“ترتيب خاص”.. هذه الشتائم فأين المسلسل؟
منذ عودته من أميركا، لفت المخرج السوري الشاب ميّار النوري كل من تعاطى معه بسبب ثقافته الواسعة ورشاقة أفكاره وطرحها بطريقة جذابة، ثم تمكن من الدخول إلى سوق العمل بطريقة ذكية أكسبته مهارة وخبرة إضافية لما تعلمه عن فن الإخراج في أهم الجامعات، فقد أنهى دراسة الإخراج السينمائي في جامعة “فول سايل”، وكان من المنتظر أن يحقق حضورا مختلفا في إنجازه العملي، على المستوى المحلي والعربي، باعتبار أنه عاد مسكونا بهاجس صناعة فنّ راقٍ حتى لو استلهم من كل الخراب المحيط ببلاده والمنطقة.
ورغم عمله بصفته مدير إضاءة وتصوير في أكثر من عمل، بعدما أنجز أفلاما قصيرة وعمل ممثلا في بعض التجارب، وصل أخيرا إلى هدفه المنشود عندما أخرج مسلسلا قصيرا بعنوان “ترتيب خاص”.
العمل من إخراج النوري وكتابته مع فؤاد يمين، وبطولة كلٍ من مكسيم خليل، وناتاشا شوفاني، وفؤاد يمين، وكارول الحاج، ولين غرة، في حين حل النجم عباس النوري ضيفا على تجربة ابنه الإخراجية الأولى إلى جانب مشاركة سيرينا محمد ويارا الدولاني.
لكنّ “ترتيب خاص” ظهر كأنه يجافي منطق صناعة العمل القصير من ناحية كثافة الأحداث والتصاعد المتسارع للحكاية، وبدا فعليا كأنه أنجز بمنطق يخالف القاعدة الأكاديمية لفن كتابة السيناريو التي تفيد بضرورة عناية الكاتب في صوغ التعقيدات، ومنطق البناء التصاعدي للحكاية وتتفق على أن التعقيدات ليست عقبات تمنع البطل من الوصول إلى هدفه، بل هي قضايا ومشكلات وصعوبات أخرى عليه أن يواجها ويتعامل معها.
ولا تشكل تلك التعقيدات تهديدا واضحا للشخصية الرئيسة وهدفها على الأقل حين تطرأ في البداية، وتدور بعض التعقيدات في الحبكة كي تهدد الشخصية الرئيسة.
وتدور الحكاية حول شابّ سوري اسمه أحمد الأصابيعي يعيش في لبنان، حيث تلاحقه الظروف السيئة من كلّ حدب وصوب. يتملّكه هاجس الشهرة، فتأخذه الحماسة إلى عالم من الوهم والتخيّلات والتهيّؤات، ويعيش في أحلام يقظته.
يحاول الأصابيعي صناعة أي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي ليحقق الانتشار والشهرة، ويُجري مداخلات ويدلي بتصريحات وكأنّه مقدّم برنامج مختص بالقضايا النفسية، ما يضعه في مأزق ويتسبب في طرده من عمله في مطعم وجبات سريعة.
لكنّ حادثة انتحار تغيّر حياته تماما، إذ يصادف مروره في موقع الحادثة وعثوره على هاتف المنتحر، فيكتشف حوارا مع طفلته التي تنتظره على العشاء، ثمّ يتّضح أنه كان يعاني من مشكلات نفسية ومادية.
بعد ذلك، يتواصل من هاتف الراحل مع جمعية معنية بمساعدة الذين يوشكون على الانتحار، فيعطيها عنوانا خاطئا، ما يتسبّب للمركز والموظفة التي تلقّت الاتصال في مشكلات كبيرة.
نتابع فيما بعد كيف يصبح الرجل مديرا للمركز بعد التسبّب في فضيحة ما، قبل أن يُكتشف أمره، ثم يزج به في السجن حيث يؤلف كتابا بعنوان “ترتيب خاص”، في حين يستمر تأثيره على شبكات التواصل الاجتماعي.
تبدو القصة مهلهلة ومفككة، تفتقر لمقومات جوهرية تساعد على التصعيد المنتظر! من دون أن تحقق معادلة العمل القصير الذي يفترض أن يقدم حكاية مشدودة بمنطق سينمائي، تغيب عنه الثرثرات ومشاهد الجسور أي الأحداث الثانوية التي لا طائل منها سوى ربط الشخصيات والأحداث ببعضها.
إنما تغرق حوارات “ترتيب خاص” في مونولوجات مفبركة في حكاية هي بالأصل تجافي الصيغة الواقعية، إلى جانب حشو مقصود لسلسة شتائم بذيئة، تأخذنا نحو انحدار فني مجاني.. فلو تم حذف كلّ تلك الشتائم لما أثّرت على السياق الدرامي بشيء، إضافة لإقحام غير مبرر لشخصيات سورية ثم جنوح البطل نحو الخيال والفانتازيا بطريقة تزيد من تفكّك العمل.
كما أنه يقع في مشكلة درامية ثانية عندما تظهر فجأة بعض الشخصيات وتغيب من دون أن تترك أي أثر، بل تؤكد على فكرة فبركة وجودها لتبرير حدث معين كان من الممكن تبريره من دون وجود كل هذه الشخصية: المثال على ذلك واضح في حضور شخصية هند (لين غرة) التي تورط البطل في حوارات شخصية تجعله عرضة للمساءلة أثناء عمله، ثم تختفي بعدما تقتص من أحمد الذي تخلق بينهما مشكلة خاصة. إننا أمام غياب أي مبرر يشرح دوافع الشخصيات أو حتى إشارة لتاريخها تشير لمطرح ما جعلها على ما هي عليه اليوم.
من الصعب أن تعثر على جواب حول سبب الطرح الغريب عن هوس بطل الحكاية بأصابع النساء، خاصة أننا لم نتابع أي حدث يبرر الحالة، أو يعطي سببا مقنعا للحديث فيها ولا حتى في مشهد (فلاش باك) يروي حادثة قديمة تبرر ذلك، والأسئلة ستستمر على هذه الهيئة عندما نصل لواقعة المذيعة المشهور وهي تخون زوجها مع شخص لا يحمل أي مقومات تجعله هدفا لأي امرأة، فكيف بسيدة تعمل إعلامية مشهورة لم نجد أي سبب يدفعها نحو الخيانة في مكان عمل شريكها ما يجعلها عرضة للفضيحة.
الملمح الإيجابي بشكل ظاهر هو الصيغة التجسيدية والفاعلية اللافتة في المنطق الأدائي عند بطل العمل النجم السوري مكسيم خليل وتبنّيه اقتراحا متمايزا ومكتمل المعالم بالنسبة لشخصية إشكالية تثير الجدل في كلّ خطوة تمشيها. حتى لو لم يظهر التباين اللازم بعدما يصبح البطل مديرا ومقدم برامج، فإن الشغل بدا عميقا من الممثل وفقا لمدرسة أداء تخوّله البحث في العوالم النفسية للشخصية وفهمها بالمطلق ثم العناية بالهيئة الشكلية والملابس، وإكسائها بحركة جسد مناسبة ومشية وطريقة نظرات وتصرفات تنسجم بالمطلق مع روحها.
ويبقى العنصر البصري يشكّل ملمحا جماليا واضحا بعدما حاول المخرج الشاب استعراض كلّ مهاراته، ونجح في بناء شكل خاص في الضوء واللون، وهو ما يوضح تأثره الصريح بالمخرج ويس أندرسون ومقاربة تجربته الفريدة “فندق بودابست الكبير” (The Grand Budapest Hotel).
كل ذلك مجرّد محاولات تصنع جمالية في الصورة، ربما وتمتّع على مستوى الأداء، لكن الأكيد يبقى الجوهر الحكائي هو ما يعول عليه في نجاح الحكاية، وهو ما أصابها بعطب واضح وجعها خارج الاهتمام الجماهيري والنقدي.