“رسالة اللاغفران”.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة

في سياق عربي يتسم بالتحولات العميقة والتشكيلات السياسية والثقافية المتغيرة، يمثل كتاب “رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة” للكاتب السوري حسام الدين محمد، الصادر حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صرخة فكرية جريئة. هذا النقد الثقافي يتناول قضايا أساسية تتعلق بالذاكرة، والهوية، والمسؤولية في مواجهة تاريخ مؤلم، ويشكل تحديًا للسائد في الخطابات العربية المعاصرة.
الكتاب ليس مجرد مجموعة مقالات، بل هو محاولة لفك رموز الأزمة العربية الراهنة من خلال تشريح البنى الثقافية والسياسية التي ساهمت في تشكيلها. يركز محمد على استعراض وتحليل الظواهر الفكرية والأدبية التي ميزت المشهد العربي، مع التركيز بشكل خاص على المأساة السورية وتداعياتها على المثقفين والمجتمع.
عتبات النص وأهمية “رسالة اللاغفران”
يبدأ الكتاب بعنوان استفزازي، “رسالة اللاغفران”، وهو ما يشكل خروجًا صارخًا عن التقليد الأدبي العربي الذي يشتهر بالدعوة إلى العفو والتسامح. هذا الاختيار اللغوي ليس اعتباطيًا، بل هو تعبير عن رفض الكاتب للنسيان والتغاضي عن الجرائم التي ارتكبت في حق الشعوب العربية.
يستمد الكتاب قوته من قدرته على الجمع بين التحليل الأكاديمي العميق والأسلوب الصحفي السهل، مما يجعله في متناول شريحة واسعة من القراء. يعتمد محمد على رصد دقيق للتفاصيل، وتحليل نقدي للمفاهيم، واستعراض واسع للمراجع الفكرية والأدبية، لتقديم قراءة شاملة للأزمة العربية.
محاكمة المثقف والسلطة: قلب الثوابت
يشكل نقد المثقفين جزءًا أساسيًا من مشروع “رسالة اللاغفران”. لا يتردد الكاتب في توجيه انتقادات لاذعة لرموز ثقافية بارزة، مثل الشاعر أدونيس، متهماً إياهم بالانحياز إلى السلطة والتخلي عن مسؤولياتهم تجاه المجتمع. يرى محمد أن العديد من المثقفين العرب قد وقعوا في فخ “الطائفية الثقافية” وساهموا في تبرير الاستبداد والقمع.
بالإضافة إلى ذلك، يعيد الكتاب قراءة التراث العربي، مفضلاً نموذج أبي العلاء المعري القائم على العقل والشك على نموذج المتنبي الذي يمثل القوة والسلطة. يرى محمد أن الثقافة العربية قد أولت اهتمامًا مبالغًا فيه بالشعراء الذين يمدحون الحكام، وتجاهلت أولئك الذين ينتقدونهم ويدعون إلى التغيير.
تشريح الاستبداد والأيديولوجيا
يتعمق الكتاب في تحليل البنى الاستبدادية التي حكمت المنطقة العربية لعقود طويلة. يركز محمد على تجربة حزب البعث في سوريا والعراق، ويتتبع كيف تحولت شعارات الوحدة والحرية إلى أدوات للقمع والسيطرة. يوضح الكاتب كيف تم تزوير المفاهيم وتشويه الحقائق، وكيف تم استخدام الأيديولوجيا لتبرير الاستبداد.
كما يناقش الكتاب العلاقة بين الأدب والطغيان، ويستعرض نماذج عالمية لفهم هذه العلاقة، مثل جورج أورويل وروايته “1984”. يرى محمد أن الأدب يمكن أن يكون أداة قوية للمقاومة والتغيير، ولكنه يمكن أيضًا أن يكون أداة للقمع والسيطرة إذا تم استخدامه من قبل السلطة.
“رسالة اللاغفران” في سياق النقد الثقافي المعاصر
يأتي هذا الكتاب في وقت يشهد فيه المشهد الثقافي العربي حركة نقدية متزايدة، تسعى إلى مراجعة الثوابت والخطابات السائدة. يمثل “رسالة اللاغفران” إضافة مهمة إلى هذه الحركة، حيث يقدم قراءة جريئة وشاملة للأزمة العربية، ويطرح أسئلة صعبة حول الهوية، والذاكرة، والمسؤولية. النقد الثقافي الذي يقدمه محمد يتجاوز الحدود التقليدية، ويستلهم من مختلف المدارس الفكرية والأدبية، لتقديم رؤية جديدة ومبتكرة.
يتميز الكتاب بأسلوبه السهل والممتنع، وقدرته على الجمع بين التحليل الأكاديمي العميق واللغة الصحفية السلسة. هذا الأسلوب يجعل الكتاب في متناول شريحة واسعة من القراء، ويساهم في إثراء النقاش الثقافي العربي. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الكتاب على خلفية موسوعية واسعة، ويستشهد بمجموعة متنوعة من المراجع الفكرية والأدبية، مما يضفي عليه مصداقية علمية.
التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية تفرض تحديات جديدة على المثقفين والمفكرين. يجب عليهم أن يواجهوا هذه التحديات بشجاعة ونزاهة، وأن يقدموا قراءات نقدية للأحداث، وأن يساهموا في بناء مستقبل أفضل للشعوب العربية. “رسالة اللاغفران” هي خطوة مهمة في هذا الاتجاه.
من المتوقع أن يثير الكتاب جدلاً واسعًا في الأوساط الثقافية والسياسية العربية، وأن يدفع إلى إعادة النظر في العديد من المفاهيم والمقولات السائدة. يبقى أن نرى كيف ستتفاعل النخب العربية مع هذا العمل الجريء، وما إذا كانت ستتبنى رؤيته النقدية أم سترفضها.





