سوريا تعيد هيكلة الاقتصاد عبر الخصخصة وتسريح الموظفين
تسعى الحكومة السورية المؤقتة إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق تهدف إلى إنعاش الاقتصاد المنهك، وتشمل هذه الإصلاحات خططا لخفض عدد موظفي القطاع العام بنحو الثلث، إلى جانب خصخصة الشركات الحكومية التي كانت تهيمن على الاقتصاد خلال العقود التي حكمت فيها عائلة الأسد.
وأثارت الوتيرة السريعة لهذه الإصلاحات، التي تركز على تقليص الفساد والهدر المالي، احتجاجات بين الموظفين الحكوميين. وقد بدأت بالفعل أولى عمليات التسريح بعد أسابيع فقط من الإطاحة ببشارالأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي مقابلات مع 5 وزراء في الحكومة المؤقتة، أجرتها وكالة رويترز للأنباء، أكد جميعهم أن خطط الإصلاح تشمل التخلص من “الموظفين الأشباح”، وهم الموظفون الذين كانوا يتقاضون رواتب من دون أداء عمل فعلي خلال حقبة الأسد.
تحوّل نحو اقتصاد السوق الحرة
وقال وزير الاقتصاد السوري الجديد، باسل عبد الحنان، إن الحكومة تتبنى نهجا جديدا يقوم على “اقتصاد السوق الحرة التنافسي”.
وأضاف أن حكومة الرئيس أحمد الشرع ستقوم بخصخصة 107 شركات صناعية مملوكة للدولة، معظمها غير مربحة. لكنه أكد أن أصول الطاقة والنقل التي تُعتبر “إستراتيجية” ستظل تحت سيطرة الدولة، من دون أن يحدد أسماء الشركات التي ستخضع للخصخصة. وتشمل الصناعات الكبرى في سوريا النفط، والأسمنت، والصلب.
من جانبه، قال وزير المالية محمد أبازيد إن بعض الشركات المملوكة للدولة لم تكن سوى واجهات لإهدار المال العام، مضيفا أن الحكومة تعتزم إغلاق تلك التي لا تقدم قيمة اقتصادية حقيقية.
وأشار أبازيد إلى أن مراجعة أولية كشفت أن 900 ألف فقط من أصل 1.3 مليون موظف حكومي يداومون فعليا في وظائفهم، ما يعني وجود نحو 400 ألف “موظف شبح”. وأكد أن التخلص من هذه الفئة سيوفر موارد كبيرة يمكن إعادة توجيهها نحو إعادة بناء الاقتصاد.
أما وزير التنمية الإدارية، محمد السكاف، فقد أوضح أن الدولة بحاجة فقط إلى ما بين 550 و600 ألف موظف، أي أقل من نصف العدد الحالي.
إصلاحات ضريبية وتشجيع الاستثمار
وتسعى الحكومة أيضا إلى تبسيط النظام الضريبي ومنح عفو عن العقوبات المالية السابقة، بهدف تشجيع المستثمرين على العودة إلى سوريا.
وقال أبازيد، الذي شغل سابقا منصب أستاذ اقتصاد بجامعة الشمال الخاصة، إن الهدف هو تحويل المصانع داخل البلاد إلى منصات لتصدير المنتجات السورية للأسواق العالمية، بما يساهم في تحفيز الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
نموذج إدلب كمخطط للتطوير
وقبل سقوط الأسد، كانت هيئة تحرير الشام تدير إدلب كمنطقة شبه مستقلة منذ 2017، حيث نجحت في جذب استثمارات خاصة وتقليل البيروقراطية.
وأكد 3 وزراء في الحكومة المؤقتة أن الهدف الآن هو توسيع نموذج إدلب ليشمل جميع أنحاء البلاد، مع التركيز على تعزيز الاستثمار الأجنبي والمحلي للمساهمة في إعادة إعمار سوريا بعد 14 عاما من الحرب.
لكن هذا التوجه يواجه تحديات كبيرة، من أبرزها العقوبات الدولية التي لا تزال تعيق التجارة الخارجية.
وقالت مها قطاع الخبيرة في منظمة العمل الدولية، إن الاقتصاد السوري الحالي ليس في وضع يسمح له بتوفير عدد كافٍ من الوظائف في القطاع الخاص، مشيرةً إلى أن إعادة هيكلة القطاع العام قد تكون خطوة ضرورية لكنها ليست بالضرورة أولوية قصوى في هذه المرحلة.
وأضافت: “لست متأكدة مما إذا كان هذا القرار هو الخيار الأكثر حكمة الآن”.
تساؤلات حول سرعة الإصلاحات وشرعيتها
وبينما يرى بعض المراقبين أن الإدارة المؤقتة بحاجة إلى اتخاذ إجراءات سريعة لإحكام قبضتها على السلطة، فإن هناك مخاوف بشأن سرعة الإصلاحات واتساع نطاقها.
وقال آرون لوند، الباحث في مركز سينشري إنترناشونال للدراسات الشرق أوسطية، “إنهم يتحدثون عن عملية انتقالية، لكنهم يتخذون قرارات وكأنهم حكومة منتخبة تتمتع بشرعية كاملة”.
ورغم تعهد الشرع بإجراء انتخابات، فقد أشار إلى أن تنظيمها قد يستغرق 4 سنوات.
“امتصاص الصدمة” الاقتصادية
وقال وزير الاقتصاد إن الحكومة تضع سياسات لتخفيف تداعيات الإصلاحات على السوق، لمنع حدوث ركود أو زيادة حادة في معدلات البطالة، كما حدث في الدول التي خضعت لبرامج “العلاج بالصدمة” الاقتصادية في التسعينيات.
وأضاف عبد الحنان أن الهدف هو تحقيق توازن بين دعم نمو القطاع الخاص وتقديم المساعدة للفئات الأكثر احتياجا.
وبدأت الحكومة في اتخاذ تدابير لتعويض العمال المتضررين، بما في ذلك رفع رواتب موظفي الدولة، التي تبلغ حاليا نحو 25 دولارا شهريا، بنسبة 400% اعتبارا من فبراير/شباط. كما تعمل على تقديم مكافآت نهاية خدمة وتسريح بعض الموظفين عبر إجازات مدفوعة الأجر لحين تقييم احتياجات الإدارات المختلفة.
تسريح موظفين
ورغم هذه الإجراءات، تزايدت مشاعر القلق بين بعض الموظفين، خاصة مع ظهور قوائم في وزارتي العمل والتجارة تستهدف إلغاء برامج توظيف العسكريين السابقين الذين خدموا في جيش الأسد.
وفي مدن مثل درعا واللاذقية، خرج موظفون حكوميون في احتجاجات نادرة، رافعين لافتات كتب عليها “لا للفصل التعسفي” و”قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”.
وقال أدهم أبو العلايا، وهو موظف في مديرية الصحة بدرعا، “أنا مع القضاء على التوظيف الوهمي، لكنني أعمل في وظيفتي بجد، وراتبي بالكاد يغطي احتياجات أسرتي الأساسية”.
الكشف عن فساد واسع النطاق
وأكد وزير المالية أن تحقيقات الحكومة كشفت عن فساد كبير، خاصة في المؤسسة السورية للتجارة، وهي شركة عامة لتوزيع السلع الاستهلاكية كانت تتلقى أموالا حكومية لعقد كامل من دون تقديم بيانات مالية دقيقة.
وقال أبازيد إنه تقرر إغلاق الشركة، لكنه لم يحدد حجم الأموال المهدرة.
إصلاح النظام الإداري
ولا تمتلك الحكومة المؤقتة قاعدة بيانات دقيقة للموظفين الحكوميين، لكنها تعمل على إنشاء سجل رقمي جديد، حيث يُطلب من الموظفين تسجيل بياناتهم عبر نموذج إلكتروني.
وقال وزير التنمية الإدارية إن بناء هذه القاعدة سيستغرق نحو 6 أشهر، بمساعدة فريق عمل مكون من 50 شخصا.
كما تعمل الحكومة على رقمنة سجلات الموظفين القديمة، المخزنة حاليا في 60 غرفة متهالكة تحتوي على أكثر من مليون ملف، بعضها يعود إلى العهد العثماني.
وقالت هبة البعلبكي، وهي مختصة رقمنة في وزارة العمل، إن هذه الخطوة تمثل تحولا إيجابيا، خاصة بعد أن كانت محاولاتها السابقة لتحديث أنظمة حفظ السجلات تُرفض من قبل الإدارة السابقة.
بينما تمضي الحكومة المؤقتة في خططها لإعادة هيكلة الاقتصاد، تبقى التساؤلات قائمة حول مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين الإصلاحات الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، في بلد لا يزال يعاني من آثار حرب طويلة الأمد.