كتاب جديد: وصفة تشومسكي وموخيكا للنجاة من القرن الـ21

يطرح كتاب “النجاة في القرن الحادي والعشرين” تساؤلات عميقة حول مستقبل الإنسانية، من خلال حوار فريد يجمع بين المفكر اللغوي الشهير نعوم تشومسكي والرئيس الأوروغوياني السابق خوسيه موخيكا. يستكشف الكتاب، الذي يستعد المخرج المكسيكي ساؤول ألبيذره لتحويله إلى فيلم وثائقي، كيف يمكننا التعامل مع التحديات المعقدة التي تواجه عالمنا اليوم، بدءًا من التغير المناخي وصولًا إلى صعود الأفكار المتطرفة، مع التركيز على أهمية العدالة الاجتماعية والأخلاق في سعينا نحو مستقبل أفضل. ويشكل هذا الحوار، الذي يمثل مسارين فكريتين متميزين، نقطة انطلاق للتأمل في حالنا الراهن ومآلاتنا المستقبلية. النجاة في القرن الحادي والعشرين هي ليست مجرد عنوان للكتاب، بل هي تساؤل وجودي يتردد صداه في صفحاته.
يقدم الكتاب رؤى متقاطعة حول كيفية وصولنا إلى هذه اللحظة التاريخية، حيث تتراكم التحديات وتتضاءل الآمال. يطرح ألبيذره أسئلة جوهرية حول التاريخ والأتمتة والديمقراطية وصراعات القوى العظمى، محاولًا استخلاص الدروس والعبر من الماضي، وتحديد العوامل التي ساهمت في تشكيل الحاضر. كما يناقش الكتاب دور الأجيال في مواجهة هذه التحديات، ويؤكد على أهمية الحوار بينها لتبادل الخبرات والأفكار، وإيجاد حلول مبتكرة للمشاكل المستعصية.
كيف وصلنا إلى هنا؟ نظرة متعمقة في النجاة في القرن الحادي والعشرين
يرجع تشومسكي إلى عام 1945، الذي يعتبره نقطة تحول حاسمة في تاريخ البشرية. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظهرت قوتان جديدتان تهددان مستقبل الكوكب: السلاح النووي والتغير الأنثروبوسيني، الذي يشير إلى التأثير العميق والمتزايد للنشاط البشري على البيئة. يشير إلى أن هذه القوى تمنح البشرية قدرة غير مسبوقة على تدمير نفسها، سواء من خلال إبادة جماعية فورية أو من خلال تدهور بيئي بطيء ولكنه لا يقل خطورة.
ويلاحظ تشومسكي المفارقة المتمثلة في أن المجتمعات التي تتعامل بجدية مع أزمة المناخ هي غالبًا تلك التي تعتبر “غير متحضرة” من قبل الغرب، مثل المجتمعات الأصلية التي تعيش في انسجام مع الطبيعة. وهذا يثير تساؤلات حول مفهوم التقدم والحضارة، وعلاقتنا بالعالم الطبيعي. كما ينتقد بشدة السياسات النيوليبرالية التي ساهمت في تفاقم الأزمة البيئية، من خلال التركيز على الربح على حساب الاستدامة.
رؤى موخيكا حول الإرادة السياسية والعدالة الاجتماعية
يرى موخيكا أن المشكلة الأساسية التي تواجه عالمنا ليست نقصًا في القدرات التقنية، بل نقصًا في الإرادة السياسية. فالبشرية تمتلك الوسائل اللازمة للتغلب على التحديات التي تواجهها، ولكنها تفتقر إلى القيادة الحكيمة التي يمكن أن تحشد الجهود وتوجهها نحو تحقيق أهداف مشتركة. ويؤكد على أهمية بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة، حيث يتم تلبية احتياجات الجميع، وإتاحة الفرص للجميع لتحقيق إمكاناتهم الكاملة.
ويشير موخيكا إلى أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي حالة ذهنية وثقافية. إنها شعور بالكرامة والاحترام المتبادل، وإيمان بقوة الحوار والتوافق. ويحذر من خطر تحول السياسة إلى إدارة تقنية تخدم مصالح النخب، وتهمش صوت الشعب. ويشدد على أن السعادة الحقيقية لا تكمن في الثروة المادية أو السلطة السياسية، بل في الحرية الداخلية والقدرة على العيش في انسجام مع الذات والآخرين.
صعود اليمين المتطرف وأزمة القيم
يتوقف الكتاب عند صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويعزو ذلك إلى عدة عوامل، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفقدان الثقة في المؤسسات السياسية. ويؤكد تشومسكي على أن هذه الأحزاب لا تمثل تهديدًا للديمقراطية فحسب، بل أيضًا للأمن والسلام العالميين، من خلال تبنيها سياسات خارجية عدوانية وتعزيز الكراهية والعنصرية.
ويضيف موخيكا أن صعود اليمين المتطرف هو أيضًا نتيجة لأزمة قيم. ففي مجتمع يركز على المادية والاستهلاك، يفقد الناس إحساسهم بالهدف والمعنى، ويصبحون عرضة للتطرف واليأس. ويؤكد على أهمية تعزيز القيم الإنسانية النبيلة، مثل العدالة والمساواة والتضامن، لمواجهة هذا الخطر.
أمريكا اللاتينية: هل يمكن أن تكون نموذجًا للنجاة؟
على الرغم من التحديات التي تواجهها أمريكا اللاتينية، بما في ذلك الفقر والفساد وعدم الاستقرار السياسي، يرى الكتاب أنها قد تكون قادرة على تقديم نموذج بديل للتنمية والتقدم. فالدول التي تبنت سياسات يسارية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مثل فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، حققت بعض النجاحات في مجال الحد من الفقر وتحسين الخدمات العامة وزيادة المشاركة السياسية. ومع ذلك، تواجه هذه الدول أيضًا تحديات كبيرة، مثل الاعتماد على النفط والركود الاقتصادي والتدخل الأجنبي.
ويؤكد الكتاب على أهمية بناء قاعدة صناعية متنوعة، وتعزيز التكامل الإقليمي، ومواجهة الفساد، لتمكين أمريكا اللاتينية من تحقيق إمكاناتها الكاملة. كما يشير إلى أن حركة “العمال المعدمين” في البرازيل تمثل مثالًا ملهمًا للنضال من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
من المتوقع أن يصدر الفيلم الوثائقي المستند إلى الكتاب في عام 2026، مما سيساهم في إثراء النقاش حول هذه القضايا الهامة. ومستقبل هذا النقاش يتوقف على قدرة المجتمعات على الاستماع إلى الأصوات المختلفة وتجاوز الانقسامات الأيديولوجية وأن نضع **النجاة في القرن الحادي والعشرين** نصب أعيننا.




