سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات المحو

قالت سمر دويدار مؤسسة ومنسقة مبادرة “حكايات فلسطينية” المصرية الفلسطينية عضوة اتحاد المرأة الفلسطينية بالقاهرة في حوار مع الجزيرة نت إن مبادرتها جزء من الفعل المقاوم الذي يحافظ على القضية الفلسطينية وسرديتها، وتطورت على مدار السنوات الماضية من الأرشيف العائلي الخاص بآل شعث في فلسطين إلى آلاف الأرشيفات العائلية لفلسطينيين في أماكن عدة، وصولا إلى أرشفة وتوثيق شهادات من غزة.
ومبادرة “حكايات فلسطينية” هي مبادرة مصرية فلسطينية تستهدف توثيق الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لسكان فلسطين ما قبل الاحتلال، بالتواصل مع الجيل الثالث من الفلسطينيين المقيمين داخل فلسطين وفي الشتات، للحفاظ على الذاكرة والرواية الشفهية الفلسطينية من خلال بناء أرشيف رقمي تفاعلي ومنصة على الإنترنت، لتصبح المنصة بمثابة متحف تفاعلي للإنسان الفلسطيني، والأرشيف مصدر أولي للباحثين.
وأضافت دويدار أنها سعت بعد أسبوعين من بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى العمل على أرشفة وتوثيق يوميات أهالي غزة على مواقع التواصل الاجتماعي، معبرة عن خشيتها أن يأتي يوم ويقول المحتلون “لم تكن هناك غزة”، مع استمرار مساعي محوها من العالم.
وكشفت عن وجود تحديات بشرية ومادية تعيق تطور المبادرة لتصل إلى أرشفة وتوثيق ما يحدث في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، مؤكدة أن المسؤولية كبيرة وصعبة، وتحتاج إلى تشبيك جهود تسعى لها خلال الفترة المقبلة، فإلى نص الحوار..
-
متى ولدت هذه المبادرة؟ وكيف تطورت؟
المبادرة بدأت بالفعل منذ عام 2020 عبر الأرشفة العائلية الأولى لوثائق جدي الفلسطيني علي رشيد شعث، وكانت البدايات غنية بالبحث عن أفضل طرق الأرشفة والتوثيق والتواصل مع جميع المؤسسات التي تعمل في مجال الأرشفة.
وفي العام الأول صنعت 3 معارض بمصر وأميركا وإنجلترا، ومع جائحة كورونا كان لدي الوقت لإعادة التفكير والتطوير، ووضعت نظاما للأرشفة وكودا لكل وثيقة، وبالفعل وثقت 235 رسالة لجدي من أصل 350 رسالة، وهنا درست إمكانية عمل موقع لوضع الأرشفة الخاصة عليه، ثم تساءلت: لماذا لا نطور الأمر، فعائلة شعث هي عائلة واحدة ضمن عائلات فلسطينية عديدة يمكن لها أن تشارك في الأرشفة العائلية والتوثيق؟
قررت بفتح باب الأرشفة على الموقع للجميع -سواء فلسطيني أو من أصول فلسطينية مثلي، فأنا لأب مصري وأم فلسطينية- عبر تمكينهم من بناء أرشيفهم بشكل شخصي ومباشر.
وبات ما يميزنا عن أي فكرة قريبة أننا نمثل “أرشيف الناس”، فالناس هم من يختارون أرشيفهم ويصنعونه حتى ولو كانت حكاية إنسانية بسيطة لعائلة في فلسطين، وليس مؤسسة ما أو مبادرة.
-
ما أبرز التحديات التي واجهت المبادرة؟
التحديات كثيرة، أولها: شرح الفكرة يحتاج إلى تواصل شخصي، وقد وفرت ظروف جائحة كورونا التواصل الشخصي عن بعد، وألهمتني فكرة الموقع.
لكن إقناع المستهدفين بالمبادرة باستخراج الأرشيف العائلي والانضمام إلى الموقع وأرشفة ما يختارون هو تحد قائم يحتاج إلى طاقات بشرية ونفس طويل للاتصال المباشر مع مزيد من الناس.
ثانيا: التحدي الأهم هو الانتقال من حيز المبادرة الذاتية الشخصية إلى حيز التشارك والشراكات، والمبادرة اعتمدت على تمويلي المادي الذاتي وعدد من المهتمين بالمبادرة.
لكن بعد مرور 5 سنوات دشنت في الأول من مايو/أيار المقبل حدثا بالقاهرة لتشبيك جهود الداعمين منذ لحظات التأسيس حتى تاريخه، وحصرت 75 شخصا ساهموا في بناء المبادرة ولو بفكرة أو بترجمة أو أرشفة أو عقد المعارض، وهؤلاء الكنز بالنسبة لي لهذه المبادرة.
ثالثا: التحدي الثالث هو تطوير التمويل في المبادرة، استطعنا الانتقال من محطة التأسيس في 2020 إلى محطة إطلاق الموقع الأرشيفي تحت اسم “حكايات فلسطينية” في عام 2023، والاستمرار بات مكلفا ماديا، وقد تحركت في مسارات عدة لطلب التمويل من جهات مانحة، بدأت في سبتمبر/أيلول 2023 ثم توقفت مع ضغوط حرب الإبادة المستمرة ثم جددت المحاولات مؤخرا مع الجهات المانحة، وأنتظر ردودهم الداعمة لبدء هيكلة جديدة للمبادرة، وبابنا مفتوح لأي جهة مانحة مؤمنة بقضيتنا الفلسطينية ومبادرتنا.

-
مع تصاعد حرب الإبادة أطلقتم مشروعا جديدا للأرشفة والتوثيق تحت عنوان “شهادات من غزة”، ما أبعاده؟
مع بداية حرب الإبادة غرقت شخصيا في الألم مع متابعاتي لما يحدث في غزة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن كانت الفكرة التي ولدت بعد أسبوعين من بداية الحرب، وقلت لنفسي: بما أن حكايات فلسطينية هي صوت الناس العاديين وأرشيفهم فبالتالي أرشفة صوت الناس في غزة هي جزء من رسالة المبادرة وموقعها.
من هنا بدأت تدشين المشروع عبر متابعة جميع مواقع التواصل الاجتماعي في غزة، وأرشفة يوميات بسيطة لأهل غزة، بدءا من المأكل والمياه والأسعار وأسعار الدواء والأونروا، مرورا بنكات الناس وتعليقاتهم التي كانت في مناطق لم تطلها الإبادة في البدايات عبر توثيق لمنشوراتهم على هذه المواقع مبني على توثيق رابط المنشور وصورة مقتبسة منه وكتابة النص المنشور وتحديد موعد نشره واسم صاحبه، إلى جانب توثيق الجانب الاجتماعي في حياة الشهداء من تعليقات الناس ونعي مؤسسات لهم وما نراه مناسبا في هذا الصدد، لنقول: إن في غزة هذه البقعة من العالم التي يراد لها المحو كانت هناك حياة.
يستمر هذا التوثيق حتى اليوم، وأنا مذهولة من استمرارنا، وأكاد أبكي من فرط إحساسي بالمسؤولية وخوفي من عدم الاستمرار، كوننا مبادرة فردية قائمة على متطوعين قادرة على تكملة التوثيق حتى اليوم رغم بشاعة الأحداث والضغوط النفسية المترتبة عليها.
كاد الإحباط أن يوقفنا في يوم من الأيام تحت وطأة صوت داخلي يتكرر: ما فائدة ما نصنع؟ ما حجم ما نصنعه في مواجهة حجم الحدث؟ لكن الوعي بأن الأرشفة فعل مقاوم بطريقة سلمية وأن هذا التوثيق نقطة في بحر كبير جدا من بحور التوثيق الإنساني والاجتماعي المفترض لما يحدث في قطاع غزة هو من أنقذنا، فلقد استبدلنا التوثيق بالبكاء عند متابعة وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.
وفي هذا المسار، تم بناء قاعدة بيانات على مدار الشهور الماضية، ووثقنا 2200 شهادة ورفعناها على الموقع الإلكتروني للمبادرة، ونشرنا 280 شهادة حتى الآن، ويمكن المشاركة بالتوثيق عبر أيقونة مخصصة في الموقع لذلك.
وفي 1948 عندما حدثت النكبة لم تكن هناك أدوات للتوثيق، ولم يكن هناك وعي بأهميته، لكن اليوم الوضع اختلف ولا بد أن نكون على قدر الأحداث وأن نوثق ما حدث، فهناك اعتقاد يلاحقني أننا قد نستيقظ يوما ما على اختفاء مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها من حكايات فلسطينية عن غزة أو حتى قبل استشهاد أصحاب هذه المنشورات، فكثيرا ما كنا نوثق شهادات ذهب أصحابها شهداء أذكر منهم الإعلامي إسماعيل الغول (شبكة الجزيرة)، والصحفي حسام شبات وغيرهما.
-
هل هناك في تصوراتك مسار لبناء أرشيف إنساني اجتماعي لما يحدث في القدس والمسجد الأقصى؟
بعد بدء الحرب على غزة كانت هناك بالتوازي اقتحامات وخطف وقتل واعتقال وحبس لأهلنا في الضفة الغربية بشكل يصعب على النفس تجاهله، لكن لا توجد إمكانيات بشرية ومادية لبدء التوثيق في الضفة، فما بالك بالقدس والمسجد الأقصى؟ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
توثيق وأرشفة ما يحدث في الضفة والقدس أمور في منتهى الأهمية، وأنا مؤمنة بها، لكن صعب على المبادرة في ضوء إمكانياتي المحدودة الراهنة، ولذلك لا بد من تشارك مؤسسات بأسرع وقت للقيام بهذا الدور.
-
في هذا الإطار، ما مستقبل مبادرتكم وفكرة الأرشفة العائلية الفلسطينية؟
متفائلة للغاية بالمستقبل، كل يوم تظهر لي إشارة أننا أصحاب قضية عادلة تتجمع حولها القلوب بقدرة أكبر من قدرة البشر على الحشد والتجميع.
وقد لا أكون موجودة بعد وقت ما، ولذلك أنا أسعى إلى تأسيس يجعل المبادرة أطول عمرا مني، وهذا واجب يحتاج تضافر جميع الجهود المؤمنة بهذا المسار، وتشبيك يتخذ من خبراتنا طوال هذه السنوات الماضية، بداية لتطوير الجهود لا البدء من الصفر، للوصول إلى شبكة من المؤسسات الداعمة لهذا المسار في الفترة المقبلة.
-
مفتاح العودة رمز مركزي متكرر في أنشطة مبادرتك وأيقونة فلسطينية.. هل صار مجرد حلم عابر بعد تصاعد خطر التهجير كما يرى البعض؟
بشكل واقعي، قد لا يبدو أن حلم العودة قد يتحقق قريبا، ولكن سأحكي قصة لها دلالة وهي نقطة بداية مبادرتنا الحالية، فقد كنت أقوم بعمل بحث عن الانتماء والهوية بين الفلسطينيين، ورأيت فلسطينية متزوجة في أميركا اللاتينية تحمل مفتاح بيت أمها في فلسطين المحتلة، وتقول إن لي أصولا في فلسطين، وهذا مفتاح بيت أمي، وإن شاء الله سوف نعود إليه. من هنا بدأت رحلتي في التفكير في المبادرة في رحلة امتدت وطالت.
كأن الرسالة هي أن الحكاية الفلسطينية لن تنتهي، فنحن أصحاب قصة حقيقية وقضية عادلة ولنا حق في العودة، ولن نمل من الدفاع عن حقوقنا وعودتنا، وهذا ما يميز الفلسطينيين في تقديري.

-
في هذا الإطار، كيف ترين نضال المرأة الفلسطينية، خاصة ما بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023؟
أنا من الذين يتمسكون بأنسنة الفلسطيني وعدم تحويله إلى رمز أسطوري وفقط.
وبالتالي، فالسيدة الفلسطينية مثل أي سيدة، هي تفكر كأي سيدة في الحياة اليومية، لكن كُتبت عليها ظروف غير مسبوقة ومعاناة فوق الوصف دفعت نساء كنساء غزة إلى مكانة مختلفة لم تخترها طوعا، ولكن صارت فيها بطلة دون اختيار.
السيدة الفلسطينية موجودة بتنوعاتها، فأمي مثلا ليست رمزا نضاليا كما هي الصور الذهنية المعتادة، ولكنها تحب بلادها، وتصر على الطبخ الفلسطيني في بيتنا وأهدتني تطريزا فلسطينيا بمناسبة زواجي، وصنعت منسوجات فلسطينية في “أسبوع ابني”، وهناك أمهات كثيرات يعلمن أبناءهن المقاومة أو الأغاني الفلسطينية أو يشاركن في المسيرات.
لقد قابلت بعض الأسرى المبعدين من فلسطين مؤخرا مع وفد اتحاد المرأة الفلسطينية بالقاهرة الذي حصلت على عضويته لفلسطينية أمي، وسمعت منهم كلاما لم أسمعه من قبل.
تحدثوا عن عظمة المرأة الفلسطينية، مما يجعلها تسعد بنفسها أكثر، فهم يرون صبرها فاق صبرهم في سجون الاحتلال، وأدوارها مؤثرة بشكل فاق كل التصورات، ويؤمنون بأن النساء الفلسطينيات هن الأبطال الحقيقيون، قالوا: زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا هم أبطالنا الحقيقيون، فهم المحافظون على بيوتنا والذين يذهبون خلفنا في كل مكان، ويمنحونا القوة من انتظارهم لنا، ومن غيرهم لن نستطيع أن نواصل صبرنا.
-
ختاما.. ما رسالتك إلى المثقفين العرب والمصريين والفلسطينيين بشأن المبادرة؟
في أوقات الحرب: الاحتياجات الأساسية لها الأولوية، وبالتالي تذهب التبرعات لدعمها، وإذا كان دعم المشروعات الثقافية الاجتماعية في العادة ضعيفا فمع الحرب سيكون أضعف، بل وتحت الصفر، لعدم الاقتناع بأهميته وأولويته، وهذا مفهوم في المنطق العام.
لكن في الحقيقة، المثقف مصريا أو فلسطينيا أو عربيا من الضروري أن يدرك أهمية توثيق صوت الإنسان الفلسطيني، وكيف أن هذا مهم في هذه اللحظة كدور من أدوارنا الراهنة، ومهم كذلك في المستقبل، فأنا أخشى أن يأتي يوم ويقولوا لنا لم تكن هناك غزة، ولذلك نحتاج إلى دعمهم الثقافي التنويري التحفيزي لمساندة المبادرة واستمرارها.