حكم شهرا واغتاله الثوار.. الدروبي أول رئيس وزراء لسوريا أثناء الانتداب
![](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/EWQ4-1-1739794939-780x470.jpg)
في أبريل/نيسان عام 1920عُقد مؤتمر سان ريمو، وفيه أصدر مجلس الحلفاء قرارا رسميا منح بموجبه فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان.
ولم يمضِ سوى أشهر قليلة حتى صعّدت فرنسا ضغوطها على حكومة الملك فيصل الأول في دمشق، ففي 14 يوليو/تموز 1920، وجّه الجنرال هنري غورو، الممثل الفرنسي في لبنان إنذارا رسميا إلى الحكومة السورية والمؤتمر السوري يطالبهم فيه بتنفيذ مجموعة من الشروط التي كانت بمثابة إعلان استسلام فعلي لفرنسا.
واضطر الملك فيصل وكبار وزرائه إلى القبول بالأمر الواقع، وأصدروا أوامرهم بسحب القوات العسكرية من الحدود اللبنانية إلى الداخل وتسريح الجيش، غير أن هذا القرار أثار امتعاض الجماهير السورية التي اعتبرت ذلك خيانة وتقاعسا عن الدفاع عن البلاد، مما أدى إلى تصاعد التوتر الشعبي ضد الحكومة وقوات الاحتلال الفرنسي.
وفي ظل الغضب الشعبي العارم، أعلن الملك فيصل تراجعه عن قرار الانسحاب، مقررا مواجهة الفرنسيين والدفاع عن سوريا، ورغم شجاعة المقاومة السورية، فقد كانت الإمكانات العسكرية محدودة، إذ واجه الجيش السوري قوات فرنسية تفوقه عددا وعتادا، وانتهت معركة ميسلون بسيطرة القوات الفرنسية على دمشق.
ومثّل هذا الحدث نقطة تحول في التاريخ السوري الحديث، حيث بدأت مرحلة الانتداب الفرنسي، التي امتدت لربع قرن، تاركة تأثيرا عميقا على المشهد السياسي السوري لعقود طويلة تالية.
وقد برز في هذه الحقبة عدد من الشخصيات السورية التي لعبت أدوارا مهمة، كان منهم السياسي ورجل الدولة علاء الدين الدروبي الذي تقلب في الوظائف العثمانية سابقا مرورا بالعهد الفيصلي وأخيرا في الأيام الأولى لحقبة الاحتلال الفرنسي، قبل أن يلقى نهاية مأساوية على يد الشعب السوري في منطقة حوران.
الدروبي ووظائفه السياسية
وُلد علاء الدين الدروبي في مدينة حمص عام 1870 لعائلة كان لها شأن كبير، فوالده عبد الحميد باشا الدروبي كان مدير الأراضي السنية السلطانية في حمص، ورئيس بلديتها عدة مرات.
وفي حمص تلقّى علاء الدين تعليمه الأولي قبل أن ينتقل إلى أستانا لمتابعة دراسته، فكان من بين 3 شبان بارزين من حمص ارتحلوا إلى العاصمة العثمانية لنيل التعليم العالي، وهم نجم الدين الدروبي وهاشم الأتاسي إلى جانبه، وهنالك التحق الثلاثة بمعهد غلطة، حيث درسوا القانون السياسي والقانون الدولي، وحصلوا على شهاداتهم من هذا المعهد الذي كان يُعدّ من أبرز المؤسسات التعليمية آنذاك.
وفوق ذلك، درس الدروبي الطب وبرع فيه، وخلال تلك الفترة برز اسمه بين الشخصيات المؤثرة، حتى أصبح أحد الأطباء المقربين من السلطان عبد الحميد الثاني، كما يذكر المؤرخ فيليب خوري في كتابه “سوريا والانتداب الفرنسي”.
ووفقا لموقع عائلة الدروبي الإلكتروني، فإن علاء الدين شغل مناصب سياسية رفيعة داخل الدولة العثمانية، إذ عُيّن سفيرا للباب العالي في منطقة البلقان، ثم انتقل لتولي منصب والي مملكة اليمن، قبل أن يُعيَّن حاكما للبصرة، وقد شكّلت هذه المناصب رصيدا كبيرا له في العمل السياسي والإداري، ما جعله واحدا من الشخصيات المؤثرة في المشهد العثماني.
وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانسحابها من بلاد الشام، عاد الدروبي إلى سوريا ليبدأ فصلا جديدا من حياته السياسية، حيث شارك في الحكومة التي شكّلها هاشم الأتاسي عام 1920 خلال حكم الملك فيصل الأول، وفيها تولى منصب وزير الداخلية، وكان عضوا في “الحزب السوري الوطني” الذي كان يكن معارضة مكتومة للملك.
وكما يذكر المؤرخ محمد الأرناؤوط في كتابه “من الحكومة إلى الدولة، تجربة الحكومة العربية في دمشق (1918- 1920)” فإنه بعد يومين من هزيمة ميسلون لجأ فيصل إلى تشكيل حكومة جديدة من هذا الحزب برئاسة علاء الدين الدروبي، إلا أن الحزب الوطني السوري بزعامة الدروبي ذهب في تعاونه مع الفرنسيين إلى حد الطلب من الملك فيصل مغادرة البلاد بعد 3 أيام فقط.
وقد دفعت التطورات السياسية التي أعقبت خروج فيصل من سوريا الفرنسيين إلى تثبيت تكليف علاء الدين الدروبي بتشكيل حكومة جديدة في يوليو/تموز من العام نفسه، وهو ما قام به بالفعل، ليصبح بذلك أحد الشخصيات التي لعبت دورا مهما في المرحلة المبكرة من الانتداب الفرنسي على سوريا.
![**داخلية** علاء الدين الدروبي وزوجته نسيبة خانم منصة اكس - @sabah](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/67ثقل-1739797011.jpg)
يذكر أحمد قدري طبيب الملك فيصل الخاص في مذكراته التي عنونها “مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى” أن فيصل انصاع لقرار مغادرة سوريا، وركب قطار الحجاز من العاصمة دمشق، وكانت محطة القطار التالية درعا المعروفة بحوران في جنوب سوريا”.
يضيف قدري أنه “حين انتشر الخبر بين الناس بوصول الملك فيصل، أقبل على أثرها شيوخه وزعماؤه متوافدين للترحيب بالملك، وقد تجمعت هناك متطوعة العقيل النظامية وفقا للخطة التي كانت وُضعت بعد أن أبلوا بلاء حسنا في مقاومة الجيش الفرنسي، ولم يُمكّنوه من دخول وادي بردى للالتقاء بالقوى الفرنسية، وقد أكرمهم الملك”.
وأمام هذا الالتفاف الشعبي لأهل حوران حول الملك، وبلوغ هذه الأخبار إلى الفرنسيين في دمشق، فقد أمروا رئيس الوزراء علاء الدين الدروبي بأن يرسل برقية إلى الملك فيصل يأمره فيها بضرورة الخروج من سوريا ومواصلة سفره إلى الحجاز، ولكن فيصل قرر أن يواصل السفر إلى حيفا ومنها إلى أوروبا “للدفاع عن الحق المغتصب لدى جمعية الأمم وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية”.
وأرسل الفرنسيون بعض طائراتهم إلى المنطقة لإلقاء المنشورات على الأهالي لإرهابهم وتخويفهم من الالتفاف حول فيصل أو تقديم الحماية له، كما يقول طبيبه الخاص أحمد قدري في مذكراته.
![(Original Caption) Death of King Faisal. Faisal, King of Iraq, whose sudden death is just announced. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images)](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/EWQ2-1739782108.jpg)
القمع يشعل الثورة
لا شك أن هذا التعامل الخشن مع فيصل -الذي رأى فيه أهالي حوران ملكا مظلوما لا يستحق هذه المعاملة من الفرنسيين وأعوانهم الجدد وعلى رأسهم الدروبي- جعل شعورهم تجاه السلطة الجديدة في نقمة بالغة، وزادت من هذه النقمة الإجراءات التي اتخذها الفرنسيون عقب خروج الملك بيومين فقط.
فقد أصدر قائد الحملة الفرنسية، الجنرال غوابيه، بيانا أعلن فيه تجريد الملك فيصل من سلطته، وفرض غرامة حربية على سوريا بلغت 10 ملايين ليرة ذهبية، بزعم تعويض فرنسا عن خسائر الحرب.
كما قرر حلّ الجيش السوري وتجريده من السلاح، وطالب بتسليم الشخصيات الوطنية البارزة لمحاكمتهم أمام المحكمة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، فرض على السكان تسليم 10 آلاف بندقية لقوات الانتداب الفرنسي، في محاولة لنزع سلاح الأهالي وإحكام السيطرة على البلاد.
وفي أعقاب هذه الإجراءات، أصدر رئيس الوزراء علاء الدين الدروبي قرارا يقضي بتوزيع الغرامة المالية المفروضة على المدن والمحافظات السورية، وبدأ بتنفيذ عملية جمعها من السكان، وهو ما يشبه ما فعله المغول قديما حين دخول تيمورلنك دمشق وفرض على كل بيت فيها غرامة مالية مرهقة بحجة مقاومتهم للمغول.
وكما يقول فؤاد كنج أوراس في كتابه “الانتداب الفرنسي ويوميات الثورة الوطنية السورية الكبرى”، ففي الوقت نفسه، حاولت السلطات الفرنسية فرض نفوذها على مختلف المناطق السورية، فأرسلت مفرزة عسكرية مؤلفة من 20 جنديا سنغاليا إلى حوران، إلا أن أهالي المنطقة رفضوا وجود هذه القوة وأجبروها على العودة إلى دمشق بالقطار نفسه الذي جاءت به، في موقف جسّد رفض السوريين للهيمنة الفرنسية ومقاومتهم المبكرة للاحتلال، وانتقاما لطرد الملك فيصل وملاحقته بالطيران الفرنسي في قرى ومدن حوران.
وفي 21 أغسطس/آب 1920 لم يتوقف أهالي حوران عند هذا الحد، فقد اتخذوا قرارا بالدفاع عن استقلال بلدهم من الاحتلال الفرنسي، وثاروا بزعامة الشيخ إسماعيل الحريري، فأسرع قائم مقام حوران بإبلاغ الوزارة في دمشق بهذه التطورات.
![بالهجري: الجنرال غورو](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/945c4e4c-ebb9-4c17-821e-302de90e62ec.jpeg)
مقتل الدروبي ومشهد النهاية
أدرك الفرنسيون أن هذا التحدي يشكل عقبة أمام ترسيخ وجودهم في المنطقة، فحاولوا احتواء الموقف من خلال إرسال رئيس الوزراء علاء الدين الدروبي إلى حوران لتهدئة الأوضاع وإقناع زعمائها بقبول دعوة الجنرال غورو المندوب السامي الفرنسي لمناقشة مسألة الغرامات المفروضة على منطقتهم والتوصل إلى اتفاق بشأن طريقة سدادها.
تكوّن الوفد الذي رافق الدروبي من شخصيات بارزة، كان من بينهم عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيس مجلس الشورى، والذي ظن الفرنسيون أن له نفوذا على أهالي حوران بفضل علاقته الوطيدة بفارس الزعبي، أحد زعماء المنطقة.
كما ضم الوفد وزير الداخلية عطا الأيوبي، والشيخ عبد القادر الخطيب، والسيد أحمد الخاني مرافق رئيس الدولة، إضافة إلى منير بدر خان.
وكما يذكر نجاة سليم محاسيس في كتابه “معجم المعارك التاريخية”، أنه قبل مغادرة الوفد دمشق، تسربت أنباء رحلته إلى زعماء العشائر في حوران، فبادر الشيخ فواز البركات الزعبي إلى عقد اجتماع طارئ في منطقة الأزرق مع المجاهدين أحمد مريود، ونبيه العظمة، والأمير محمود الفاعور بني العباس، وخلال هذا الاجتماع، اتفق المجتمعون على تصفية جميع أعضاء الوفد والاستيلاء على القطار الذي يقلّهم، ثم نقله إلى عمّان، وأُسندت مهمة تنفيذ العملية إلى مجموعة من الثوار وشباب العشائر الحورانية، الذين كُلفوا بالتحرك عند وصول القطار إلى منطقة خربة غزالة.
![البوم صور وثائقي الحرب العالمية الأولى - عرب على قطار الحجاز](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/9af4b84f-633b-4214-8978-e4ee62f773b4.jpeg)
عندما بلغ نبأ هذه الزيارة إلى متصرف حوران، سارع إلى إرسال برقية إلى وزير الداخلية يحذّره فيها من أن الأوضاع في المنطقة متوترة للغاية، وأن حالة الغليان الشعبي قد تؤدي إلى عواقب خطيرة، مطالبا بتأجيل الزيارة حتى تهدأ الأوضاع.
وبعد أن أدرك إصرار المسؤولين على المضي قدما في خطتهم، أرسل برقية ثانية شدد فيها على خطورة الموقف وضرورة العدول عن الرحلة مؤقتا.
وصلت البرقية الأولى إلى وزير الداخلية، غير أن الثانية تأخرت عن التسليم، ولم تصل إلا بعد دقائق قليلة، كان خلالها الوفد الحكومي قد غادر دمشق بالفعل واستقل القطار متجها نحو درعا.
عند وصول القطار إلى محطة خربة غزالة، كان الثوار وشباب العشائر الحورانية في انتظارهم، فباغتوا القطار بوابل من الرصاص، فلقي رئيس الحكومة علاء الدين الدروبي مصرعه على الفور، بينما حاول عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيس مجلس الشورى، الفرار إلى مخفر الشرطة، لكن الثوار طاردوه وقتلوه هناك، كما قُتل معظم الضباط والجنود الفرنسيين الذين كانوا يرافقون الوفد في هذه الرحلة.
![Soldiers of the French Foreign Legion travelling by wagon, Syria, 20th century. The French Foreign Legion was established in 1831 as an elite unit of foreign volunteers. The Legion's primary function in the 19th and early 20th century was the expansion and protection of France's overseas territories. Syria was governed by France between the two World Wars under the terms of a League of Nations mandate. (Photo by Art Media/Print Collector/Getty Images)](https://dailygulfnews.com/wp-content/uploads/2025/02/GettyImages-1277979968-1738150397-e1738150425327.jpg)
عواقب الاغتيال
أثار اغتيال علاء الدين الدروبي ورفاقه موجة غضب عارمة لدى السلطات الفرنسية، فبادر الجنرال غوابيه، قائد الفرقة الثالثة لجيوش الشرق الفرنسية في سوريا، إلى توجيه إنذار شديد اللهجة في الثاني من سبتمبر/أيلول 1920 إلى شيوخ وأهالي حوران، مطالبا إياهم بتسليم منفذي الهجوم في خربة غزالة. غير أن هذا التهديد لم يلقَ استجابة، بل قوبل بمزيد من التصعيد من قبل الثوار، الذين واصلوا عملياتهم ضد القوات الفرنسية المحتلة.
وكما يذكر نجاة سليم في كتابه السابق، فإن فرنسا رأت أن المسؤول عن هذه الأحداث هو الملك المخلوع فيصل بن الحسين، خاصة بعد زيارته درعا واجتماعه بزعماء حوران، وردا على ذلك، أصدر الجنرال غورو أوامره للحكومة التابعة له في دمشق بفرض عقوبات صارمة على أهالي حوران، شملت غرامات مالية باهظة.
حُددت دية الدروبي ورفيقه عبد الرحمن اليوسف بـ10 آلاف ليرة ذهبية لكل منهما، و5 آلاف ليرة عن وحيد عبد الهادي، بالإضافة إلى 5 آلاف ليرة عن كل ضابط فرنسي قتل في الهجوم، و500 ليرة عن كل جندي فرنسي. كما فرضت غرامة حربية بلغت 100 ألف ليرة ذهبية، وحُكم بالإعدام على مجموعة من الثوار المتهمين بتنفيذ الهجوم.
وبعد اغتياله، نُقل جثمان علاء الدين الدروبي إلى مسقط رأسه في حمص، حيث وُري الثرى.