Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخر الاخبار

صواريخ إيران في تل أبيب.. كيف تغيرت قواعد اللعبة؟

تمثل المواجهة الجارية بين إيران وإسرائيل حاليا لحظة فارقة اختُبرت فيها حدود التكنولوجيا العسكرية ومفهوم الردع الإقليمي على حدٍ سواء. فحين تنطلق عشرات المسيّرات والصواريخ الباليستية من العمق الإيراني نحو المجال الإسرائيلي، وتنهض أكثر منظومات الدفاع الجوي تطورا في العالم لصدّها، فإن أسئلة كثيرة تبرز من أهمها: ما الذي تغيّر في قواعد اللعبة؟

هنا، نُحلل الحدث من زاويته الأكثر حساسية، وهي كيف تخوض طهران وتل أبيب حربا بأدوات متباينة، وعقائد متضادة، وتكتيكات تكشف عن مستقبل مغاير لمفهوم الاشتباك في الشرق الأوسط؟

إنه فحص دقيق لمسارٍ جديد من الصراع، تتداخل فيه الجغرافيا بالتكنولوجيا، والحسابات التكتيكية بالرسائل الإستراتيجية.

يبدو واضحا من مجريات الأيام السابقة، وفي أعقاب الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، أن المشهد لم يعد مجرد تبادل ناري عابر، بل هو اختبار حقيقي لمدى تطور التكنولوجيا العسكرية لدى الطرفين، وكذلك فحص للعقائد القتالية عند الطرفين. ولعل السؤال الذي يُطرح بقوة: هل أثبتت إيران أنها أصبحت قادرة على تهديد العمق الإسرائيلي بأسلحة فعالة؟ أم إن التراشق الأخير لم يكن سوى استعراض رمزي في معركة نفسية أوسع؟

الجانب التقني للهجوم الإيراني

بدأ الرد الإيراني بإطلاق نحو 100 طائرة مسيّرة من طراز “شاهد 136” و”شاهد 238″، وهي طائرات انتحارية تُستخدم لتشتيت الدفاعات الجوية، لا لإحداث دمار واسع. تلتها موجة من الصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى، شملت أنواعا مثل “شهاب 3″، و”فاتح 110″، وربما طرازات أحدث مثل “خرمشهر” و”خيبَر شَكّان”. هذه الصواريخ قادرة على حمل رؤوس متفجرة بوزن يصل إلى مئات الكيلوغرامات، وتقطع مسافات تتجاوز 1500 كيلومتر، مما يضع معظم مناطق إسرائيل في مرماها.

بدأ الرد الإيراني بإطلاق نحو 100 طائرة مسيّرة من طراز شاهد وهي طائرات انتحارية تُستخدم لتشتيت الدفاعات الجوية (وكالات)

اختبارات قاسية للدفاعات الإسرائيلية

واجهت إسرائيل هذا الهجوم باستخدام شبكة دفاع جوي متعددة الطبقات، تضم “القبة الحديدية”، و”مقلاع داود”، ومنظومة “السهم” لاعتراض التهديدات بعيدة المدى، إلى جانب دعم أميركي مباشر بمنظومات “باتريوت” و”Aegis” المنتشرة في قواعد بالمنطقة.

ورغم النجاح الظاهر في اعتراض غالبية التهديدات، فإن بعض الصواريخ نجح في اختراق هذه المنظومة، ما يشير إلى وجود نقاط ضعف تكتيكية عندما تُواجه هذه المنظومات بإغراق ناري متزامن من مسيّرات وصواريخ.

وفي هذا السياق، يشير المحلل العسكري مايكل شوبرغ من معهد السياسات الإستراتيجية الأسترالي (إيه إس بي آي) إلى أن “فشل إيران في إغراق الدفاعات الإسرائيلية بعدد أكبر من الهجمات يُبرز محدودية قدرتها على تنفيذ ضربة فعالة واسعة النطاق، ويؤكد أن أنظمة الدفاع الإسرائيلية لا تزال فعالة للغاية، خاصة مع دعم أنظمة أميركية مثل باتريوت”.

أما معهد دراسات الحرب الأميركي (آي إس دبليو) فقد أوضح أن: “تصميم الهجوم الإيراني يهدف لإرباك وضرب الدفاعات الإسرائيلية متعددة الطبقات، لا لمجرد الاستعراض أو الرد الاعتباري”.

وتبغي الإشارة هنا إلى أن كثيرا من التحليلات الغربية غالبا ما نجد فيها ميلا إلى وجهة النظر الإسرائيلية. كما أن تكتم الرقيب العسكري الإسرائيلي ومنع النشر يحول دون وصول مصادر مستقلة إلى إحصاء الآثار الفعلية لنتائج الضربات الإيرانية داخل إسرائيل.

مقارنة بين المسيّرات والصواريخ.. من الأخطر؟

تتمتع المسيّرات الإيرانية “شاهد” بمزايا مهمة في سياق الحرب غير المتكافئة. فهي رخيصة الكلفة مقارنة بالصواريخ، وتستطيع التحليق على ارتفاعات منخفضة، مما يصعّب رصدها بالرادارات التقليدية. إضافة إلى ذلك، فإن استخدامها المكثف يُربك منظومات الدفاع الجوي، ويستنزف قدراتها عبر ما يشبه “الإغراق التشتيتي” (Saturation and Distraction Tactic) وهذا مصطلح عسكري يُستخدم لوصف هجوم كمي مكثف ومنسّق يُنفّذ بهدف إرباك وتشتيت منظومات الدفاع الجوي لدى العدو، وليس بالضرورة لإحداث دمار واسع. وهذا تكتيك ذكي في الحرب الحديثة، يعتمد على الكثرة لا النوعية، ويستهدف العقل الدفاعي للعدو لا جسده فقط.

وفي حالتنا هذه فحين تطلق إيران عشرات المسيّرات أو الصواريخ دفعة واحدة، فإن الهدف ليس فقط أن تصل كلها إلى الهدف، بل أن تُغرق منظومة الدفاع الجوي للعدو بعدد كبير من الأهداف في وقت واحد، ومعلوم أن بعض المسيّرات تكون بطيئة أو غير دقيقة، لكنها تُجبر الرادارات على تتبّعها. كما أنه تستهلك الصواريخ الاعتراضية المكلفة في محاولة إسقاطها، مما يقود في النهاية إلى تُشتّت أنظمة الرصد، فتفشل في اعتراض الصواريخ الأخطر أو الأسرع التي قد تأتي في الموجة التالية.

EDITORS' NOTE: Reuters and other foreign media are subject to Iranian restrictions on their ability to film or take pictures in Tehran.
تمثل الصواريخ الباليستية رمح التهديد الإستراتيجي ويبقى تأثير الصواريخ هو الأخطر عندما يُستخدم في توقيت محسوب وبصورة مباشرة (رويترز)

لكن على الجانب الآخر، تُعاني المسيّرات من حمولة تفجيرية محدودة نسبيا، كما أن دقتها في إصابة الأهداف منخفضة، خصوصا عندما تواجه أنظمة اعتراض متطورة مثل “القبة الحديدية”. ولذلك، فهي تُستخدم أكثر كوسيلة تشويش وتمهيد، لا كأداة تدمير دقيقة.

في المقابل، تمتلك الصواريخ الباليستية قدرة تدميرية هائلة. فهي قادرة على حمل رؤوس متفجرة ضخمة تصل أحيانا إلى مئات الكيلوغرامات، ويمكنها بلوغ العمق الإستراتيجي للعدو. إن استخدامها يبعث رسالة ردع واضحة، ويهدد أهدافا عسكرية ومدنية على حد سواء.

غير أن هذه الصواريخ مكلفة ماليا وتقنيا، كما أن إطلاقها من داخل إيران يُعد تصعيدا صريحا يُمكن أن يُفسَّر كإعلان حرب شاملة، مما يجعل استخدامها أكثر حساسية من الناحية السياسية. وفي هذا الصدد، يشير الخبير الاستخباري جاستن كرومب، رئيس شركة “سيبيلاين” لتحليل المخاطر، إلى أن “الصواريخ الإيرانية تركّز على المدى والسرعة على حساب الدقة، مما يجعلها غالبا تُخطئ أهدافها العسكرية وتصيب البنى التحتية أو المباني المحيطة بها”.

خلاصة المقارنة

بينما تُعد المسيّرات سلاح التشويش والاستنزاف، تمثل الصواريخ الباليستية رمح التهديد الإستراتيجي. وكلاهما يؤدي وظيفة مختلفة، لكن تأثير الصواريخ يبقى الأخطر عندما يُستخدم في توقيت محسوب وبصورة مباشرة، كما حدث جزئيا في الجولة الأخيرة.

يتضح إذن أن إيران اعتمدت تكتيكا مزدوجا، أولا إطلاق المسيّرات لتشتيت منظومات الدفاع، من ثم تليها دفعة مركّزة من الصواريخ لاختبار مدى قدرة الدفاعات على الصمود. وهذا التتابع يكشف عن إستراتيجية إيرانية محسوبة، تستخدم “الكم” قبل “النوع” لخلق ثغرات في الدرع الإسرائيلي.

وقد أشار تقرير في “بيزنس إنسايدر” إلى أن الهجوم الإيراني: “لم يكن عرضا للقوة فقط، بل صُمم على الأرجح لاختبار قدرة منظومة الدفاع الباليستي الإسرائيلية ‘آرو’ على التعامل مع وابل متزامن من الصواريخ”.

مكاسب إيران وخسائر إسرائيل

يمكن القول إن إيران حققت من الناحية الإستراتيجية مجموعة أهداف مركبة:

  • أظهرت طهران أنها قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي من أراضيها، لا من خلال الوكلاء فقط.
  • أجبرت منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية على العمل بأقصى طاقتها، مما شكّل أول اختبار عملي كثيف لها.
  • أرسلت رسالة مفادها أن طهران لا تزال تمسك بخيوط المبادرة، وأن يدها ليست مكبّلة كما كان يُعتقد.

من جهة أخرى، تعرّضت إسرائيل لإحراج نسبي، فبينما أعلنت عن “نجاح استثنائي” في التصدي للهجوم، تكشّف أن بعض الصواريخ والمسيّرات اخترقت الدرع، مما قد يؤثر على ثقة الرأي العام الإسرائيلي بمنظومته الدفاعية، خصوصا في حال تكرار سيناريوهات الإغراق الناري مستقبلا.

تشير هذه الجولة بين إسرائيل وإيران إلى تحوّل واضح في قواعد الاشتباك (وكالات)

هل نحن أمام قواعد اشتباك جديدة؟

تشير هذه الجولة بين إسرائيل وإيران إلى تحوّل واضح في قواعد الاشتباك، فلم تعد إيران تتكتّم خلف وكلائها، بل استخدمت صواريخها ومسيّراتها من أراضيها في هجوم مباشر، وإن كان محسوبا. من جانب آخر، أثبتت إسرائيل أنها لا تزال تملك قدرة دفاعية متعددة الطبقات، لكنها ليست منيعة بالكامل.

وما يضيف بُعدا أخطر هو أن هذه المواجهة لم تجرِ في فراغ، فكل ضربة أصبحت تمر عبر حسابات واشنطن، ومواقف موسكو، وسقف طاقة الخليج، وتهديدات البحر الأحمر.

وقد أثبتت الجولة الأخيرة أن التكنولوجيا العسكرية الإيرانية لم تعد مجرد دعاية. فالمسيرات باتت سلاح التشويش الإستراتيجي، وأصبحت الصواريخ تحمل رسائل الردع الثقيلة. لكن، وفي المحصلة، لم يُحسم شيء. الصراع تحوّل إلى مباراة أعصاب، وأي طلقة مقبلة قد تفلت من منطق “الحسابات”، وتفتح باب التصعيد الكبير.

نحن لا نشهد حربا بين جيشين فقط، بل بين مدرستين في الحرب: مدرسة الضربة الكاسحة (إسرائيل)، ومدرسة الاستنزاف الطويل النفس (إيران).

ولفهم هذه المواجهة ضمن أطر أوسع، لا بد من النظر في الفارق الجوهري بين المدرستين العسكريتين لكل من إسرائيل وإيران، فلا يكفي تحليل الأسلحة، بل يجب التوقف عند العقيدة القتالية التي تقف خلفها.

كيف تقاتل إسرائيل وإيران بأسلوبين مختلفين؟

مع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، وتبادل الضربات غير المسبوقة على مستوى الدولة، يبرز فارق جوهري في طبيعة الإستراتيجية العسكرية التي يعتمدها كل طرف. ليست الحرب بينهما فقط حربَ صواريخ ومسيّرات، بل مواجهة بين مدرستين عسكريتين مختلفتين: الضربة الكاسحة في مقابل الاستنزاف التدريجي.

إسرائيل: عقيدة “الضربة الكاسحة”

تُجسد إسرائيل مفهوم “الضربة الوقائية القاصمة” بامتياز. وهي تستند إلى عقيدتها العسكرية التي تقول “لا تنتظر التهديد اضرب أولا وبقوة”. وفي الضربة الأخيرة، رأينا تنفيذا حيا لهذه العقيدة، ويمكن تلخيصها في عدة محاور:

  • قصف دقيق لمواقع عسكرية ونووية داخل العمق الإيراني.
  • رسائل مزدوجة للداخل والخارج: قدرة استخباراتية وجوية خارقة، واستعداد لكسر الخطوط الحمر.
  • هدف الضربة لم يكن فقط الرد، بل إعادة تشكيل ميزان الردع وفرض معادلة جديدة من فوق الطاولة.
    epa12174523 Israeli rescue teams at the site where Iranian ballistic missiles hit residential buildings in Rishon LeZion, near Tel Aviv, Israel, 14 June 2025. An Israeli Defense Forces (IDF) spokesperson said Iran launched a wave of ballistic missiles toward Israel, and according to emergency service Magen David Adom (MDA), 21 people were injured, including two in critical condition. EPA-EFE/ABIR SULTAN
    فرق الإنقاذ الإسرائيلية في موقع سقوط الصواريخ الباليستية الإيرانية على مناطق قرب تل أبيب (الأوروبية)

إيران: عقيدة “الاستنزاف المنضبط”

في المقابل، تبنّت إيران أسلوبا مختلفا تماما. فهي لم تسعَ إلى ردٍ موازٍ في القوة أو المباشرة، بل إلى رد متدرج، موزّع، وطويل النفس، وذلك وفق الخطوات التالية:

  • بدأت بالمسيّرات الانتحارية الرخيصة نسبيا لإرباك الدفاعات.
  • أتبعت ذلك بدفعة صواريخ محدودة، محسوبة، لا تستفز المجتمع الدولي بحجم غير قابل للاحتواء.
  • تركت باب التصعيد مفتوحا دون أن تحدد وسائله صراحة.

هذا الأسلوب الإيراني هو إستراتيجية الاستنزاف الصبور، التي تراهن على الزمن، والضغط النفسي، والتشكيك في فعالية الردع الإسرائيلي.

المواجهة بين نمطين.. من الرابح؟

يمكن القول إن الضربة الكاسحة سريعة ومرعبة، لكنها عالية المخاطر سياسيا، وتحتاج إلى غطاء دبلوماسي دائم، وهذا ما هو حاصل في حالة إسرائيل. أما الاستنزاف، فهو منخفض الكلفة نسبيا، لكنه لا يضمن ردعا فوريا، ويحتاج إلى صبر إستراتيجي طويل، خاصة في ظل التآكل الداخلي والاقتصادي.

ومع ذلك، فإن هذه الجولة تثبت أن الحرب بين إيران وإسرائيل لم تعد حرب وكلاء أو جبهات بعيدة. إنها الآن مواجهة مكشوفة، بين سيف نازل ورمح طويل المدى. لقد كشف التصعيد الأخير أن التكنولوجيا العسكرية الإيرانية لم تعد مجرد دعاية أو تهديد نظري، فالمسيرات، ورغم كونها أسلحة تشويش واستنزاف، قد أثبتت قدرتها على إرباك الدفاعات. أما الصواريخ الباليستية، فقد حملت رسائل الردع الثقيلة، مؤكدة أن العمق الإسرائيلي لم يعد بعيدا عن مرمى النيران المباشرة.

ربما يرى بعض المحللين والإستراتيجيين أن محصلة الصراع لم تُحسم بعد، لكن حتما باتت كل ضربة تمر عبر حسابات دقيقة لواشنطن وموسكو وعواصم المنطقة. نحن لا نشهد حربا بين جيشين يتبادلان الضربات فحسب، بل مواجهة بين مدرستين عسكريتين متناقضتين، فإسرائيل تراهن على “الضربة الكاسحة” للحسم السريع، أما إيران فإن “الاستنزاف الطويل النفس” طريقتها في الرهان على الزمن والضغط المتواصل.

لقد رأى العالم هذا التحول في قواعد الاشتباك، حيث تجرأت إيران على الهجوم المباشر من أراضيها، وهذا يعيد تعريف مفهوم الردع ويضع المنطقة على شفا تحولات قد تفلت من منطق “الحسابات”. ولكن مع تسارع التطورات، فإن السؤال لم يعد فقط حول تغير قواعد اللعبة، بل إلى أين يمكن أن تدفعنا هذه القواعد الجديدة في الأيام القادمة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى