالت الدكتورة جليلة القاضي: ما يحدث في قرافة الإمام جزء من مخطط لشبكة طرق سريعة تتخللها ميادين نشرت بداية عام 2021، إثر إنشاء كباري الفردوس. (الجبانة الشرقية) وعين الحياة (قرافة الإمام).
وقضينا 4 أعوام نناهض هذا المشروع وأظهرنا آثاره التدميرية، ونجحنا في تعطيله بعض الوقت لكنه كان ينفذ على مراحل، أولها إزالة جزء من جبانة السيدة نفيسة، وجبانة السيوطي وجبانة الأباجية الموجود فيها مدفن “طه حسين”.
ووصل المخطط لذروته حول ضريح السيدة نفيسة العام الماضي، عندما هدموا الكثير من الجبانات والمقابر ومنها مقبرة الأديب الكبير يحيى حقي العام، وقاموا بفك 3 مآذن أثرية في “الإمام السيوطي” و”السيدة عائشة” العام الماضي بحجة ترميم المنشآت التاريخية وإعادة تركيبها مرة ثانية، ثم عرفنا بأن المآذن الأخيرة عصية على التنفيذ”.
إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية
وتضيف الدكتورة جليلة: شكلنا “مجموعة إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية”، وأصدرنا بيانا حذرنا فيه من مغبة التمادي في هدم الجبانات، وقامت الحكومة بتشكيل لجنة إثر نشر البيان، الذي وقّع عليه أعضاء مجموعة إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية، ونخبة من صفوة المجتمع السياسية والدبلوماسية والثقافية وجميع الأحزاب والجمعيات الأهلية والشخصيات العامة.
ومع تصعيد حملتنا وتحفيز الوعي العام بخطورة ما يجري من هدم في المقابر والجبانات التاريخية على مدى 3 سنوات العام الماضي، توقفت عمليات الإزالة وتم تشكيل لجنة من المتخصصين، ووضع المسؤولون في محافظة
القاهرة مشروعا بديلا لحل مشكلة السيولة المرورية، وفي نفس الوقت يحافظ على الجبانات وقاموا بعمل دراسات لـ10 سنوات قادمة.
قدمنا المشروع لمتخذ القرار الذي شكل بنفسه هذه اللجنة، وتمت الموافقة عليه، ثم فوجئنا باستئناف الهدم، فاستقال أعضاء اللجنة. ومن ناحيتها قامت السلطات المصرية بمنع التجوال تماما في قرافة الإمام ومنع التصوير، بل تم القبض على بعض الزملاء متلبسين بالتصوير.
وتتابع الدكتورة جليلة القاضي: ما يحدث تخطّى موضوع مخطط الطرق، إنه مخطط لإزالة مجمل جبانات القاهرة التاريخية لأن لهذه الأرض قيمة سوقية عالية، وهذه الفكرة موجودة في المخطط الإستراتيجي للقاهرة 2030، وينفذها رئيس الوزراء الحالي لأنه هو واضع هذا المخطط. وكل هذا يصب في التوجهات الحالية لبيع أراضي الدولة ونيلها وشواطئها وموانيها وكل سنتيمتر مربع من الممكن أن يأتي بالمزيد من الفلوس.
في أوروبا الجبانات التاريخية تعامل كمواقع تراثية، تتحول إلى مزارات سياحية ومنتزهات عامة، لأنها حدائق جنائزية تحتوي على روائع الفن الجنائزي من شواهد رخامية وحجرية مزدانة بتماثيل وهي في غاية التنوع ولا تقل قيمة عما يوجد في الكنائس والأديرة من آثار.
في فرنسا الجبانات التاريخية عمرها قرنين فقط، وهي داخل نطاق المدن وتعطي قيمة للمباني المحيطة بها وهي أحياء الصفوة، بينما جباناتنا عمرها أكثر من ألف عام وفيها كنوز سواء من ناحية البناء أو ما تحويه من شواهد وخط عربي وزخارف وقباب وشبابيك، كل العناصر المعمارية غاية في التفرد والتنوع والجمال ولا مثيل لها في كل الدول الإسلامية بل في العالم كله، بحسب الدكتورة جليلة القاضي.
وتستدرك الدكتورة جليلة قائلة: “مع حالة العجز التي نعيشها في مواجهة سلطة لا تقدر قيمة ما تهدره من آثار وجبانات تاريخية أقوم حاليا مع فريق أثري بتوثيق المباني والعناصر المعمارية للأحواش منذ عام 1983 إلى يومنا هذا”. وأفادت بصدور كتاب لها عن الموضوع باللغة الفرنسية ترجم إلى الإنجليزية ويصدر بالعربية بعد تحديثه آخر هذا العام.
وتقول القاضي: “نحن في طريقنا لإنشاء بنك معلومات أو قاعدة بيانات عن هذا الموقع وتحولاته منذ نشأته إلى يومنا هذا، تلك هي وسيلتنا الوحيدة لحفظ الذاكرة، ينقصنا الدعم المادي، نتوقف بعض الوقت ونستأنف من جديد، ونعمل بجد على إنجاز هذا العمل لأهميته للأجيال القادمة”.
هدر الهوية وهدم التاريخ
وعن طبيعة المنطقة التي يتم الهدم بها وهي مقابر الإمام الشافعي؛ التقينا الدكتور مصطفى الصادق مؤلف كتاب “كنوز مقابر مصر” الذي سجل فيه المقابر التاريخية والأثرية، ومنها مقابر آل البيت بما تحويه من طرز معمارية وفنية لا تقدر بثمن. والدكتور مصطفى أستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية القصر العيني. وقال في حديث للجزيرة نت: “المقابر والجبانات التاريخية وسيلة رئيسة للتأريخ، ولم تعرف البشرية تاريخ الفراعنة إلا من خلال مقابرهم، قبل 3 أعوام أعلنت محافظة القاهرة عن نيتها إزالة نحو 2700 مقبرة بالمنطقة، وبدأت بإزالة بعضها، وهو ما أفزع أهالي الموتى المدفونين هناك، وأثار اعتراضات مهتمين بالتراث مما جعلهم يتوقفون لحين دراسة الموضوع وبحثا عن حل للمشكلة”.
وتابع القول مستدركا: “فوجئنا بهم يعودون من عام تقريبا للهدم من جديد، وخلال الأيام الماضية تجدد مسلسل الهدم، فقد هدمت مقابر في غاية الأهمية على رأسها جبانة رب السيف والقلم الشاعر الكبير محمود سامي البارودي صاحب بعث وإحياء الشعر العربي الحديث”.
وتم أيضا، بحسب الأكاديمي مصطفى الصادق، “هدم مقبرة محمد راتب باشا سردار الجيش المصري، ومقبرة قاسم محمد باشا أول قائد للمحروسة، وكان قائد للأسطول المصري، ومقبرة وحوش القائد إسماعيل شيرين الذي كان من قادة الأسطول الحربي خلال عهد محمد علي باشا وحارب في معركة نفارين البحرية التي دمرت فيها الدول الأوروبية الأسطول المصري عام 1840 لتحجيم دور مصر ومنعها من أن تكون قوة عسكرية في المنطقة ، فضلا عن قبة مستولدة محمد علي باشا، وهي من القباب الفنية والتاريخية الغنية بالزخارف والنقوش والخط العربي ولا يمكن تعويضها بكنوز وثروات الدنيا لفرط جمالها”.
كما تم هدم قبة محمد عبد الحليم أصغر أبناء محمد علي باشا، وهو في نفس الوقت جد النبيل عباس حليم وأحد أهم مناصري إنشاء النقابات العمالية في بداية القرن الـ20 وكانوا يطلقون عليه لقب صديق العمال.
وجرى كذلك هدم حوش ومقبرة تضم التركيبة الخاصة بـ”البرنسيسة كريمة” حفيدة محمد علي باشا والتي تم فكها ونقل رفاتها. وكان هناك استعداد “لهدم قبة صاحبة السمو الأمير كريمة حليم ابنة صاحب السمو الأمير محمد عبد الحليم باشا نجل محمد علي باشا الكبير، ووالدتها وجدان قادين، وقد توفيت في القاهرة في السابع من مايو/أيار 1897، وتزوجت في 1895 من محمد علي جلال وأنجبت منه عباس جلال المولود في أبريل/نيسان 1897”.
فنون تذروها الجرافات
ويعدد الصادق ما تم هدمه ويقول: “تم هدم مدرسة الإمامية التاريخية ومدرسة رابعة العدوية وحوش يوسف كمال باشا راعي الفنون في مصر في بداية القرن الـ20.
وتم هدم واجهة حوش إبراهيم النبراوي وهو من أوائل الأطباء الذين أرسلوا للخارج لدراسة الطب، وكان من أكبر الأطباء في عصره، وتتميز واجهة الحوش بجمال لا نظير له وخطوط كتبها خطاط مصر الكبير ومحيي الخط الكوفي في مصر الفنان يوسف أحمد، وهذه التحفة الفنية كان من الممكن رفعها والاحتفاظ بها في متحف أو مكان للعرض”.
ومن الأحواش التي تمت إزالتها أيضا حوش الدكتور يوسف رشاد طبيب وصديق الملك فاروق، وتم هدم جبانة الدكتور علي باشا إبراهيم أول عميد مصري لكلية ومستشفى القصر العيني وأول رئيس مصري لجامعة القاهرة، فضلا عن هدم مقبرة السياسي الكبير بهي الدين بركات، والمؤرخ الكبير أحمد باشا شفيق صاحب الحوليات المشهورة، وحوش ثابت وهو ملك لأسرة السيدة سوزان ثابت قرينة الرئيس السابق حسني مبارك.
ويقول الدكتور الصادق: “هذه أمثلة مقابر وجبانات تمت إزالتها أو إزالة أجزاء منها، وما أشير إليه أن كثيرا من باحثي التاريخ يأتون لهذه المقابر لقراءة شواهدها ومعرفة الدور التي قامت به، ويستخدموها كوثائق في دراستهم التاريخية، على كل مقبرة شاهد مكتوب عليه دور وعمل ووظيفة كل متوفي، وهذه المنطقة كانت مكانا ومدفنا لكبار الدولة من القواد والوزراء والعلماء والشعراء، بقيت في أماكنها لأكثر من 200 عام ثم نأتي الآن لهدمها، ومصر لا تمتلك أغلى من تاريخها، وإن لم تكن مصر في غنى دول أخرى، تستطيع هذه الدول أن تشتري كل شيء، ولكنها تعجز عن شراء تاريخ وحضارة لها، ومصر لديها التاريخ والحضارة وتقوم بهدرها وهدمها والتخلص منها، هل يعقل هذا؟”.
ويشير الدكتور الصادق إلى أهمية هذه المنطقة تاريخيا ويقول: لم أنس لحظة هدم جبانة الإمام ورش، وقفنا أمام الجرافات حتى لا تهدم أثرا تاريخيا لإمام عالم في القراءات القرآنية، وبالقرب منه توجد العشرات من جبانات آل البيت، والسيدة نفيسة، ويحي الشبيهي، والسيدة كلثوم، ومن أئمة العلماء الإمام العز بن عبد السلام، ابن حجر العسقلاني، الإمام الليثي، والإمام الشافعي.
نرحب بالتطوير ونرفض اقتلاع الجذور
ويضيف الدكتور الصادق: “وإذا كان البعض يردد بأن هذه الأماكن تؤوي المجرمين وتجار المخدرات، فهذه ليست مشكلة المكان، بل مشكلة القائمين على المكان، وإذا لم تستطع استثمار هذه المناطق للسياحة وتحولها لمزارات عالمية، فالمشكلة ليست مشكلتهم بل مشكلتك أنت وفشلك في إدارتها، ونحن لسنا ضد التطوير، ولكن ضد أن يكون هذا الهدم أو التطوير على حساب تراثنا وآثارنا”.
ومن ناحيته عبر علاء مبارك، نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك، عن حزنه بسبب إزالة مدافن عائلة ثابت، عائلة والدته سوزان مبارك، في الإمام الشافعي، وقال عبر حسابه الرسمي على موقع “إكس”: مدافن عائلة ثابت بالإمام الشافعي من ضمن مدافن أخرى يتم نقل رفات الموتى للأسرة مع إزالة المدفن”. وتابع علاء مبارك رسالته قائلا: شيء محزن ومؤلم على النفس أن يتم نقل الرفات وإزالة مدافن تجاوز عمرها 120 عاما من أجل عمل مشاريع توسعية من دون أي مراعاة لحرمة الموتى.
وردا على هدم مقبرة الشاعر محمود سامي البارودي من دون إخطار الأسرة بذلك، نفت الدكتورة ألطاف البارودي من عائلة الشاعر محمود سامي البارودي، صحة ما تردد عن إخطار العائلة بهدم مدفن الشاعر الراحل من قبل الأجهزة التنفيذية. وقالت في تصريحات تلفزيونية: “لم يتم إبلاغ أحد من أفراد الأسرة بقرار هدم مقبرة محمود سامي البارودي”.
ويعلق الدكتور خالد عزب خبير التراث للجزيرة نت ويقول: “ما يجري هو صراع بين الرغبة في التطوير من قبل الحكومة والحفاظ على التراث من قبل المثقفين والشعب بشكل عام، والإشكالية في أن الطرف الذي بيده القرار لا تتوفر لديه الخبرة للتعامل مع الآثار، فضلا عن عدم إدراكه لأهمية التراث، ما نتج عنه قصور لدى مسؤولين همهم هو النظر في قطعة أرض تقدر قيمتها ماليا، ولا أهمية لما فوقها من تاريخ وآثار من آلاف السنين”.
ويضيف عزب: “هناك حلول حدثت وجرت في حالات مماثلة، بأن يتم الحفاظ على الأثر ونقله في مكان قريب مماثل مع أهمية الحفاظ عليه، وهذا جرى مع نقل زاوية فرج بن برقوق وإرجاعها للخلف، وهناك كثير من السوابق يمكن الاسترشاد بها بدلا من سياسة الهدم التي يضيع معها كل شيء بدءا من الأثر والتاريخ والوضع الحضاري، وأما بالنسبة للمقابر فكان هناك اقتراح بنقل المقابر لما أطلقوا عليه مقبرة الخالدين”.