“حيث تبكي أشجار الزيتون”.. أشيرة درويش تسأل: ما الذي يعمي الظالم؟
سراييفو- احتفى حضور كبير بالعرض السينمائي لفيلم “حيث تبكي أشجار الزيتون” في الجلسة الافتتاحية لمهرجان الجزيرة بلقان السابع للأفلام الوثائقية، والذي أقيم في العاصمة البوسنية.
ويفتح الوثائقي نافذة على نضالات فلسطينية ويناقش أشكال الصمود والتكيف تحت الاحتلال الإسرائيلي، مسلطا الضوء على التحديات الإنسانية العميقة التي تواجهها العائلات الفلسطينية.
وقال مدير المهرجان أدهم فوتشو في حديث للجزيرة نت “لقد صدمنا وخاب أملنا، لأن المهرجانات والأحداث الثقافية الكبرى في جميع أنحاء العالم كانت خجولة ومتحفظة بشأن قضية الإبادة الجماعية في فلسطين، لقد رفضنا أن نستسلم للضغوط الغربية، ونريد تناول قضية أسوأ فظائع العصر الحديث، خاصة أننا معروفون جيدا بمهرجاننا الرائد في هذا الجزء من العالم”.
يكشف الفيلم معاني الخسارة والصدمة والسعي لتحقيق العدالة، ويتابع الصحفية والناشطة أشيرة درويش والناشطة عهد التميمي، وغيرهما.
ونشهد الطبيب النفسي غابور ماتي وهو يقدم علاجا للصدمات النفسية لمجموعة من النساء اللاتي تعرضن للتعذيب في السجون الإسرائيلية.
ومن خلال تجارب القمع نلقي نظرة خاطفة على جذور الصمود العميقة التي حملت الشعب الفلسطيني عبر عقود من الظلام والحياة المحطمة.
وتكشف رحلة الفيلم العاطفية “إنسانية المضطهدين” فيما تتصارع تلك الإنسانية المعذبة للإجابة عن سؤال: كيف لا يرى الظالم قسوته ويظل أعمى أمام ما يفعل؟
وبعد عرض الفيلم شارك الجمهور البوسني والدولي في نقاش مع أشيرة درويش التي استضافتها الجزيرة نت، لتروي قصة الفيلم وتشرح كيف يؤثر الاحتلال على المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، فإلى الحوار:
-
حضرنا عرض فيلم “حيث تبكي أشجار الزيتون” في سراييفو، احكي لنا قصة الفيلم
كنت قد تواصلت مع الدكتور غابور ماتي (مجري كندي) بصفته معالجا نفسيا معروفا عالميا، وقد حكيت له أني أحتاج منه أن يأتي إلى فلسطين للانضمام في ورشة عمل مع برنامجي للعلاج الشمولي، وفورا، وافق الدكتور وأبدى ترحيبه بالفكرة، وكانت لديه رغبة كبيرة لتقديم المساعدة.
بعد ذلك أخبرني أن فريقه الخاص الذي قام بتصوير فيلمه الوثائقي “حكمة الصدمة” (The wisdom of trauma) يرغب بالانضمام إلينا والقدوم للتصوير.
في بداية الأمر لم أقبل مراعاة لحساسية ما نقوم به وما يحتاجه من خصوصية عالية، ولأن مساحتنا التي نعمل فيها هي مساحة صعبة حتى نبقى فيها بأمان، فهي برامج علاجية وشفائية مع أسيرات محررات وقاصرات، ونحتاج إلى خصوصية عالية.
ولم يكن مشروعي من البداية بغرض الإعلام أو النشر، وكنت أرغب بعمله على أرض الواقع ولا أريد له أن يمنع أو يتم انتزاعنا خارج الضفة أو القدس أو غزة، وهذا كان الأهم بالنسبة لي.
لكنه طمأنني في هذا الأمر، وقال لي إنه يتفهم ذلك، وإن خصوصيتنا بالتصوير لأجل ذلك العمل لن تتأثر.
بعد ذلك وافقت، وأتى فعلا أعضاء الفريق وكانت تلك أول مرة لهم في فلسطين، فصدموا بالواقع الذي رأوه أمامهم، فكان لديهم شغف كبير بتصوير كل شيء في كل مكان برام الله والقدس وبيت لحم والجدار وغيرها.
وكنت أقول لهم إن هذا سوف يصبح جزءا متضمنا عن فلسطين يعرض خلال دقائق من مشروع كبير يحوي الصدمات في العالم من أثر الاستعمار.
لكنهم بعد ذلك قالوا لي إن ما صوروه يعطي ولادة لفيلم كامل بحد ذاته عن فلسطين، وإنهم يرون أن هذا هو أقل واجب يمكنهم القيام به لأجل فلسطين، ولتوصيل فكرة أن ما يحدث الآن في غزة وفلسطين عموما ليس وليد اللحظة إنما هو استكمال لما قمنا بتصويره منذ أكثر من عامين، وهو ما يعاني منه الفلسطينيون منذ مدة طويلة، وبعدها جاء الوقت حتى ينتج هذا الفيلم.
ولأن الفيلم تم تصويره منذ عامين كما ذكرت قمنا بعمل 21 يوما للمناقشات حول مواضيع مختلفة، حتى نستطيع تضمين ما حدث في غزة بالفيلم، فتحدثنا مع أطباء وشعراء من غزة، وتناولنا نواحي عدة، منها الناحية الروحانية وتناولنا موضوع اليهود الداعمين للقضية الفلسطينية، وتحدثنا عن كل ما هو فلسطيني مثل موسيقى فلسطين والأكل الفلسطيني، حتى نفهم الناس ما حصل لنا قبلا وما حدث لنا خلال هذه الإبادة.
كانت ردود الأفعال عن الفيلم كبيرة ومذهلة، فقد تغيرت وجهة نظر الكثيرين وأيقظتهم تجاه ما يحدث في فلسطين.
-
الحرب والإبادة ثيمة أساسية في الفيلم وفي المدينة هنا أيضا.. كيف استقبل الناس هنا في سراييفو عرض فيلم “حيث تبكي أشجار الزيتون”؟
لقد صدمت صدمة كبيرة، لكنها صدمة جيدة، كانت الأجواء رائعة، أولا العدد كان كبيرا، وفجأة أنزلوا العلم الفلسطيني على المنصة، وكانت تلك اللحظة قوية بالنسبة لي.
وبعد مشاهدة الفيلم شعر الجميع بكم كبير من التشافي، وهذا لأنهم بكوا من الفيلم، فالبكاء عموما يفرغ ويشفي الروح.
وشعرت بتواصل كبير عندما قدمت إلى سراييفو، وعندما تجولت في المدينة وجدت العديد من الأشياء المشتركة بيننا، فلا زالت آثار الدمار موجودة على المباني هنا، وكلما تحركت وجدت شعارات مرفوعة للتضامن مع فلسطين ودعوات المقاطعة، وهذا لأنهم عاشوا أجواء الحرب قبل ذلك بالحرب العالمية الأولى وحصار سراييفو، لذلك فهم يشعرون بمعاناتنا أكثر.
لكن رؤية المدينة الآن تعطينا أملا بأننا سوف نعود لتعمير أراضينا مرة أخرى مثلما فعلوا هم.
-
كيف ينظر المجتمع الإسرائيلي للقضايا التي تناولها الفيلم؟
يمكنك أن ترى الرواية الإسرائيلية واقعا ملموسا، إذا ذهبت إلى أي مكان ورأيت المستوطنين وأفعالهم فسوف تعرف، فالأطفال يبزقون ويسبون عليك لمجرد أنك عربي، فهم قد تربوا على كره العرب والمسلمين، وزرعت فيهم رواية الخوف.
ولديهم الفكر بأننا نحن من نضايقهم ونأخذ حقهم، فهم من أول يوم لهم يغرسون فيهم تلك الأفكار، أننا نريد قتلهم، ولا يتحدثون معهم عن النكبة ولا من أين أتوا، ولا ما هي أصولهم التي جاؤوا منها، ما يعرفونه فقط هو أنك عربي تريد قتله، لذلك لزم عليه أن يمسك السلاح طوال الوقت ليكون مستعدا لذلك.
لذلك، ليس لديهم تلك الرواية الفلسطينية التي نحكيها لهم، هم لديهم اعتقاد أن كل جيل يأتي يمحو أفكار من قبله، أما عندنا فلن تُمحى تلك الرواية أبدا ونتوارثها جيلا بعد جيل ونعيشها واقعا يوميا ملموسا، ننام ونفيق عليها، ودون أن يحكيها لنا أحد.
-
كيف رأيت فيلم “الطنطورة” الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط المختلفة، والذي عرض خلال المهرجان؟
كانت مشاهدة الفيلم صعبة جدا، لم أستطع النوم تلك الليلة، فكشخص يحب الطنطورة كثيرا ويحب بحرها، ونحن نعرفها جيلا بعد جيل وتناولتها رواية الطنطورية لرضوى عاشور، وأنا أحمل ذكريات كثيرة في هذا المكان، فكان مؤلما جدا بالنسبة لي أن أرى من تسببوا في تعذيبنا وقتلنا ومحوا آثارنا يعيشون ويضحكون ولا كأن هذا الأمر قد صار.
وتألمت بشدة لأنني عرفت أن المكان الذي كنت أوقف فيه سيارتي عندما أزور المنطقة يقع تماما فوق المقبرة الجماعية التي دفن فيها الفلسطينيون، كل هذا الحقد والغل، لكنهم لا يريدون منا أن نحكي عن ذلك، ولا أن نحكي عن النكبة من الأساس، وهذا هو الأكثر إيلاما.
-
ما الفرق بين ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما بعده؟
لم تبدأ إبادة الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فنحن في حالة إبادة منذ عام 1948، الفرق الوحيد الذي يمكننا أن نراه الآن هو وتيرة ما تفعله إسرائيل، فالقتل صار أوضح وأزيل الستار عن أفعال إسرائيل وعما كانت تروجه لنفسها من صورة براقة.
وأزيل الستار أيضا عن العالم الغربي وما يدعيه من ديمقراطية ودفاع عن حقوق الإنسان، فقديما كانوا يقتلوننا بكل هدوء ودون شوشرة، أما الآن فالأحداث تجري على مرأى ومسمع من الجميع.
وأحيانا عندما ترغب في بيع سلاح جديد أنتجه فهو يمكنه إشعال حرب للترويج وبيع هذا السلاح.
وبعد كل ما حدث يمكننا فهم أن ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول هو من الواضح مرتب ومعد له من الناحية الإسرائيلية، ولقد رأينا الترتيبات التي حدثت على الحدود المصرية، وعملية تحويل الفلسطينين من غزة إلى سيناء.
لذا، لم يأتِ كل هذا العذاب منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فالتعامل مع القضية الفلسطينية ظل سيئا لعقود، ولم يتطلع أحد لمعاناتنا في آخر 10 سنوات على الأقل، واستمرت وتيرة التعذيب بالسجون حتى في أبسط الحقوق كالحصول على الطعام والشراب، فالبعض يعتقد أن القذائف والقنابل هي فقط ما يهشم بيتك ويدمر حياتك، ولكننا نعيش هذا العذاب في كل لحظة.
-
كيف ترين المواقف الشعبية العربية والغربية من الحرب الإسرائيلية على غزة؟
رأيت تضامنا شعبيا غربيا كبيرا، ورأينا هذا جميعا بالشوارع والجامعات، فهذه الحرب كانت بمثابة صحوة لما يحدث في فلسطين وما حدث مؤخرا في غزة.
ورأينا الآلاف يخرجون في مظاهرات بأعداد كبيرة، في مشهد لم يكن عاديا، فالغرب الآن في صحوة قوية، فالحكومات تتأثر، وحركة المقاطعة تتأثر، وإسرائيل مرتبكة مما يحدث ومن سقوط الستار عنها، وأصبح واضحا أمامنا من يدعمهم من المستعمرين والفاشيين الذين يرغبون ليس فقط بإبادة الفلسطينين، ولكن إبادة كل ما يختلف عنهم وعن أفكارهم.
الغريب بالنسبة لي فهو رد الفعل من العالم العربي، فقد كان قاهرا وفظيعا، فأين الحلم العربي الذي كنا نحلم به منذ زمن؟
هناك تغيير جذري حدث فينا كعرب
أما الغريب بالنسبة لي فهو رد الفعل من العالم العربي، فقد كان قاهرا وفظيعا، فأين الحلم العربي الذي كنا نحلم به منذ زمن؟
رأينا القمع في الدول العربية للمظاهرات، والذي استطاع أن يقضي على روح التضامن الموجود في قلوب الناس، وهذا كان مفهوما بالنسبة لي، فقد قاموا باحتلاله عقليا وذهنيا ودينيا ومن كل النواحي.
المؤلم في الأمر هو صرخات أهل غزة التي سمعناها بآذاننا، وهم يصرخون: أين المسلمون؟ فالأمة ليست بخير، والأهم من ذلك الوعي أن هناك شيئا خطأ يحدث، وأن هناك عبثا واحتلالا لديننا وفكرنا وإرادتنا، مما جعلنا مكتوفي الأيدي، في حين إخواننا يقتلون، فبالتأكيد هناك تغيير جذري حدث فينا كعرب.
-
كمقدسية.. كيف ترين التطورات في القدس والمدينة القديمة؟
يعتقد البعض أن التقطيع الزمني لم يحدث بعد، لكن هذا الكلام غير صحيح، فقد حدث التغيير الزمني فعليا، لم نكن نرى قبلا هذا الكم من المستوطنين يدخلون باحات الأقصى وبهذه الجرأة من قبل.
أما الآن فنراهم يدخلون كل يوم وبأعداد كبيرة مدججين بأسلحتهم، لذا فالتقطيع الزمني صار، والتفريط بالأقصى صار، فما نقاتل عليه الآن هو أن يتمسك بالقدس الذي لا يزال يستطيع العيش فيها، وأن يكون هناك وجود عربي إسلامي بالأقصى، فهم يحاولون تحويل المسجد الأقصى وكأن بيوت الله كلها مستباحة لهم يفعلون بها ما يشاؤون.
ولكننا نعرف أن كل من دخل هذا المكان المقدس فهو يعلم أنه غير أي مكان بالعالم، فطاقة المكان مختلفة مهما كانت ديانتك ونوعك، وفقط ما إن تصل إلى المكان حتى يدخل في روحك.
حتى أن الناس بالبوسنة يحكون عن اختلاف زيارتهم للقدس عن أي مكان آخر زاروه، وكم كانت تلك الرحلة مؤثرة فيهم.