سباق القواعد والنفوذ في أفريقيا.. من يملك القرار في القارة؟

الدوحة – في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة على مستوى العالم، تعود القارة الأفريقية إلى دائرة الضوء، ليس فقط بوصفها منطقة غنية بالموارد والأسواق الناشئة، بل كساحة تنافس حاد بين القوى الكبرى على الصعيدين العسكري والاقتصادي. وتثير هذه الديناميكيات تساؤلات حول قدرة أفريقيا على الحفاظ على سيادة الدول الأفريقية في ظل هذه التدخلات المتزايدة، وهل ستتمكن من تجنب الوقوع في فخ التبعية بأنماط جديدة.
وتشهد القارة انتشاراً للقواعد العسكرية الأجنبية، وتدفقاً للاستثمارات، وجهوداً لتنويع الشراكات الدولية. هذه التطورات دفعت الخبراء والمحللين إلى تقييم التحديات التي تواجه الدول الأفريقية في الحفاظ على استقلاليتها وصنع القرار الخاص بها.
استقلال القرار الأفريقي في مواجهة التحديات الخارجية
ناقش باحثون وأكاديميون خلال جلسة “سيادة الدول الأفريقية في مواجهة التدخلات الخارجية” ضمن فعاليات مؤتمر أفريقيا وتحديات الأمن والسيادة في ظل التحولات الجيوسياسية الذي ينظمه مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، تأثير الوجود العسكري الأجنبي والتنافس الدولي على مستقبل القارة. وأكدوا على تعقيد المشهد الأفريقي والتحديات الهيكلية التي تواجه الدول الأفريقية.
أوضح الشافعي أبتدون، الباحث المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، أن الوجود العسكري الأجنبي يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على استقلال القرار الأفريقي، سواء على الصعيد الأمني أو السياسي. وأشار إلى أن هذه القواعد قد تقيد حرية الدول المضيفة في تحديد سياساتها الدفاعية، حيث يصبح أمنها الوطني مرتبطًا بأجندات خارجية.
وأضاف أبتدون أن تأثير الوجود العسكري لا يقتصر على الجانب الأمني، بل يمتد ليشمل الجانب السياسي من خلال ممارسة الضغوط على صناع القرار، مما يحد من استقلالية المواقف الأفريقية في القضايا الإقليمية والدولية. وهذا يحول القارة إلى ساحة مفتوحة للتنافس بين القوى الكبرى.
وذكر أبتدون أن وجود القواعد العسكرية، أو حتى انسحابها، لا يعني بالضرورة تدهور العلاقات بين الدول، بل قد يفتح المجال لإعادة تشكيلها وفقًا لمصالح متبادلة وإعادة تموضع جيوسياسي. واستشهد بجيبوتي كمثال، حيث تحتضن عددًا كبيرًا من القواعد العسكرية الأجنبية، وتعتمد على هذه القواعد كجزء من اقتصادها.
وتتلقى جيبوتي عائدات كبيرة من هذه القواعد، حيث تدفع الولايات المتحدة ما بين 63 و75 مليون دولار سنويًا، وفرنسا حوالي 40 مليون دولار، بالإضافة إلى اليابان وإيطاليا والصين. وتمثل هذه العائدات نسبة كبيرة من الميزانية العامة للدولة، إلا أن أبتدون حذر من أن هذه العائدات قد تؤدي إلى تعزيز التبعية الاقتصادية بدلاً من التنمية المستدامة.
وأشار أبتدون إلى التحركات الإقليمية والدولية المتسارعة في الصومال لإعادة فتح أو تفعيل قواعد عسكرية، وذلك في ظل التنافس الأمريكي والإقليمي على النفوذ في منطقة القرن الأفريقي. وأكد أن تنويع الشراكات الدولية من قبل الدول الأفريقية لا يعني بالضرورة تغييرًا في عقيدتها السياسية، بل هو استجابة لمنطق اقتصادي يهدف إلى تقليل المخاطر وجذب الاستثمارات.
أفريقيا ساحة نفوذ وتنافس اقتصادي
من جانبه، قال محمد زكريا، الباحث في الشؤون الأفريقية الاقتصادية والاجتماعية، إن تعامل القوى الكبرى مع أفريقيا يتجاوز المساعدات الإنسانية والترتيبات الأمنية، مؤكدًا أن الاستثمار يظل العامل الحاسم في تحديد مستقبل القارة. وأوضح أن القارة تشهد تحولًا ملحوظًا نحو تنويع الشركاء الدوليين، كما هو الحال في النيجر، التي تسعى إلى الانفتاح على الأسواق العالمية لتحقيق توازنات اقتصادية.
وأشار زكريا إلى أن الصراعات المستقبلية في أفريقيا من المرجح أن تكون مرتبطة بالموارد الإستراتيجية، مثل الذهب والمعادن النادرة، في سياق التحولات العالمية المرتبطة بالتكنولوجيا والعملات الرقمية، بالإضافة إلى قطاعات الزراعة والصناعات المرتبطة بها. وحذر من أن الاستثمار الأجنبي، على الرغم من الزيادة الكبيرة التي شهدها مؤخرًا، قد يؤدي إلى تعميق التبعية إذا لم يتم تنظيمه بإطار قانوني ومؤسسي عادل.
وبحسب بيانات حديثة، قفز الاستثمار الأجنبي في أفريقيا بنسبة 75% ليصل إلى 162 مليار دولار في عام 2024. إلا أن زكريا شدد على أن أفريقيا تحتاج إلى استثمارات حقيقية ومنتجة، وليست مجرد استثمارات مرتبطة بمصالح نفوذ.
واختتم زكريا حديثه بالتأكيد على أن استقلال القرار السياسي، وبناء السياسات الوطنية، وتعزيز العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، هي شروط أساسية لتحقيق تنمية مستقلة ومستدامة، وضمان استفادة المجتمعات المحلية والأجيال القادمة من الفرص الاستثمارية.
من المتوقع أن تشهد القارة الأفريقية مزيدًا من التنافس بين القوى الكبرى في الفترة القادمة، خاصة مع تزايد أهمية الموارد الطبيعية والأسواق الناشئة. وستظل قدرة الدول الأفريقية على الحفاظ على سيادتها وتعزيز التنمية المستدامة هي العامل الرئيسي الذي سيحدد مستقبل القارة. ويتطلب ذلك تنسيقًا إقليميًا ودوليًا فعالًا، بالإضافة إلى تبني سياسات اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة.





