Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة وفنون

جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيء

في ركن شارع ضيق في حي باب سويقة الشعبي بالعاصمة التونسية، ترقد خيالات مجموعة من الصعاليك الذين قارعوا المجتمع التونسي الرازح تحت الاستعمار الفرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي، وطبعوا تمرّدهم في أشعارهم ومقالاتهم التي صدرت في صفحات جرائد هزلية، وحمل بعضهم نصوصهم المتمرّدة إلى ركح المسارح وأصبحت نصوصا أخرى؛ شعرا ملحونا تغنى به فنانون وتناقلته أفواه البسطاء.

عُرفت تلك المجموعة بجماعة “تحت السور”، حيث اتخذوا مقهى يسمى “خالي علي” -قبل أن يتحوّل إلى مقهى “تحت السور” نسبة إلى سور باب سويقة- مكانا للقائهم، يتسامرون فيه وينظمون الشعر ويطلقون تعليقاتهم الساخرة من كل شيء. لم تقاوم جماعة “تحت السور” بحمل البنادق أو القنابل، وإنما بسلاح وحيد هو السخرية والهزل، حيث كان كلّ تفصيل سياسي واجتماعي في مرمى ذلك السلاح.

تشكّلت جماعة “تحت السور” بعفوية، لكنها كانت بمثابة حقل مغناطيس جذب بعناية أشخاصا ذوي ملمح واحد: مثقفين أغلبهم فقراء يعيشون على الهامش إلى حدّ العبثية، يائسين من الوضع ساخرين منه، قادهم الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي عمّقه الاستعمار الفرنسي في فترة ما بين الحربين، إلى التمرّد على الواقع حتى باتوا منبوذين من المُستعمر ومن مثقفي النخبة أيضا.

حي باب سويقة العتيق الذي كان يحتضن مقهى تحت السور (مواقع التواصل)

أوحال الاستعمار تغرق المجتمع

تزامنت بداية نشاط جماعة “تحت السور” الأدبية في ثلاثينيات القرن الماضي، مع احتفال فرنسا بمرور نصف قرن على احتلالها تونس، وأعدت في سبيل ذلك محافل ضخمة كلّفت ميزانية المملكة التونسية آنذاك أموالا طائلة. في المقابل، عاشت تونس أزمة اجتماعية خانقة عمّقها الاستعمار من جهة، وصدّرتها أزمة الثلاثينيات العالمية من جهة ثانية.

يقول المؤرخ التونسي علي المحجوبي في كتابه “جذور الحركة الوطنية التونسية (1904-1934)”، إن هيمنة فرنسا على الاقتصاد التونسي المتمثل في الزراعة وتربية الماشية والتجارة في فترة الاستعمار، خلقت تناقضات قائمة على انهيار الاقتصاد المحلي من جهة، وسيطرة الرأسماليين الأجانب من جهة أخرى، وهي المعادلة ذاتها التي خلقها المستعمر الفرنسي على حساب التونسيين في جميع المجالات بما فيها التعليم. ويروي علي المحجوبي أن سياسة التمييز التي انتهجتها فرنسا ضد التونسيين في مجال التعليم تتجلى في تركيز مدارس عمومية أحدثتها فرنسا منذ قيام الحماية، وهي ممولة من ميزانية الإيالة التونسية وخصصت لتعليم الأوروبيين، ولم يستفد منها إلا ربع سكان البلاد من التونسيين.

خلق الوضع الاقتصادي الخانق في تونس حركة نزوح كثيفة من المحافظات الداخلية نحو المدن الكبرى وخاصة العاصمة، وهو ضغط فاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية ودفع شقا كبيرا من التونسيين إلى البحث عن أدوات مختلفة للهروب من الواقع، حتى لو كانت تلك الأدوات صنع الوهم أو السخرية السوداء أو حتى البوهيمية الفنية.

في فترة الثلاثينيات وخاصة قبيل الحرب العالمية الثانية التي دار جزء من أهم معاركها الطاحنة في تونس، وفي ظلّ ذلك الوضع الاجتماعي والاقتصادي الخانق وقبضة فرنسا التي شددتها على التونسيين، تأسست جماعة “تحت السور” كرد فعل طبيعي على التخلف والجهل والاستضعاف، مستعملة أقلام الهزل والسخرية في الشعر والأدب والصحافة والكاريكاتير.
وهنا يمكن تبيّن الخيط السري الذي جمع مجموعة مثقفين، لا يُعرف عددهم بالكامل، يجتمعون حول طاولة في مقهى رخيص، لتظهر بعد ذلك جماعة “تحت السور” التي أصبحت حركة ثقافية كاملة المعالم.

لا يدخلنّ علينا إلا مفلس منبوذ محب للفن

في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، جمعت طاولة في أحد مقاهي حي باب الجزيرة بتونس العاصمة؛ مجموعة من المثقفين المولعين بالأدب والصحافة والغناء والمسرح، وكان يجمعهم الفقر والإبداع والسخرية، ويقال إن رواد المقهى كانوا ينظرون إلى تلك المجموعة بريبة كبيرة. تكررت جلسات تلك المجموعة في كل يوم، غير أنهم لم يكونوا قادرين على دفع ثمن مشروبهم، فاغتاظ منهم صاحب المقهى، وقرروا البحث عن مجلس آخر يجمعهم، فاقترح عليهم رفيقهم مقهى “خالي علي” في حي باب سويقة الذي تجمعه علاقة صداقة بصاحبه، ورحبوا بفكرته خاصة أن صاحب المقهى لم يكن يطالبهم بالدفع الفوري لثمن مشروبهم، وأصبح مقهى “خالي علي” مجلسا يجتمع فيه الشعراء والكتاب والفنانون، ولُقّب بمقهى “تحت السور” لسببين: الأول أنه كان ملاصقا لسور باب سويقة، والذي لم يعد له وجود الآن شأنه شأن المقهى، والثاني أن لمصطلح “تحت السور” بُعدا رمزيا يختزل الهامشية التي فضّلت البقاء خارج الأسوار.

ضمّت جماعة “تحت السور” أدباء كبارا مثل علي الدوعاجي ومصطفى خريف والشاعر أبو القاسم الشابي ومحمود بيرم التونسي ومحمد العريبي والفنان الهادي الجويني والحكواتي عبد العزيز العروي، والكاتب زين العابدين السنوسي والأديب المسرحي عبد الرزاق كرباكة.

يقول علي الدوعاجي في كتاب “تحت السور” واصفا الجماعة “لا أود أن يذهب بالك إلى معتزلة الكوفة من أصحاب الحسن البصري، وإنما إلى معتزلتنا هؤلاء الذين اعتزلوا مقهى باب المنارة وجماعة شعراء الفصحى، ونزلوا إلى مقهى تحت السور”.

اختارت جماعة “تحت السور” أعضاءها بعناية، فذاع صيتها وجذبت إليها من تَصعلك على شاكلتها، ويروي علي الدوعاجي دخول الأديب والشاعر محمد العريبي، وهو شاب ذو أصول جزائرية، إلى المجموعة قائلا “تعرّفنا إلى شاب جزائري الأصل، تونسي المولد، دون العشرين من العمر، يطلب العلم في الكلية الزيتونية ويطالع كل ما يقع تحت أصابعه الطويلة من كتب العرب والفرنجة إلا الكتب الدراسية المفروض عليه درسها، فهو لا يمسّها بخير ولا بسوء، خفيف الروح، خفيف الجسم، طويل القامة والوجه واللسان والحديث، سريع الغضب والحركة والنكتة، وجدنا فيه البوهيمي الكامل الذي لا يحفل لشيء… وقد أظهر من ضروب الشذوذ ما برر قبولنا إياه دون امتحان”.

ويصف مصطفى خريّف -وهو أحد أعضاء الجماعة- لقاء علي الدوعاجي بمحمد العريبي قائلا “في دار العرب عرف علي الدوعاجي محمد العريبي، فقدمه بدوره إلى جماعة تحت السور بباب سويقة. وهذا المقهى لا يمكن أن يكون وسطا ملائما لتلميذ همُّه الدرس والتحصيل، فجلّ رواده في تلك الآونة من المتأرجحين بين شذوذ السلوك وشذوذ العبقرية. جماعة تنشد الهروب من واقعها المتردي فتنغمس في ملذاتها، وإن لم يكن جلهم في مأمن من الحاجة المادية. هم فئة من الشباب التونسي تُخلِص لفنها ولرفاقها إخلاصا عجيبا.. تشابهت في الإفلاس وحب الفن”.

كان محمد العريبي طالبا في الجامع الأعظم، ولكنه انقطع عن تعليمه عند انضمامه إلى جماعة “تحت السور” بسبب اعتراضه الكبير على الجانب التلقيني في التعليم المدرسي، حاله حال رفيقه في الجماعة عبد الرزاق كرباكة الذي حرم من شهادة التطويع بعدما بلغ شيوخَه ميلُه إلى “الفن واستهتاره على طريقة جماعة تحت السور”.

إنّ سرّ الانسجام الغريب الذي نشره مقهى “تحت السور” بين أعضاء تلك الجماعة، هو التقاء أعضائها في الوعي المصحوب بالفقر، فتفجّرت روح الفكاهة فيهم ومن بعدها الإبداع. لقد كان المقهى مكانا ملائما للاجتماع لقربه من الشوارع التي تحفرها خطوات المهمشين بكل أشكالهم، رجالا ونساء، وهي شوارع ملهمة لشعراء وكتاب تلك الجماعة.

تقول في ذلك الباحثة ابتسام الوسلاتي في كتابها “الهامشية في الأدب التونسي.. تجربة جماعة تحت السور”:

“الشعر ليس استراحة في محطة الانتظار، ولن يكون تذكرة للوصول إلى بوابة الأمان. الشعر لا ينمو إلا وسط المزابل والأوحال والحفر. الشعر سفر دائم دون جواز أو حقائب. والشاعر يبدأ ويبزغ وينفجر فجأة مع مواء قطة، أو لحظة يسقط في مزبلة”.

الهامشية في الادب التونسي
الباحثة ابتسام الوسلاتي تناولت في كتابها “الهامشية في الأدب التونسي” سر الانسجام الغريب الذي نشره مقهى تحت السور بين أعضاء الجماعة (الجزيرة)

الجماعة المقاومة بسيوف السخرية

يذكر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه “الضحك”، أن “السخرية هي عملية تحديد البشاعة في الشيء الذي نرفض أن يكون بشعا، والضحك عقاب على البشاعة، فيجب أن تزول البشاعة حتى لا يتمادى الإضحاك، فالضحك صوت إصلاح، تلك هي وظيفة الضحك”.

لا يمكن بأي حالٍ الجزم أن أيّا من أبناء جماعة “تحت السور” قد درس أو طالع كتاب برغسون أو نظر للسخرية بطريقة فلسفية، لكن توصيف الفيلسوف الفرنسي مطابق تماما لنهج الجماعة التي انتهجت أسلوب السخرية لنقد المجتمع والسياسة في بلد يرزح تحت الاستعمار، وذلك لسببين: الأول كما ذكره برغسون أي تحديد البشاعة، أو بالأحرى البحث عن موضع البشاعة في المجتمع ومعاقبتها بالإضحاك، والثاني أن الجماعة اشتركت في تمرّدها ضدّ كل ما هو سائد، بما في ذلك تمرّدها على الخطاب الفكري المتعالي على المهمّشين، لذلك اختاروا الإضحاك والسخرية من أجل النقد والمقاومة.

مع تطور جماعة “تحت السور” إلى تيار فكري مقلق، اتجهت أصفاد الشرطة الفرنسية إلى الحركة الناشئة وبدأت تضيّق الخناق على أعضائها وجرائدها، تقول الباحثة سكينة عصامي في بحثها “الأوضاع العامة بالبلاد التونسية خلال الحرب العالمية الثانية 1939-1945”: إن “السلطات الاستعمارية بادرت منذ بداية الحرب العالمية إلى إعلان الأحكام العرفية وإلغاء الحريات العامة وتضييق الخناق على النشاط الوطني من خلال تشديد الرقابة على الصحف وتعطيلها مثل: تونس الفتاة والزهرة، كما تم نقل الزعماء الدستوريين المعتقلين إلى سجن نيكولا بمرسيليا، وبذلك فقد انتصبت المحاكم العسكرية التي تشكلت بين 1938 و1942، اعتقادا منها أن الوضع سيهدأ”.

كان الشاعر محمد العريبي، وهو من أعضاء الجماعة، أحد محرري صحيفة “الزهرة” وصحيفة “صبرة” الهزلية، وقد أوقفت سلطات الاستعمار صدورهما بعد اقتياد العريبي إلى السجن إثر مواجهات 9 أبريل/نيسان 1938 الدامية.

لم تسلم الصحف الهزلية من الإيقاف بعدما شهدت رواجا كبيرا بين عامي 1936 و1938، حيث لقيت جمهورا مقبلا على التهام أخبار من الواقع القاتم، صيغت بأسلوب هزلي، وهي انتعاشة ساهم فيها قدوم بيرم التونسي إلى تونس وانضمامه إلى جماعة “تحت السور”، وقد كان متشبعا بتيار فني مشابه قاده عباقرة مثل بديع خيري وسيد درويش. ساهم بيرم التونسي في تطوير الصحافة الساخرة، كما أصدر صحيفة “الشباب”، وساهم مع كتّاب آخرين في تنشيط صحف ساخرة أخرى مثل صحيفة “السرور” التي أسسها علي الدوعاجي عام 1936.

في افتتاحية تهكمية صادرة بأحد أعداد صحيفة “الشباب”، كتب مؤسسها بيرم التونسي ناقدا نهب الاستعمار لثروات البلاد، وجاء في مقتطفٍ منها “وبعد، فاضْحك أيها الشباب، لأن كل شيء حولك يسير على ما يرام، بلادك تجود للعالم بأكبر محصول الزيت المبارك، وتخرج أجود أنواع التمر الشهي ومقادير هائلة من القمح الممتاز، وفيها مناجم غنية بالفوسفات والرصاص والبترول، ولكن آباءك وأعمامك هؤلاء يضعون أيديهم على خدودهم ويقولون والدموع تنهمر من أعينهم: الله غالب، بلادنا فقيرة، معدمة، مجدبة، بائسة، وهم صادقون، فهذه المباني الشامخة المؤلفة من عشر طاقات، وهذه الفيلات الضخمة المحاطة بالحدائق الغناء، وهذه السيارات الخصوصية التي تبلغ عشرات الألوان، كل هذا جلبه الإفرنج في حقائبهم من الخارج ووضعوه فوق أرض تونس. ولك أيها الشباب مجلس نيابي يجعل بلادك مساوية للبلاد البرلمانية من إنجلترا إلى موناكو، يمثلك في هذا المجلس نواب توفرت فيهم كل المزايا اللازمة للنواب الأكفاء كالجهل بالقراءة والكتابة، والتجرد من الوطنية الصادقة، والاستهانة بتونس ومن عليها”.

لم تكن المعركة بين التونسيين والمستعمر الفرنسي متكافئة على الإطلاق، فلا ترسانة ولا عتاد للتونسيين في ذلك الوقت سوى أقلامهم، وهو ما تبيّنه الباحثة صبيحة جمعة في دراسة “الجدّ والهزل في الخطاب الفكاهي وآليات إنشائه لدى علي الدوعاجي.. سهرت منه الليالي نموذجا”، حيث تقول إنه “نظرا لعدم التكافؤ بين قوى الاستعمار والإمكانات النضالية، فقد فتح المناضلون باب النشاط الصحافي المكثّف أسلوبا نضاليّا، وردّوا على مرارة مآسي بلادهم بكثرة الصحف الساخرة، وكثرة المسرحيات والقصص ذات المنزع القومي العربي والإسلامي والوطني التونسي. في هذا السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، نشأ علي الدوعاجيّ إنسانا ففنّانا فمناضلا بأدبه، راج فنّه عبر النشاط الصحافي الغزير، وعبر الصحافة الهزليّة التي تصدّرت حلبة النضال جاعلة الإضحاك أداة نقد وإصلاح”.

كانت السخرية سلاح علي الدوعاجي ورفاقه في تحدي الواقع الذي صنعه الاستعمار، ولئن لم يستسغ بعض كتّاب تلك الفترة أسلوب جماعة “تحت السور”، فقد نجح أعضاء تلك الجماعة في أن ينتزعوا اعترافا بعبقريتهم من الحبيب بورقيبة نفسه والمناضل محمود الماطري، وهما من قادة الحزب الحر الدستوري، حيث كتب بورقيبة إلى بيرم التونسي الذي أسس جريدة “الشباب” الهزلية قائلا “عزيزي بيرم، رأيت جريدتك الشباب من خيرة الجرائد التي ينتفع بها الشعب التونسي فسر على بركة الله”، كما أرسل محمود الماطري لمحرري الصحيفة رسالة جاء فيها: “إني أقرأ جريدة الشباب كل أسبوع، وأعتقد أنها من أحسن الصحائف لتربية الشعب وتثقيفه مع تسليته”، ونشرت الصحيفة الرسالتين في عددها الصادر يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1936.

يقول عز الدين المدني عن الجماعة: “لم يكن في وسع هؤلاء الرواد أيام شبابهم أن يواصلوا تعليمهم في المدرسة الصادقية لقلة ذات اليد، فانكبوا يثقفون أنفسهم بصورة عصامية، بالمطالعة، بالتأمّل، بالاحتكاك الاجتماعي المستمر، بالتتلمذ لأدباء سبقوهم في الميدان، بالدخول في صلب الحركة الوطنية التحريرية، والذود عنها على أعمدة الصحف أو على أركاح المسارح. كانت السياسة الاستعمارية تعمل عملها فيهم، بقطع آمالهم وتقويض رجائهم، بتفريقهم وعزلهم، وبث البوليس والخائن والمخبر في صفوفهم”.

الصحف الهزلية.. معاول الهدم والبناء

في 30 أغسطس/آب 1936، أسس الروائي علي الدوعاجي -وهو أحد أعمدة جماعة “تحت السور” والأدب التونسي عموما- صحيفته الهزلية “السرور”، وروّج للعدد الأول من صحيفته بأبيات شعر باللهجة التونسية جاء فيها “سميتها سرور… كيف ريتك… قاعد مقهور… حبيتك… ترقص وتدور… في بيتك”.

اعتمدت الصحيفة على المقالات الساخرة المنتقدة للأوضاع الاجتماعية والسياسية بأسلوب هزلي وناقد في الآن ذاته، وغالبا ما تفتتح صفحتَها الأولى برسم كاريكاتيري يصور فيه الدوعاجي بطريقة ساخرة إحدى قضايا الساعة ورؤية جماعة “تحت السور” لها. في العدد الصادر بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول 1936، تصدّر كاريكاتير بعنوان “تونس تحتل إسبانيا”، الصفحة الأولى من الجريدة، وكان عبارة عن رسمة لرجال باللباس التقليدي التونسي في جلسة بأحد القصور، تُرافق مقالا ساخرا عن العلاقة بين الإسبان والعرب.

العدد الأول من جريدة السرور في 10 أغسطس 1936 (مركز التوثيق الوطني)
العدد الأول من جريدة السرور في 10 أغسطس/آب 1936 (مركز التوثيق الوطني)

تمثل جريدة “السرور” حسب مؤرخي فترة الاستعمار الفرنسي، أهم الصحف الساخرة التي شهدتها تونس. في المقابل يُجمع كثيرون منهم على أن بيرم التونسي هو صاحب الفضل في ازدهار الصحافة الهزلية في تونس عند قدومه إليها عام 1932. وقد عزّز بيرم التونسي مشهد الصحافة الهزلية بتأسيسه جريدة “الشباب” عام 1936، وهي بدورها صحيفة هزلية ناقدة للأوضاع التي تعيشها تونس بسبب الاستعمار.

في أحد المقالات المتهكمة في الصحيفة بعنوان “مجلس السواقر والسيقار والقهوة والتاي والأبيريتيف”، أي مجلس السجائر والسيجار والقهوة والشاي والخمر، انتقد فيه كاتبه حرمان صحف مثل صحيفة “الشباب” من الحضور لتغطية مداولات المجلس الأكبر، وذلك بالقول إن “الصحف الأسبوعية الحقيرة كالشباب مثلا، لا يُسمح لها بدخول حظيرة المجلس الكبير لسماع مناقشات نوابنا الكرام، لكن الصحفي العاقل لا يأسف على حرمانه من حضور مناقشات هذا المجلس التي ليس فيها غير جعجعة وصرصرة”.

كانت الصحافة الهزلية التي قادتها جماعة “تحت السور”، إلى جانب الشعر والقصص القصيرة، إحدى جبهات القصف الساخر رديف التمرد والمقاومة، واضطلعت بدور الإسناد لأهم خطط الحزب الحر الدستوري الذي وضع ضمن برامجه توعية المجتمع، وهو برنامج واصلَه الحبيب بورقيبة طيلة سنوات من فترة رئاسته عبر ما يسمى “توجيهات الرئيس” التي كان يبثها التلفزيون التونسي الرسمي، واستعار فيها بورقيبة أسلوب جماعة “تحت السور” الهزلي.

لم تصمد الجماعة رغم أنها أصبحت حركة ثقافية كاملة، وتفرّق أعضاؤها بعد أكثر من عقد من الزمن اجتمعوا خلاله وألّفوا الشعر والأغاني والقصص والمقالات، فقد عاد بيرم التونسي إلى مصر، وضاقت تونس بمحمد العريبي، البوهيمي الحق، فسافر إلى برازافيل بالكونغو قبل أن ينتقل إلى باريس حيث توفي عام 1946، وقيل إنه انتحر، ولم تمض ثلاث سنوات على وفاته حتى قضى علي الدوعاجي بعد إصابته بمرض السلّ. تفرّق عقد جماعة “تحت السور” دون أن يتذوّقوا حلاوة النصر على المستعمر وعلى المجتمع، حتى المقهى الذي اجتمعوا فيه، وتسامروا على طاولاته، هُدم في سبعينيات القرن الماضي ولم يعد له أي ملمح، بعدما تحوّل موقعه إلى واجهة لمحلين تجاريين، الأول لبيع أكلة شعبية والآخر لكراء فساتين الزفاف.

لم تكن جماعة “تحت السور” مجرّد مجموعة من المثقفين المهووسين بالسمر والضحك، بل أسسوا بوعي، تيارا ثقافيا حاول المقاومة حتى بعد رحيل المقهى وجماعته.

آثار المقهى وأشباح الماضي

في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وقبل أن تنال تونس استقلالها، عادت الصحافة الهزلية للظهور بروح جماعة “تحت السور” الساخرة والناقدة، ففي يناير/كانون الثاني 1955، أسس الهادي العبيدي صحيفة “الفرززو” (أي الدبور)، وكانت مشابهة إلى حد بعيد في أسلوبها وإخراجها لصحيفتي “السرور” و”الشباب”، حيث اعتمد صاحبها على الكاريكاتير الذي يتوسط الصفحة الأولى للجريدة، وعلى المراوحة بين اللغة العربية الفصحى واللهجة التونسية في كتابة المقالات الساخرة.

لم تشهد الصحافة الهزلية التي ألقت عليها جماعة “تحت السور” بظلالها؛ انتعاشة كبرى، لكنها استمرت بالعمل في فترة حكم الرئيس بورقيبة، إذ تأسست صحيفة “الجزيري” عام 1961، و”القنفود” في يوليو/تموز 1962، و”أضواء المدينة” عام 1971، وصحيفة “الإمتاع” في مايو/أيار 1979، قبل أن تضمحل تلك الصحف في بداية الثمانينيات بعد الانغلاق السياسي الواضح لنظام بورقيبة، خاصة مع وصول محمد المزالي على رأس الوزارة الأولى.

قُبرت تجارب الصحافة الهزلية في آخر عقد من حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، لكن روح جماعة “تحت السور” استوطنت شعراء تونسيين، مثل الصغيّر أولاد أحمد الذي يمكن وصفه بأنه رسول الجماعة بعد اندثارها. كان الشاعر الصغيّر مثقفا ساخرا سليط اللسان مثل علي الدوعاجي، وشبيها بمحمد العريبي في بوهيميته، وقد كتب في قصيدة “نشيد الأيام الستة” عام 1984، مخاطبا بسخرية الرئيس بورقيبة “أنا لا أعشق الرؤساء، لكنّي سأمشي في جنازتهم”.

على مدار قرابة قرن من الزمن، استنسخت أرواح جماعة “تحت السور” بأشكال مختلفة في القصائد والمقالات، وحتى في التعبيرات الفردية على شبكات التواصل الاجتماعي التي تتخذ السخرية لنقد الأوضاع في تونس، ليتبيّن أن الجماعة هي تيار ثقافي صرف يُستحضر كلّما ضاقت عبارات الأنتليجنسيا المنمّقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى