Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة وفنون

فلسطين في السينما العربية المصرية.. حوار مع الناقد المصري الدكتور وليد الخشاب

تمثل القضية الفلسطينية قضية مركزية عند العرب منذ احتلال فلسطين في أربعينيات القرن الماضي، وتحولت اليوم إلى أكبر وأقدم قضية إنسانية في العالم. لم تحجبها أي قضايا أخرى طارئة أو عارضة من حروب وانتفاضات وإرهاب وكوارث طبيعية واقتصادية وصحية.

وهذا ما جعلها موضوعا أثيرا عند المثقفين والمبدعين في العالم يقع تطارحها بأشكال ومحامل مختلفة، وتعتبر السينما كما الأدب أحد أهم هذه الفنون التي أولت القضية الفلسطينية الاهتمام.

في هذا الحوار الخاص نسعى مع الدكتور وليد الخشاب الناقد والباحث السينمائي وأستاذ الدراسات العربية في جامعة “يورك” بكندا إلى تقصى حقيقة مساهمة السينما المصرية في خدمة هذه القضية القومية والإنسانية ومدى ارتباط السينما العربية بفلسطين وقضيتها.

ويحاول صاحب “مهندس البهجة” و”الاقتباس في السينما” في هذا الحوار النهري تفكيك تلك العلاقة التي ربطت السينما المصرية بفلسطين وفهمها في سياقها التاريخي والسياسي وفهم تبدلاتها.

الكاتب والناقد وليد الخشاب يجيبنا في كتابه “مهندس البهجة” الذي يحلل شخصية فؤاد المهندس عن سؤال كيف تكون الفكاهة في خدمة الوطن؟ (الجزيرة)
  • ترتبط السينما المصرية ارتباطا جذريا بقضية فلسطين منذ البدايات، فيمكننا أن نطل على بداية القضية الفلسطينية من خلال الفيلم المصري “فتاة من فلسطين” الذي أنتج سنة 1948 بإخراج لمحمود ذو الفقار. حدثنا عن هذا الارتباط المبكر للسينما المصرية بالقضية الفلسطينية الذي يجسده هذا الفيلم.

أتفق مع فكرة ارتباط السينما المصرية ارتباطا جذريا بقضية فلسطين منذ البدايات، مع ملاحظة أن عدد الأفلام المصرية التي تتناول فلسطين خصوصا، والحروب والصراعات بين مصر وإسرائيل عموما، محدود للغاية بالنسبة لأن عدد الأفلام العربية التي أنتجت على شرائط سينمائية يتجاوز 5 آلاف، خلال الـ100 عام الماضية.

لو قارنّا عدد الأفلام الهوليودية التي أنتجت عن الحرب العالمية الثانية، ونسبتها إلى عدد الأفلام الهوليودية المنتجة منذ بداية تلك الحرب عام 1939 إلى اليوم، بعدد الأفلام المصرية -والعربية عموما- التي تتناول قضية فلسطين، لرأينا بوضوح كيف تشارك آلة السينما في جهاز الدعاية وصناعة الذاكرة والخطابات القومية في الولايات المتحدة، بينما لا تكاد السينما العربية تلتفت إلى فلسطين إلا بشكل رمزي.

مئات الأفلام الأميركية تكرس وجهة نظر الولايات المتحدة وتدافع عن موقفها في الحرب العالمية الثانية، بينما أفلامنا المشغولة بفلسطين قليلة، قياسا على مجمل الإنتاج السينمائي العربي.

لكن لا شك أن الأفلام العربية التي احتفت بفلسطين تستحق التحية والدراسة معا. ربما رجعنا إلى فيلم تاريخي عُرِضَ قبل النكبة بأسابيع عام 1948 وهو “شمشون الجبار” من إخراج كامل التلمساني، أي أنه عُرضَ شهورا معدودة قبل “فتاة من فلسطين”.

"بوستر فيلم شمشون الجبار" من إخراج كامل التلمساني
فيلم شمشون الجبار من إخراج كامل التلمساني عُرِضَ قبل النكبة بأسابيع عام 1948 (الجزيرة)

ويمكن قراءة قصة فيلم شمشون الجبار على أنها تتصور شمشون ممثلا للفلسطينيين الذي ينجح في إجلاء الغربي البريطاني والأشكينازي عن فلسطين. وبعد فيلم “فتاة من فلسطين” بأسابيع عُرِضَ فيلم “مغامرات عنتر وعبلة” عام 1948 أيضا، من إخراج صلاح أبو سيف.

والإسقاط في فيلم أبو سيف واضح لا مواربة فيه: فعنترة البطل العربي يقاوم الاحتلال الروماني وحلفاءه العبرانيين، في إسقاط واضح على بريطانيا والمنظمة الصهيونية، وينتهي الفيلم بانتصار العرب و”تحرير” عبلة.

لكن لا شك أن الفيلم المصري “فتاة من فلسطين” من إخراج محمود ذو الفقار، والذي أُنتج سنة 1948، يعتبر علامةً وبدايةً مهمة لتناول القضية الفلسطينية في السينما العربية بصراحة وبلا مجاز تاريخي.

ظهر الفيلم بعد شهور من الحرب وإنشاء دولة الاحتلال في فلسطين، ومثل بداية استخدام مجاز فلسطين الفتاة مهيضة الجناح، ومصر الرجل القوي الذي يحميها في سياق حديث واضح. يتفصل المجاز في علاقة البطلة الفلسطينية بالبطل المصري.

في بداية فيلم “فتاة من فلسطين”، تصل سلمى الفتاة الفلسطينية، وتلعب دورها سعاد محمد، إلى القاهرة بالقطار، هاربة من بلادها، بعد احتلال العصابات الصهيونية لمدينتها. وربما يشير الفيلم إشارة سريعة لكونها من يافا، حين يلمح خادم الأسرة المصرية التي تستضيفها إلى البرتقال اليافاوي في حوار معها.

تنزل سلمى الفلسطينية عند خالتها بالقاهرة، إذ كانت خالتها متزوجة من مصري واستقرت بمصر منذ سنين. وينتهي الفيلم بأن تقع سلمى في غرام ابن خالتها الطيار المقاتل المصري، ويلعب دوره محمود ذو الفقار، ويتزوج الحبيبان في المشهد الأخير من الفيلم.

فتاة من فلسطين" الذي أنتج سنة 1948 بإخراج لمحمود ذو الفقار
“فتاة من فلسطين” أنتج عام 1948 وإخراج محمود ذو الفقار يحكي قصة فتاة فلسطينية تأتي لاجئة إلى القاهرة وتصل إلى بر الأمان بزواجها من رجل مصري (الجزيرة)

مثير تصور العلاقة بين مصر وفلسطين وكأنها علاقة أسرية، وأن مجازها هو الحب والزواج. وهو علامة شعور عاطفي عميق حيال فلسطين وشعبها وحقوقها. لكن الفيلم يشي أيضا ببُعْد أبوي واستعلائي: فابن الخالة المصري الذي يكبر الفتاة الفلسطينية يشير إلى نفسه باعتباره ولي أمرها، وهذا التصور يقابله الخطاب الرسمي المصري الذي تواصل عبر عقود، حول المركزية المصرية في التعامل مع فلسطين.

كما أن معظم صور القتال في الفيلم تدور حول تمجيد دور سلاح الطيران المصري في حرب 1948 وهو ما يمثل مبالغة كبيرة، إذ لم يكن لذلك السلاح دور كبير في الحرب. لكن الفيلم مهموم بإبراز صورة الدولة المصرية وجيشها بوصفهما علامات على التحديث والعظمة، أكثر من اهتمامه بأصحاب الأرض المطرودين من بلادهم. وهكذا يكاد الفيلم لا يعرض لشخصيات فلسطينية تأثرت من جراء القتال، بينما يفيض في عرض صور للجرحى من الجنود المصريين الذين شاركوا في المعارك.

  • أرض الأبطال، لنيازي مصطفى، من إنتاج (1953) ربما يعتبر أول فيلم مصري يتوجه إلى غزة ويدور جزء من أحداثه هناك، وتختلط فيه المحنة المصرية بالمحنة الفلسطينية، كيف تقرأ ذلك؟

اهتمام السينما المصرية وعالم الإنتاج الثقافي المصري برمته بقضية فلسطين يواكب اندلاع حرب 1948 بعد عدوان العصابات الصهيونية على السكان العرب في فلسطين. أما عن اهتمام مصر بغزة تحديدا، فهذه مسألة تاريخية لأن غزة هي الجار الملاصق للأراضي المصرية.

في الدقيقة 80 من فيلم “أرض الأبطال” تظهر لافتة تشير بوضوح إلى أن الجرحى المصريين ينقلون إلى القاهرة انطلاقا من قاعدة في رفح. فكل الأحداث تدور في فلسطين، وتدعي عناوين الفيلم أن المشاهد الخارجية قد تم تصويرها بالفعل في فلسطين، وهو أمر معقول لأن الفيلم قد عرض عام 1953 في وقت كان قطاع غزة فيه تحت الإدارة المصرية.

أرض الأبطال، لنيازي مصطفى، من إنتاج (1953)
أرض الأبطال لنيازي مصطفى من إنتاج (1953) وهو أول فيلم مصري يتوجه إلى غزة ويدور جزء من أحداثه هناك (الجزيرة)

ميزة الفيلم وعيبه معا هي أنه أيضا يستعيد مجاز الضابط المصري (هنا هو ضابط صف وليس ضابطا خريج الكلية العسكرية) الذي يقع في حب الفتاة الفلسطينية (المصورة هنا على أنها بدوية) وينتهي الفيلم بالزواج بين الحبيبين في القاهرة. أي أن الحل الذي يطرحه الفيلم ليس في القتال ولا في حل المسألة سياسيا، بل في استضافة الفلسطينيات كلاجئات. ولا إشارة في “أرض الأبطال” للرجال الفلسطينيين، إلا بوصفهم آباء لهاتيك الفتيات يقتلون في الحرب، كما حدث لوالد الفتاة الفلسطينية في الفيلم.

لكن احتفاء السينما المصرية بفلسطين عموما يرجع لعامل ثان يتجاوز التعاطف مع الشقيق الفلسطيني، وهو عامل يسبق حرب 1948. فقد شهدت أربعينيات القرن الـ20 تصاعد التفات السينما المصرية إلى المؤسسة العسكرية المصرية منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية.

منذ مطلع الأربعينيات، تعدد ظهور شخصية الضابط المصري الذي يمثل الأمل في مستقبل أفضل على الشاشة، بغض النظر عن تصور السينما لدور محتمل للضباط يتعلق بالقضية الفلسطينية في قصص الأفلام الروائية وفي عالم التخييل المعروض خلالها.

نرى ذلك في فيلم “الورشة” مثلا، من إنتاج عام 1940، أي قبل “فتاة من فلسطين” بـ8 أعوام. وبالمصادفة، كان محمود ذو الفقار أيضا يلعب دور الضابط المصري المعقود بناصيته الأمل في حل مشكلة البطلة في فيلم “الورشة”.

فيلم "الورشة" من إنتاج عام 1940
فيلم “الورشة” من إنتاج عام 1940 يبرز فكرة ظهور الضابط المصري الذي يمثل الأمل في مستقبل أفضل على الشاشة (الجزيرة)

كانت البطلة وحيدة في غياب زوجها، واقعة فريسة لاستغلال أخيها، وغارقة في إدارة العمل في الورشة، حتى يجيء الضابط ليساندها ويساعدها فيما يمكن وصفه بالقضاء على الفساد (استغلال أخيها مثلا)، وهو الخطاب ذاته الذي تنامى حتى بلغ ذروته في التأييد الشعبي الذي حصلت عليه حركة الضباط الأحرار حين تولت مقاليد الأمور عام 1952.

  • فيلم “أرض السلام” لكمال الشيخ يدخلنا في عالم السينما الحربية الدرامية التي تناولت القضية الفلسطينية، وقد أنتج سنة 1957، حدثنا عن خصوصية هذه الأفلام ولماذا اختفت؟ هل لذلك علاقة باتفاقية السلام التي أبرمت بين مصر وإسرائيل وصار من الصعوبة إقحام الآليات الحربية في موضوع كهذا؟

صورت الأفلام المصرية عدة معارك تمثل القتال بين القوات المصرية والعصابات الصهيونية في فلسطين عام 1948، لكن كثيرا ما كانت لقطات القتال تلك مستعارة من أفلام أوروبية وأميركية تصور معارك الحرب العالمية الثانية في السينما الغربية.

يمثل فيلم “أرض السلام” نقلة بسبب حرصه على تصوير معارك مطولة صممت ونفذت خصيصا للفيلم، في حين كانت المعارك المصورة خصيصا لفيلم “أرض الأبطال” أقصر طولا.

كما أن “أرض السلام” هو أول فيلم مصري يتم إنتاجه بعد العدوان الثلاثي على مصر والذي شاركت فيه إسرائيل إلى جانب فرنسا وإنجلترا، ويظهر في الفيلم بوضوح خطاب مصري عن تولي الجمهورية الشابة مسؤولية تحرير فلسطين، وعن بذلها كل الجهود العسكرية المتاحة لتحرير الأرض المحتلة.

فيلم "أرض السلام" لكمال الشيخ
فيلم “أرض السلام” لكمال الشيخ يعطي انطباعا طيبا للمشاهد بفضل نجاح العملية الفدائية ويعترف بوجود الاحتلال وبكونه خصما لدودا (الجزيرة)

ففيلم “فتاة من فلسطين” مثلا، لا يبدو فيه أن القوات العربية قد خسرت المعركة، بل ما يبقى في الذاكرة منه هو عودة الطيارين المصريين سالمين، وحتى البطل المصري الذي أصيبت ساقه فصار أعرج، يتزوج البطلة الفلسطينية وينتهي الفيلم بعرسهما. فيلم “أرض السلام” في المقابل، يتتبع مغامرات ضابط مخابرات مصري يقود العمل الفدائي الفلسطيني لتدمير قوات الجيش الإسرائيلي في منطقة فلسطينية محتلة.

صحيح أن الفيلم يعطي أيضا انطباعا طيبا للمشاهد بفضل نجاح العملية الفدائية – وانتهاء الفيلم بزواج الضابط المصري عمر الشريف من الفتاة الفلسطينية فاتن حمامة، هنا أيضا- لكنه على الأقل يعترف بوجود الاحتلال وبكونه خصما لدودا.

أما عن تصوير المعارك الحربية بين مصر وإسرائيل بعد مبادرة السلام التي أطلقها السادات في أواخر عام 1977، فهو يكاد يكون قد انقطع منذ ذلك التاريخ. وقد أثارت كتابات بعض النقاد أكثر من مرة احتمال رفض القوات المسلحة المصرية تصوير أفلام تدور حول القتال بين مصر وإسرائيل، لا سيما في حرب 1973، بسبب ما يتصوره هؤلاء النقاد من وجود التزام رسمي مصري بعدم إنتاج مثل هذه الأفلام، أو ربما من وجود بنود سرية في المواثيق المتبادلة بين دولتي مصر وإسرائيل بهذا الخصوص.

لكن لا توجد معلومات موثقة ومعلنة بهذا الخصوص. كل ما نلاحظه أنه منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية لا يوجد تصوير للمعارك بين الطرفين على الشاشة، وإن كان يمكننا أن نرى -في حدود ضيقة- أثر موقف حربي على جنود مرهقين، أو في موقف مأزوم، لكن لا نرى اشتباكا قتاليا.

على أن تصوير الصراع المصري الإسرائيلي في السينما المصرية ظل حاضرا في أفلام جاسوسية، أو أفلام تظهر التأثير النفسي والأخلاقي للقتال على المصريين، وأحيانا نادرة في تصوير عمليات حرب الاستنزاف، أي قبل حرب 1973.

ويعتبر فيلم “الطريق إلى إيلات” المنتج عام 1993 من الأفلام النادرة التي أنتجت بعد معاهدة السلام وصورت عملية ذات طابع عسكري لكنها تقع ضمن حرب الاستنزاف، إذ يعرض الفيلم لمحة من العمليات الثلاث التي قامت بها القوات الخاصة المصرية بمهاجمة ميناء إيلات عامي 1969 و1970.

بوستر فيلم "الطريق إلى إيلات" المنتج عام 1993
تصوير الصراع المصري الإسرائيلي في السينما المصرية ظل حاضرا في أفلام جاسوسية أو أفلام تظهر التأثير النفسي والأخلاقي للقتال على المصريين مثل فيلم “الطريق إلى إيلات” المنتج عام 1993 (الجزيرة)

لكننا لم نعد نرى على الشاشة صورا للعبور الكبير في حرب أكتوبر، أو لجنود مصريين يقاتلون جنود الاحتلال مباشرة. ربما يفضل الطرف الإسرائيلي ألا تظهر معارك، لا سيما معارك 1973 التي تعرض فيها الجيش الإسرائيلي لهزيمة تاريخية.

وربما تفضل الدولة المصرية تجنب ما قد ينكأ جراح الماضي، لا نعلم. اللافت للنظر في رأيي هو أن عقودا من السلام بين البلدين -سواء رأيناه سلاما دافئا أو باردا- لم تغير شيئا من ولع المصريين بقصص ينتصر فيها الطرف المصري على غريمه في هذا الصراع التاريخي، وشعبية مسلسل “رأفت الهجان” الكبيرة بالغة الدلالة.

إلى اليوم، يتمتع المسلسل بمكانة خاصة بين المصريين، تتراوح بين الإعجاب وبين السخرية النابعة من الحنان، مثلما يسخر المرء من أهله بعد أن يتقدموا في العمر دون أن يقصد إلا خيرا، وذلك بعد أكثر من 35 عاما من العرض الأول لمسلسل “رأفت الهجان” على الشاشة الصغيرة عام 1988.

  • تتردد قصص الحب في السينما المصرية التي تتناول فلسطين، حيث تنتهي في معظمها بتتويج قصة الحب بين الطرف الفلسطيني والطرف المصري. كيف تحلل هذا؟

منذ رسالتي للدكتوراة عن “الميلودراما في مصر” التي حللت فيها -ضمن ما حللت- بنية علاقات القوة بين النوعين الاجتماعيين للرجل والمرأة في فيلم “أرض السلام”، وأنا معني بدراسة ذلك المجاز. أعني مجاز الرجل المصري الذي ينقذ الفتاة الفلسطينية فيتزوجها، ويعود بها إلى القاهرة، مثلما في “أرض السلام” أو تلك الفتاة الفلسطينية التي تأتي لاجئة إلى القاهرة، وتصل إلى بر الأمان بزواجها من رجل مصري، مثلما في “فتاة من فلسطين”.

نظريتي أن هذا مجاز شامل قد واكب صعود الفكرة القومية المصرية وارتباطها بالعزة الوطنية في كافة مجالات الإنتاج الثقافي -ومنها السينما. فلسطين أنثى ومصر ذكر، والذكر يحمي الأنثى المكلومة بالزواج.

عطب هذا التصور ليس فقط في التصور الأبوي عن علاقة مصر “كشقيقة كبرى” بفلسطين، لكن في كونه يتجاهل لب المشكلة، وهو الأرض المحتلة والحقوق الوطنية المسلوبة. فتلك الأفلام المصرية لا تضع أفقا لتصور عن تحرير الأرض، بل تحجب ذلك التصور خلف الابتهاج بعرس يرسخ وضع مصر كحامٍ لفلسطين الجريحة، لا كمعاون لها في نضال تحرري.

مجاز الرجل المصري الذي ينقذ الفتاة الفلسطينية فيتزوجها، ويعود بها إلى القاهرة، مثلما في "أرض السلام"
في فيلم “أرض السلام” يظهر مجاز الرجل المصري الذي ينقذ الفتاة الفلسطينية فيتزوجها ويعود بها إلى القاهرة (مواقع التواصل)

ويمتد ذلك التصور للغالبية العظمي من الأفلام المصرية في مرحلة التحرر الوطني، التي تضع مصر دائما في المركز من المنطقة العربية، وتقرنها بالذكورة بوصفها علامة القوة.

في أفلام الخمسينيات والستينيات المصرية، البطل دائما شاب مصري وسيم تقع في غرامه الفتاة السورية أو اللبنانية (مثلما في فيلم “المجد” للسيد بدير)، والذي غالبا ما يكون ضابطا إن كانت محبوبته فلسطينية. فنرى دائما ذلك الالتباس في الخطاب العروبي المصري آنذاك -وربما إلى اليوم- فهو خطاب عن فحولة مصر الحامية التي تحمي وتسيطر معا على الشقيقات في المنطقة.

في رسالتي للدكتوراة “الميلودراما في مصر”، أرجعت ذلك المجاز المنطلق من النوع الاجتماعي وعلاقة القوة بين الرجل والفتاة إلى القرن الـ19، منذ أوبرا “عايدة” التي استبطنتها الذاكرة الثقافية المصرية بوصفها أول أوبرا مصرية، بحكم أن ممولها كان إسماعيل باشا مصر، وكانت جزءًا من خطاب الإمبريالية المصرية الوليدة بين عهدي محمد علي باشا وإسماعيل باشا.

ففكرة أوبرا “عايدة” الأساسية هي قصة الحب بين الضابط المصري رادميس فاتح إثيوبيا، الذي تقع الأميرة الإثيوبية عايدة في غرامه وتضع نفسها تحت حمايته- حال وصولها إلى مصر.

  • تهتم منذ سنوات بالكوميديا في السينما والمسرح وأصدرت كتابا عن فؤاد المهندس وتواصل هذا الاهتمام مع تجارب أخرى.. ماذا لو رحلنا مبحثك إلى القضايا العربية والقضية الفلسطينية بالذات، كيف تقرأ مساهمتها؟ نستحضر هنا مثلا “السفارة في العمارة” مع أفلام أخرى لعادل إمام وإن لم تكن مباشرة وفيها جزء من الدوافع الوطنية، هل يمكن أن نعتبرها صدى أيضا للقضية الفلسطينية؟

يعجبني فيلم عادل إمام “السفارة في العمارة” ولا شك أنه يلعب على أوتار العاطفة الشعبية الغالبة في مصر والتي تنظر بعين الارتياب للعلاقة مع دولة الاحتلال. يحسب للفيلم أنه لا يحاول الاصطدام بالعاطفة الشعبية الجارفة التي لا ترى في دولة الاحتلال صديقا، حتى رغم السلام الرسمي بين البلدين. فالفيلم يصور بوضوح رفض كافة فئات المجتمع لوجود سفارة الاحتلال في بنايتهم أو حتى في حيهم.

فيلم عادل إمام "السفارة في العمارة"
فيلم عادل إمام “السفارة في العمارة” يسمح بتصوير شيء من الرفض الشعبي لدولة الاحتلال لكنه -في المقابل- يسدد ضربات بالغة لليسار المشهور بأنه ضلع هام في مربع مناهضة الاحتلال (الجزيرة)

لكن الفيلم يبرز أيضا موقف “الرجل العادي” الذي يبدو أنه يتخذ ذلك الموقف المناهض لوجود السفارة في الحي، مسايرةً منه لتيار أقلية من المناضلين المعارضين للتطبيع، وهو الصوت الذي يمثله عادل إمام في الفيلم.

وينتهز فيلم “السفارة في العمارة” فرصة القصة ليسخر من المناضلين الذين ينظمون المظاهرات، بتركيزه على شخصية عادل إمام الذي ينخرط في مظاهرة ضد الاحتلال لمجرد أنه مفتون بفتاة مناصرة للحق الفلسطيني تشارك في تلك المظاهرة، وبهدف التقرب منها ومغازلتها.

ثم إن الفيلم يتمادى في ذلك الخط فيقدم سخرية بالغة -ووجيهة في آن- من أسرة الفتاة اليسارية. في المحصلة الأخيرة، يبدو أن الفيلم يسمح بتصوير شيء من الرفض الشعبي لدولة الاحتلال، لكنه -في المقابل- يسدد ضربات بالغة لليسار المشهور بأنه ضلع هام في مربع مناهضة الاحتلال، ويخدم بالتالي هدفا آخر من أهداف الدولة، أبعد من هدف الترويج للتطبيع.

  • مع ذلك فإن عادل إمام من دعاة السلام وضد فكرة المقاومة المسلحة من خلال تصريحات كثيرة. أي مفارقة هذه وكيف تقرؤها؟

عادل إمام كوميديان السلطة في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الحالية، فهو لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها النظام إلا بمقدار ما يسهم في التنفيس عن الغضب الشعبي حيال القضايا التي يراها النظام ملحة في وقتها.

عادل إمام قد يمزح ويعبر عن الرفض الشعبي لإسرائيل، لكن لا يمكن أن يتجاوز ذلك الخط ويدعم النضال المسلح ضد الاحتلال
عادل إمام قد يمزح ويعبر عن الرفض الشعبي لإسرائيل، لكن لا يمكن أن يتجاوز ذلك الخط (مواقع التواصل)

وفي فيلم “السفارة في العمارة” يلعب عادل إمام الدور نفسه الذي لعبه دريد لحام في سوريا: هو كوميديان النظام المعتمد، يسمح له -على وجه استثنائي وحصري- بمساحة من النقد أكثر رحابة من المساحات المسموحة عادة، فقط بهدف تمرير خطاب يتبناه النظام.

فعادل إمام قد يمزح ويعبر عن الرفض الشعبي لإسرائيل، لكن لا يمكن أن يتجاوز ذلك الخط ويدعم النضال المسلح ضد الاحتلال لا في أفلام أو مسرحيات يقوم ببطولتها ولا في حوارات صحفية تُجْرى معه، لأن الخط الرسمي في مصر منذ أيام السادات يتبنى فكرة السلام مع إسرائيل كخيار إستراتيجي ثابت، ومبدؤه حل الخلافات مع دولة الاحتلال بالتفاوض لا بالمقاومة المسلحة.

  • في فيلم من أفلام فؤاد المهندس “فيفا زلاطا” أنتج عام 1976 وكأنما هناك تخل عن القضية وأنت تحلل هذا في مؤلفك عن فؤاد المهندس، كيف توضح لنا هذا في ضوء سياسة عبد الناصر في تلك الفترة؟

للوهلة الأولى، يبدو فيلم “فيفا زلاطا” بطولة فؤاد المهندس وشويكار فيلما ناصريا، وقد شرع فؤاد المهندس في إنتاجه قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973، ثم اضطر إلى تأجيل المشروع بسبب ظروف الحرب.

الحس الناصري في الفيلم نابع من الإسقاط الواضح لشخصية زلاطا على صورة القائد الوطني زعيم التحرر الوطني الذي يقود مجموعة من المستضعفين في حرب ضد عصابة من الأشرار تمثل قوى الاستعمار والاحتلال.

يقود زلاطا شعب مدينة تكسيكو في المكسيك في نضالهم ضد عصابة الأشرار، حين يذهب إلى هناك خليفة لعمه المهاجر المصري إلى المكسيك، والذي كان الزعيم التاريخي لتلك المدينة المتخيلة.

فؤاد المهندس "فيفا زلاطا"
يبدو فيلم “فيفا زلاطا” بطولة فؤاد المهندس وشويكار فيلما ناصريا (الجزيرة)

ويؤسس “زلاطا” فؤاد المهندس حكومة حرة في المدينة بعد طرد العصابة التي تشير إلى الاحتلال. لكنه يترك المدينة ويعود إلى مصر في المشهد الأخير من الفيلم، قائلا لأهل المدينة المكسيكية: هذه الأرض لا يدافع عنها إلا أصحابها.

رأيت في هذا المشهد استباقا للسياسة المصرية بعد حرب 1973: حررت مصر أرضا تتبع إقليمها، ثم تترك الفلسطينيين ليحرروا ما شاؤوا من أرضهم لأنه -على حد قول بطل الفيلم- لا يدافع عن الأرض إلا أصحابها.

فعلى الرغم من بريق تلك العبارة في الفيلم، أراها تعني -أو تستبق- تخلي مصر عن دورها في النضال من أجل تحرير فلسطين، أو على الأقل عن سعيها الجاد لضمان حقوقه الفلسطينيين الأساسية وأمنهم.

  • رغم ندرتها فإن السينما السيرية العربية احتفت بالقضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني ونمثل لذلك بفيلم “ناجي العلي” لعاطف الطيب بطولة نور الشريف، والذي يروي قصة اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. حدثنا عن رأيك في هذا الفيلم مستحضرا ما تعرض له نور الشريف بعد ذلك من حملة في الصحافة ومحاصرة له كفنان. هل تخضع القضية الفلسطينية في تناولها السينمائي إلى محظورات ويعتبر الخوض فيها مخاطرة؟

لفيلم “ناجي العلي” أهمية خاصة في تاريخ السينما العربية لأنه من الأمثلة القليلة التي تعاونت فيها جهات إنتاج تنتمي إلى أكثر من بلد عربي، ومن الأمثلة القليلة التي نجحت فيها عملية إنتاج مشترك عربية لفيلم يتعرض للقضية الفلسطينية.

فيلم "ناجي العلي" لعاطف الطيب
فيلم “ناجي العلي” لعاطف الطيب تعرض الفيلم لحملة وخصوصا في مصر لأنه قد ظهر في بداية عام 1992 حيث كانت هناك حساسية رسمية شديدة من انتقاد السلام مع إسرائيل (الجزيرة)

فالفيلم يعرض لسيرة حياة فنان الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر ناجي العلي، وبالتالي يصور النكبة والتهجير، ويعرض لاغتيال الفنان الذي أزعجت رسومه وسخريته الاحتلال، والذي طال نقده كذلك من لا يواجهون الاحتلال بحسم في المنطقة. واختتم فيلم “ناجي العلي” بتصوير الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بحيث بدا وكأن اغتيال العلي كان قد تم رمزيا وسياسيا لحظة الغزو الإسرائيلي للبنان، أي 5 سنوات قبل مصرع الفنان العلي في لندن على يد قاتل مجهول سنة 1987.

وبشكل عام، فعدد الأفلام التي تتناول فلسطين يعتبر قليلا قياسا لعدد الأفلام العربية التي أنتجت خلال تاريخ السينما العربية، كما أسلفت. لذلك يكتسب الفيلم أهمية خاصة، لا سيما أنه يعرض لتفاصيل واقعية ولا يكتفي بمجازات فجة عن ضابط مصري ينقذ فتاة فلسطينية بالزواج منها، ولا يكتفي بتصوير معارك بين المقاومة والجيوش العربية والاحتلال، بل يشرح قسما من عذابات الفلسطينيين في المهجر.

تعرض الفيلم لحملة وخصوصا في مصر لأنه قد ظهر في بداية عام 1992، في لحظة لم تكن السياسة المصرية الرسمية حيال تناول العلاقة بإسرائيل قد نضجت، وكانت هناك حساسية رسمية شديدة من انتقاد السلام مع إسرائيل.

بالإضافة إلى أن الفيلم ينتقد عدم تقديم أي جيش عربي لمجهود حربي لمقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، باستثناء ما يسوقه الفيلم من قتال يقول إنه حدث بين الجيشين السوري والإسرائيلي، مما أثار -لا شك- حفيظة القاهرة.

لكن نظام مبارك قد نضج في السنين التالية لعرض “ناجي العلي”، وصار يسمح بمساحة كبيرة من انتقاد إسرائيل واسترجاع لحظات الصراع المسلح مع الاحتلال، بدون تصوير تلك اللحظات سينمائيا.

وربما كان ذلك النضج استجابة لعمق الرفض الشعبي للتطبيع، ولمواجهة فتح اليمين المتطرف الديني جبهة صراع مسلح مع النظام المصري قبيل منتصف التسعينيات، مما استدعى من النظام حشد تأييد مجتمعي له في مواجهة ذلك اليمين المتطرف.

وفهم نظام مبارك أن في مصلحته تولي إدارة تصوير العلاقة بإسرائيل من خلال أفلام تلتزم بقيود معينة، دون الاكتفاء بمعارضة أي تصوير للقضية الفلسطينية أو التضييق عليه. وهكذا ازدهرت أفلام ومسلسلات تتعرض من بعيد للصراع العربي الإسرائيلي، مثلا في أفلام ومسلسلات جاسوسية، مثل مسلسل “السقوط في بئر سبع” عام 1994.

على أن تلك الظاهرة قد بدأت منذ النصف الثاني من الثمانينيات، مع مسلسل “رأفت الهجان” عام 1988، بل ومع فيلم “بئر الخيانة” عام 1987، وإن كان ذلك الفيلم يعرض لذكاء المخابرات المصرية ونجاحها في القبض على مصري يعمل جاسوسا لإسرائيل.

لكن منذ “رأفت الهجان” وذلك النوع الفني يركز على بطولات المصريين لا خيانات بعضهم، وتعرض الأفلام والمسلسلات دائما من زاوية تمجيد العسكرية المصرية وأجهزة مخابراتها، لكن دون الإمعان في تصوير المعارك، و-للأسف- دون تفصيل عرض الهم الفلسطيني.

  • فيلم الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين، هل هو هروب إلى التاريخي أم محاولة لتأصيل القضية في التاريخ؟

فيلم “الناصر صلاح الدين” من أهم كلاسيكيات السينما العربية، رغم ما يثار حوله من انتقادات، وهو بالتأكيد وثيق الصلة بالصراع المصري الإسرائيلي حول فلسطين، بسبب الإسقاط الحاكم لقصته.

كثيرا ما يُنتَقَد فيلم شاهين لأن “الناصر صلاح الدين” يمثل دعاية مباشرة للزعيم ناصر، أو من أنه يغير في الوقائع التاريخية ليخدم منطقا أيديولوجيا. تشير الانتقادات -على سبيل المثال- إلى أن صلاح الدين لم يكن يقدم خطابا عروبيا، بل مسلما، بل وإنه نفسه كان كرديا لا عربيا، وإن جيشه كان مسلما وشخصية عيسى العوام في الفيلم كانت في الواقع التاريخي شخصية مسلمة، لا شخصية مسيحية كما صورها الفيلم بهدف إظهار صلاح الدين (ناصر) في صورة البطل القومي الذي يقرب منه عنصريّ الأمة، بناء على الانتماء القومي لا الطائفي.

فيلم الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين
فيلم الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين يعد من أهم كلاسيكيات السينما العربية (الجزيرة)

كل تلك الانتقادات لها وجاهتها، لكنها تغفل أن تعديل الوقائع التاريخية في فيلم ما أمر متعارف عليه منذ ظهور السينما، وأنه مشروع، مثلما أن انتقاد التعديل مشروع أيضا. يبقى الفيلم مثيرا على المستوى التاريخي والفني معا، وكذلك على المستوى الفكري والسياسي. فهو في النهاية يقدم صورة صادقة تاريخيا لصلاح الدين وما يمثله أخلاقيا وسياسيا، رغم عدم التزامه بعرض كافة التفاصيل التاريخية.

صحيح أن صلاح الدين التاريخي، كما في فيلم يوسف شاهين، كان يميل إلى السلم لا الحرب، وأنه كان يخوض المعارك الحربية كحل أخير، وأنه لم يقبل أن يناديه الناس بالسلطان، وأنه افتدى من ماله الخاص المئات من أسراه من المحاربين الأوروبيين غير القادرين على دفع الفدية.

بل وهناك مشهد في الفيلم مبني على روايات تاريخية قديمة، يأمر فيه صلاح الدين بالبحث عن فتاة أوروبية اختطفها أحد القادة العسكريين المشاركين معه في القتال ليتخذها سبية.

وفي الرواية التاريخية كما في الفيلم يأمر صلاح الدين بالعثور على الفتاة وافتدائها وإعادتها إلى أمها التي توسلت إلى السلطان. لكن فيلم يوسف شاهين يحرص على التأكيد على أن ذلك القائد ليس عربيا، بل هو تركي، أو من وسط آسيا كما يبدو من اسمه.

لا مراء في أن فيلم “الناصر صلاح الدين” يسقط شخصية السلطان الأيوبي على شخصية الرئيس ناصر، وأن العدوان الثلاثي لفرنسا وإنجلترا وإسرائيل على مصر عام 1956 يرمز له في الفيلم بالتحالف بين الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد والملك الفرنسي فيليب والأمير الألماني فريدريك ذي اللحية الحمراء (فردريك برباروسا). لكن الملفت للنظر هو أمر لم أقرأ بحثا يعلق عليه سوى دراستي المنشورة بالإنجليزية، عن تصوير الدكتاتور في الفيلم العربي “الناصر صلاح الدين” من إخراج يوسف شاهين عام 1963، والفيلم الأميركي “الصليبيون” من إخراج ديفيد بتلر عام 1954.

رغم الإشارة الواضحة للتوازي بين ماضي الحملة الصليبية والماضي القريب للعدوان الثلاثي، وإسرائيل جزء منه، إلا إن فيلم يوسف شاهين لا يشير من بعيد ولا قريب إلى اشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر. فلا شخصية يهودية، وإلا إسقاط على أمير صليبي ليذكر المشاهد بإسرائيل. فالواقع أن السينما والأدبيات الصحفية والنقدية كانت كثيرا ما تتجنب ذكر مشاركة إسرائيل في عدوان عام 1956 على مصر، حتى وقع العدوان التالي في 1967.

لهذا لا يشير فيلم شاهين إلى إسرائيل، لأن الأغلب في رأيي هو أن الدعاية الناصرية لم تكن ترغب في نكء الجرح وتذكرة الجماهير بانتصار عسكري حققه الجار الإسرائيلي رغم حداثة عهده، فعمر إسرائيل كان 8 سنوات فقط عندما شاركت في العدوان الثلاثي واجتاحت قواتها سيناء في زمن قياسي.

لا يشير فيلم شاهين إلى إسرائيل، لأن الأغلب في رأيي هو أن الدعاية الناصرية لم تكن ترغب في نكأ الجرح وتذكرة الجماهير بانتصار عسكري حققه الجار الإسرائيلي رغم حداثة عهده
لا يشير فيلم “الناصر صلاح الدين” إلى إسرائيل لأن الأغلب أن الدعاية الناصرية لم تكن ترغب في نكء الجرح وتذكرة الجماهير بانتصار عسكري حققه الجار الإسرائيلي رغم حداثة عهده (مواقع التواصل)

أما التركيز على المواجهة بين مصر والقوتين العظميين اللتين تقاسمتا معظم العالم حتى منتصف القرن الـ20، فكان يعلي من شأن البطولة المصرية المناهضة للاستعمار.

كذلك لا يشير فيلم “الناصر صلاح الدين” إلى علاقة صلاح الدين التاريخي الوثيقة باليهود في عصره، غالبا كي لا تختلط الأمور على المشاهد البسيط في الستينيات، الذي عوده الخطاب القومي وقتها على استخدام لفظتي “الصهاينة” و”اليهود” وكأنهما مترادفتين متطابقتين. أبدى صلاح الدين عطفا كبيرا على اليهود الذين أبادهم الصليبيون عن بكرة أبيهم عند احتلالهم القدس قبل نحو قرن من تحرير المدينة على يد السلطان الأيوبي.

أعاد صلاح الدين المئات من اليهود إلى القدس ليعيد توطينهم فيها، لإدراكه أنهم يكونون خير حليف للمسلمين في الدفاع عنها، بعدما رأوا بأعينهم أن الصليبيين لن يبقوا على أحد منهم حيا، لو قعت المدينة في قبضة الغزاة الأوروبيين مرة أخرى.

فربما إذا كان إظهار المودة والتعاطف بين صلاح الدين ويهود عصره ليثير البلبلة في الستينيات المصرية، حيث اعتادت الدعاية الشعبوية على تنشيط ميراث العداء المتعصب لليهود في محاولة لاستخدامه في حشد الجماهير نفسيا ضد دولة الاحتلال.

  • في ظل الأموال الطائلة التي تغدق على أفلام ساذجة وأخرى ترفيهية وسطحية بدعوى الكوميديا اليوم وتراجع أفلام القضايا والأفكار العميقة والمصيرية.. هل تواجه الأفلام التي تتناول فلسطين مشاكل إنتاجية حسب رأيك؟ هل تخلت السينما عن دورها النضالي؟

لا شك أن فلسطين منذ الهجمات على الولايات المتحدة في عام 2001 وحتى عام 2023 لم تعد على خريطة الأولويات الثقافية أو السياسية في كثير من البلاد العربية، فيما يخص الإنتاج السينمائي الروائي، لأن ما سمته الولايات المتحدة بالحرب على الإرهاب، أي على الجماعات الدينية المسلحة التي تناهض السياسة الخارجية الأميركية، صارت تشغل الصدارة.

لكن لا شك أن السينما الوثائقية من خلال محطات التلفزيون في كثير من أنحاء العالم العربي تحتفي دوما بفلسطين. وربما لا تناصر كافة المحطات الفضائية قضية فلسطين، لكنها تتناول مسائل فلسطينية على أية حال. ربما تتغير الأمور وتعود فلسطين إلى الصدارة في السينما الروائية العربية بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة، لأن الصدمة التي خلفتها هذه الحرب في النفسية العربية وفي نفسية الملايين من الشباب في العالم أجمع سوف تحتاج عقودا لنتجاوزها.

فيما يخص السينما تحديدا، لم تعد السينمات العربية تنتج أفلاما روائية عن فلسطين لسبب آخر، وهو تغير المشهر الإنتاجي. صارت كل دولة تحتفي بمواضيع قطرية. لم تعد مصر أو سوريا أو العراق تنتج أفلاما عن فلسطين، خاصةً وأن السينما الفلسطينية بدأت تثبت أقدامها.

فصار المخرجون الفلسطينيون يحكون قصصهم الفلسطينية بأنفسهم، وبما يتجاوز الاحتفاء بقصص الحرب والمقاومة، إلى تصوير الحياة اليومية ونفسية الفلسطينيين المقيمين في الشتات أو تحت الاحتلال. طبعا لأن السينما الفلسطينية هي دائما سينما إنتاج مشترك بفنانين فلسطينيين وأموال غربية فهناك حدود لما يمكن أن تتناوله، لكن جماليا وسياسيا قدمت تك السينما مساهمات فاقت مساهمات عربية غير فلسطينية دامت عقودا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى