Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سياسة

قطار العودة يختزل حكايات الألم والأمل لسودانيين على رصيف القاهرة

القاهرة- ما إن استقر قطار العودة على الرصيف رقم 11 بمحطة مصر في القاهرة حتى جرى عزوز علي وهو يجر أمتعته، تساعده زوجته وابنتاه في دفعها باتجاه القطار، وهن يحملن على ظهورهن أمتعتهن الأقل حجما، وينظرن وراءهن كأنما يودعن القاهرة التي قضوا بها نحو 3 أعوام.

وانطلقت مطلع الأسبوع الحالي صفارة القطار العاشر للعودة الطوعية المجانية للسودانيين بمصر، حاملا نحو 1200 سوداني باتجاه أسوان جنوبا، ليستكمل المسافرون رحلتهم إلى الخرطوم برا.

وجد علي بصعوبة مقاعد لأسرته الصغيرة في القطار وقد فاتته القطارات السابقة، إذ سبقه نحو آلاف من رفاق النزوح والاغتراب من أبناء وطنه، حجز مقاعد ضمن قوائم انتظار طويلة للعائدين، مما استدعى قيام هيئة السكك الحديدية بتشغيل قطار ثان خلال الشهر الحالي، ودراسة تشغيل قطار ثالث.

أيادٍ تحمل أثقالها وقلوبها في وقت واحد (الجزيرة)

يوم الوداع

يوم انطلاق القطار الأسبوعي، يتحول رصيف محطة رمسيس إلى مسرح كبير تختلط فيه المشاعر، أمهات يودعن صديقات مصريات صنعتهن الغربة، وأطفال يتشبثون بحقائب أكبر من أجسادهم، ورجال يوزّعون نظرات مترددة بين القاهرة التي احتضنتهم عامين، والوطن الذي يعودون إليه بعد أن أنهكته الحرب.

تنهمر الدموع في صمت، ليست كلها دموع فراق، بل دموع أمل مشوب بالقلق، فالقطار الذي يقف على الرصيف ليس مجرد وسيلة مواصلات، إنه جسر بين بلد استقبلهم وآخر ينتظر من يعيد بناءه.

وتحولت القاهرة الكبرى -خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة- إلى عاصمة ثانية للسودانيين، حيث غصّت أحياؤها بالنازحين.

في السابعة من صباح ذلك اليوم، وصل عزوز علي إلى رصيف محطة مصر، المحطة الكبرى والرئيسية بالقاهرة، وسط مئات السودانيين، حاملين أمتعتهم بانتظار أن يهل القطار على المحطة في موعده المقرر في الحادية عشر صباحا، وتهللت وجوه الكبار والصغار حينما لاح القطار على الرصيف المخصص له بالمحطة.

وما إن استقر حتى دبت فوضى عارمة، حاول منظمو الرحلة من الجانبين المصري والسوداني تنظيمها لدقائق ترتيبا لتسجيل الأمتعة وأصحابها وركوب القطار الروسي المصنف من فئة الدرجة الثالثة المكيفة، الذي لا يفضله كثير من المصريين في الرحلات الطويلة لخشونة وصلابة واستواء مقاعده، ومواجهة الراكبين بعضهم بعضا.

أما السودانيون فواصلوا السفر لمدة تقارب 15 ساعة على تلك المقاعد غير المريحة، لكنهم في حكم المضطر، حيث خُصص القطار لمن يريد العودة ولا يملك كلفتها، خاصة لمن لديه أسرة كبيرة.

يقول علي -الذي كان يعمل موظفا حكوميا بالخرطوم- إن “الإقامة بمصر، مع التضخم وارتفاع الأسعار وانعدام فرص العمل المناسبة، استنفدت معظم المدخرات التي جاء بها من السودان”.

أما المقتدرون، فهم إما يظلون في مصر لتنمية مشاريع بدؤوها، وإما يستقلون حافلات جماعية أو فردية خاصة تكون تحت طوعهم طوال الرحلة، فيرتاحون قليلا في الطريق ثم يستأنفون السفر، لكن قطار العودة الطوعية بلا محطات توقف من القاهرة إلى أسوان.

وتقول زوجته مروة عثمان، وهي تحتضن ابنتها الصغرى، “سأفتقد دفء العلاقة مع جاراتي المصريات، لم نشعر يوما أننا غرباء”، لكنها تعترف بقلقها “هناك، في الخرطوم، الحياة لا تزال صعبة، كما أخبرنا من وصلوا من أسابيع، لكن وجودنا وسط أهلنا يهوّن كل شيء”.

ازدحام عند باب العربة، تختلط فيه لهفة العودة مع خوف المجهول.
ازدحام عند باب العربة تختلط فيه لهفة العودة مع الخوف من المجهول (الجزيرة)

ضوابط للرحلة

تعقدت الرحلة أمام علي وغيره بسبب متطلبات كثيرة للسفر نظرا لسوء استغلال بعض المسافرين للقطار المجاني، فمنهم من يستغل القطار للسفر مجانا لزيارة أقاربه في جنوب مصر والعودة، وبعضهم الآخر يستغله لنقل البضائع للسودان مع المسافرين، مما استدعى ضوابط لتحديد أمتعة كل راكب.

والتسجيل للرحلة يتم عبر موقع على الإنترنت وأرقام هواتف خصصتها السفارة السودانية، وفي بعض الحالات، وفرت السفارة حافلات من تجمعات السودانيين في المحافظات لإيصالهم إلى القاهرة.

بدأ مشروع العودة الطوعية في أبريل/نيسان 2025 برعاية رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وبإشراف منظومة الصناعات الدفاعية السودانية.

واعتمدت المرحلة الأولى على الحافلات، حيث تم نقل 10 آلاف سوداني عبر 187 حافلة، لكن مع تزايد أعداد الراغبين في العودة، تحولت الوسيلة إلى القطارات لتوفير الراحة والتنظيم.

يقول عمر برهان -وهو من المتطوعين لتنظيم الرحلة- إن “المشكلة الأساسية في الفوضى التي تدب أحيانا على الرصيف عند قدوم القطار تكمن في الأمتعة، لا الأشخاص، لأن العائدين يحملون ما جاؤوا به، وفوقه ما اشتروه من مصر بعد بيع ما ثقل وزنه وانخفضت قيمته”.

جلوسهم على الرصيف يحاكي وطنًا مؤقتًا، يرحل معهم حيثما رحلوا.
جلوسهم على الرصيف يحاكي وطنًا مؤقتا يرحل معهم حيثما رحلوا (الجزيرة)

في أسوان

ووفقا للقنصل السوداني في أسوان جنوبا السفير عبد القادر عبد الله محمد، في تصريحات صحفية، فقد عاد أكثر من 200 ألف سوداني منذ بداية 2025، وسجل شهر يونيو/حزيران الماضي أعلى معدل للعودة برقم يقارب نحو 27 ألف سوداني، هذه الأرقام تعكس حجم التحدي اللوجستي والإنساني الذي تواجهه الجهات المنظمة.

وفي أسوان، يتولى -محافظ أسوان اللواء إسماعيل كمال- الإشراف على استقبال العائدين بمحطة ميناء السد العالي، حيث تُجهز حافلات لنقلهم إلى مدينة أبو سمبل تمهيدا لعبورهم إلى السودان عبر معبر قسطل بإشراف القوات المسلحة المصرية.

وهناك صنفان من النازحين لا يعتزمون العودة حاليا إلى السودان، أولهما غير المضطرين للبقاء بمصر لكنهم مرتبطون بأعمال بدؤوها فيها، أما الصنف الثاني فهم مضطرون للبقاء رغم ارتفاع كلفة المعيشة عليهم، وهم الذين لا تزال مناطقهم تقع تحت خط النار.

بكاء على رصيف الرحيل من القاهرة، دموع ألم الفراق لمصر وأمل العناق للسودان.
بكاء على رصيف الرحيل من القاهرة ودموع ألم الفراق لمصر وأمل العناق للسودان (الجزيرة)

أصوات من قلب الرحلة

يقول معتز يوسف، وهو مختص بالتسويق، إن “الدافع وراء مسارعة البعض للعودة هو كلفة المعيشة المرتفعة في مصر بالنسبة للسودانيين مقارنة بكلفة المعيشة في السودان، فكلفة السكن في مصر تضاعفت بقدوم السودانيين، في حين يوفر المسكن في السودان بأقل القليل، ثم تأتي مسألة قلة فرص العمل بمصر، لتضاعف مأساة المقيمين فيها، الذين عاشوا على بقايا مدخرات جلبوها معهم وبدأت تنفد، ويضطر بعضهم للعمل في مهن لا تناسبه”.

أحد هؤلاء كان فنانا تشكيليا في السودان، واليوم يعمل في ورشة لتشكيل الألومنيوم خلاف ما كان يعمله في بلده الأصلي، لذلك فبساطة سبل المعيشة في السودان تغريهم بالعودة.

السابقون الذين غامروا في البداية وسبقوا إلى هناك، أغروا اللاحقين، يقول يوسف “تؤكد الاتصالات بمن وصلوا واستقروا أن الأمور على ما يرام”.

ورغم بعض المنغصات بمصر، والتي يعاني منها المصريون أنفسهم، سيحمل عزوز علي وأسرته ذكريات عزيزة عن القاهرة، مثل سودانيين كثر لم يشعر أحدهم يوما بالغربة، ولا بالتمييز ضده، وجرت معاملتهم كأصحاب بلد ببساطة وسلاسة وترحيب ومحاولة تقديم يد العون المساعدة لمن لجؤوا لمصر.

وجوه ترقب القطار وكأنها تقرأ مصيرًا جديدًا.
وجوه ترقب القطار وكأنها تقرأ مصيرا جديدا (الجزيرة)

تأثيرات إنسانية

رحلة العودة ليست مجرد قرار اقتصادي أو سياسي، إنها إعادة فتح جروح قديمة، وكثير من العائدين يصفون الرحلة بأنها “اقتلاع ثان” من وطن ثان بعد سنوات الغربة، لكنهم يصرون على أن بناء المستقبل يستحق التضحية.

المشهد على محطة مصر شارك في تشكيله مصريون حضروا إلى المحطة لوداع أصدقائهم السودانيين، ومن بينهم الفنان محمد رياض الذي شارك في الوداع.

“السودانيون أهلنا، عشنا معهم في بيوتنا وأسواقنا وقهاوينا، وسنبقى أشقاء مهما بعدت المسافات”، يقول مصطفى حسنين، وهو طالب مصري، خلال وداعه زميل دراسة سودانيا، جاء ليصافحه ويعانقه العناق الذي يرجو ألا يكون الأخير، “على أمل في لقاء قريب في الخرطوم هذه المرة”، يعلق سعيد بشير ضاحكا، ليرد مصطفى مبتسما “زائرين لا لاجئين لا قدر الله يا سعيد”.

ستبقى آلاف المشاهد عالقة في قلوب أسرة علي الذي قال “سأفتقد بالطبع زحمة الونس، والقعدة الحلوة على المقاهي الشعبية، وأكل الفول والطعمية المصرية”.

ينظر علي بمزيج من الحنين لمصر والسودان معا، وابنتاه تلوحان بالوداع للقاهرة من خلف زجاج القطار الذي بدأ في الإقلاع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى