Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سياسة

كيف واصلت صربيا إغراق إسرائيل بالأسلحة؟

قد لا تحتاج بعض القصص السياسية إلى شهور من التقصي لكشف تناقضاتها، أحيانا تكفي بضعة أيام أو حتى ساعات، لتتعرى الفجوة بين الخطاب الرسمي وما يحدث على الأرض.

ففي قلب أوروبا، كانت بلغراد في الأسابيع الماضية مسرحا لتحركات غامضة، وقرارات مثيرة للجدل، ووجهات شحن تثير أسئلة أكبر مما تجيب.

وبينما أعلن الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، أمام الإعلام، وقف بيع الذخيرة لإسرائيل، كشفت صحيفة هآرتس أن بلاده سجلت هذا العام رقما قياسيا في صادرات السلاح إلى تل أبيب، متجاوزة إجمالي العام السابق، رغم استمرار حرب الإبادة في غزة.

 

الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش (وسط) أعلن وقف بيع الذخيرة لإسرائيل خلال عدوانها على إيران (الأوروبية)

صفقات مستمرة

في 23 يونيو/حزيران الماضي، أعلن فوتشيتش وقف بيع الذخيرة لإسرائيل خلال عدوانها على إيران، مبررا ذلك بأن الطرفين صديقان لبلاده، وأن أي استئناف للتصدير يتطلب قرارا خاصا.

وبينما أشارت صحيفة هآرتس إلى أن القرار جاء بدافع الحفاظ على التوازن بين الجانبين، رجّحت كذلك أن التوبيخ العلني الذي تلقاه فوتشيتش من الكرملين بسبب إرسال أسلحة لأوكرانيا لعب دورا في اتخاذ هذا الموقف.

ويرى الباحث المتخصص في السياسة الصربية أرتيوم كيربيش إينوك، في حديثه للجزيرة نت، أن هذه التصريحات كانت موجهة أساسا للرأي العام الدولي، مشيرا إلى فضيحة سابقة حين عثر على أسلحة صربية لدى الجيش الأوكراني رغم تأكيد فوتشيتش للحياد، وهو ما يكشف -وفقا له- تناقضا معتادا بين المواقف المعلنة والحقيقة.

يتطابق ذلك مع معطيات كشفتها هآرتس، فبعد ساعات فقط من التصريح هبطت في بلغراد طائرة شحن إسرائيلية من طراز بوينغ 747 مطلية بالكامل باللون الأبيض، أقلعت في اليوم التالي نحو قاعدة “نباطيم” الجوية في صحراء النقب، وعند سؤاله عن الأمر اكتفى بالقول إنه لا يستطيع الإفصاح عما هبط أو أقلع من هناك.

وتكشف البيانات أن صربيا أرسلت خلال 6 أشهر فقط شحنات تجاوزت قيمتها ما تم تصديره طوال العام السابق، وفق تقرير نشرته صحيفة هآرتس في 5 أغسطس/آب الجاري.

ويُفسر إينوك أن استمرار هذه الصفقات يعود إلى مصالح اقتصادية ضيقة، إذ يعتمد نحو 24 ألف صربي على الإنتاج العسكري كمصدر دخل مباشر، و150 ألفا بشكل غير مباشر، وهو ما يجعل الحكومة تقدّم الربح على حساب الموقف الأخلاقي من الحرب على غزة.

كما أظهر تحقيق مشترك بين صحيفة هآرتس وشبكة البلقان للصحافة الاستقصائية “بيرن” أن النصف الأول من عام 2025 شهد تصدير أسلحة إلى إسرائيل بقيمة 55.5 مليون يورو، محطمة الرقم القياسي السابق البالغ 48 مليون يورو في العام الماضي.

ويصف إينوك هذا الأمر بأنه مثال على سياسة “اللعب على الحبلين” التي تتبعها بلغراد؛ إذ تدين الحرب والإبادة لفظيا، لكنها تواصل عمليا دعم المعتدي، مضيفا أن إسرائيل قد لا تكون الحليف الأهم لصربيا، لكنها شريك مربح يوفّر لها مكاسب سياسية واقتصادية، خصوصا مع دعم تل أبيب لموقفها في إنكار الإبادة الجماعية في البوسنة.

وخلال الفترة نفسها، سجلت بيانات الطيران العلنية ما لا يقل عن 16 رحلة شحن إسرائيلية إلى بلغراد، حملت الأسلحة المطلوبة من قبل جيش الاحتلال، في ظل رفض الحكومة الصربية الكشف عن طبيعة هذه الشحنات.

شبكة شركات مصدّرة

لم تكن الأرقام القياسية في صادرات السلاح من صربيا إلى إسرائيل مجرد نشاط حكومي منظم، بل تقف خلفها شبكة معقدة من الشركات، تجمع بين كيانات رسمية وأخرى خاصة، ترتبط جميعها بعقود وصفقات تمتد من مصانع الذخيرة في بلغراد إلى ميادين القتال في غزة.

تتصدر شركة إنتاج الأسلحة الصربية “يوغوإمبورت إس دي بي آر” (Yugoimport–SDPR) المشهد، إذ تستحوذ على الحصة الأكبر من الصادرات، وهي مملوكة للحكومة بشكل كامل وتصنف نفسها على موقعها الرسمي بأنها العمود الفقري لصناعة السلاح في صربيا، وواجهة الدولة في سوق الأسلحة العالمي.

ومن إجمالي صادرات عسكرية بلغت 55.5 مليون يورو إلى إسرائيل في النصف الأول من هذا العام، استحوذت شركة يوغوإيمبورت على أكثر من 50 مليون يورو، بينما تولّت 4 شركات خاصة صربية تصدير المبلغ المتبقي، وهي:

  • روماكس تريد (Romax Trade)
  • وإيديبرو (Edepro)
  • وكونفيدكس (Confidex)
  • وإل إس إي لاند سيستمز إنجنيرينغ (LSE Land Systems Engineering).

كما شاركت شركة خاصة خامسة في عمليات التصدير العام الماضي، وفقا لصحيفة هآرتس العبرية.

وتُعد روماكس تريد، التي تتخذ من مدينة نوفي ساد مقرا لها، من أكثر الشركات إثارة للجدل، إذ أظهرت بيانات رسمية من وزارة التجارة الصربية أنها حصلت في عامي (2021 و2022) على تراخيص لتصدير ذخيرة وأسلحة من مصنع كروشيك (Krušik) المملوك للدولة إلى إسرائيل.

وأثارت الشركة جدلا داخليا بعد اتهام المعارضة لها بشراء “مدافع صوتية” أو أجهزة صوتية بعيدة المدى (LEADs) لمصلحة الشرطة الصربية، وهي أجهزة قال متظاهرون إنها استخدمت لتفريق حشود كبيرة خلال احتجاجات مارس/آذار الماضي.

هذا العام، صدّرت روماكس ذخيرة من إنتاج كروشيك إلى شركة إيسبرا الإسرائيلية (ISPRA By E.I Ltd)، المتخصصة في منتجات السيطرة على الحشود غير الفتاكة. وتضم قائمة عملاء إيسبرا مصلحة السجون الإسرائيلية، والشرطة، وجيش الدفاع الإسرائيلي.

وبحسب قاعدة بيانات الصادرات العسكرية الإسرائيلية، تصدّر إيسبرا إلى عشرات الدول في العالم، ويُقال إن قنابل الغاز المسيل للدموع التي تنتجها استُخدمت العام الماضي لتفريق المحتجين في كينيا.

BAKU, AZERBAIJAN - SEPTEMBER 11: Visitors examine products of Serbian Yugoimport SDPR Defence Company during Azerbaijan International Defense Industry Exhibition at the Baku Expo Center in Baku, Azerbaijan on September 11, 2014. The Azerbaijan International Defense Industry Exhibition (ADEX 2014) takes place for the first time from the 11th to 13th September at the Baku Expo Center. (Photo by Resul Rehimov/Anadolu Agency/Getty Images)
شركة “يوغوإمبورت إس دي بي آر” تصنف نفسها على موقعها الرسمي بأنها العمود الفقري لصناعة السلاح في صربيا (غيتي)

ارتفاع وتيرة التصدير

كشفت شبكة البلقان للصحافة الاستقصائية عن تفاصيل شحنات تجارية مرتبطة بإسرائيل، حيث تم تصدير بضائع كبيرة عبر رحلات شحن جوية إسرائيلية في فترتين رئيسيتين:

  • في يناير/كانون الثاني، تم إرسال 3 شحنات بقيمة نحو 15 مليون يورو، بالتزامن مع وصول 3 طائرات شحن إلى مطار نيكولا تسلا في بلغراد ومغادرتها إلى قاعدة نباطيم.
  • في مايو/أيار، صدّرت 3 شركات ما مجموعه 21.3 مليون يورو، وفي الشهر نفسه سُيّرت 6 رحلات جوية للجيش الإسرائيلي عبر بلغراد.

يفسر رئيس تحرير مركز الدراسات العربية الأوراسية، أحمد دهشان، ذلك بأن ذروة الشحنات في هذين الشهرين تزامنت مع أشد فترات العدوان الإسرائيلي على غزة مما عزز حاجة إسرائيل إلى هذه الأسلحة الخفيفة والفردية، إذ كانت في ذلك الوقت تعمل على اجتياح القطاع بشكل موسع.

ويضيف دهشان أن الصفقات المبرمة بين الجانبين تركز على أسلحة خفيفة وذخائر مناسبة لحروب العصابات والقتال الفردي، وهي أنواع مطلوبة في المواجهات داخل قطاع غزة، خصوصا أن المقاومة الفلسطينية لا تمتلك دفاعات جوية أو مدرعات أو أسلحة ثقيلة.

ويرى أن صربيا تمثل مصدرا مثاليا لإسرائيل بسبب قرب المسافة، وانخفاض الكلفة، وامتلاكها قاعدة صناعية قوية، في وقت امتنعت فيه العديد من الدول الأوروبية عن تصدير السلاح لتل أبيب.

ولم تقتصر العلاقات العسكرية بين صربيا وإسرائيل على الشركات المحلية، بل امتدت إلى صفقات مباشرة مع كبرى شركات السلاح الإسرائيلية.

ففي يناير/كانون الثاني، أبرمت بلغراد صفقة مع شركة “إلبيت سيستمز” بقيمة 335 مليون دولار لشراء أنظمة صواريخ متعددة الفوهات من طراز “بلس” وطائرات استطلاع مسيرة من طراز “هيرمز 900″، وفق ما ذكرته صحيفة هآرتس العبرية.

وتُعد “إلبيت سيستمز”، بحسب وكالة رويترز، أكبر شركة دفاع في إسرائيل، إذ وفّرت منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذخائر، وطائرات مسيّرة، وأنظمة صواريخ موجهة، وقدرات استطلاع، وأنظمة أخرى للجيش الإسرائيلي.

وتشير الوكالة إلى أن نحو 32% من إيرادات الشركة تأتي من السوق الإسرائيلية، في حين تأتي النسبة المتبقية من الخارج، مع بلوغ قائمة طلبياتها 23.1 مليار دولار، يُنفَّذ أكثر من نصفها خلال عامي 2025 و2026.

ووفق تقرير المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي، تُعتبر “إلبيت سيستمز” من بين الشركات التي تنتج أدوات المراقبة والسيطرة على الحشود والحرب الحضرية، إضافة إلى تقنيات التعرف على الوجوه والاغتيالات الموجهة، وهي أدوات قالت إنها “تُختبر عمليا على الفلسطينيين”.

هآرتس: صربيا أبرمت صفقة مع شركة “إلبيت سيستمز” لشراء صواريخ من طراز “بلس” ومسيرات من طراز “هيرمز 900” (رويترز)

روابط شخصية وصفقات خلف الكواليس

لم تقتصر صفقات السلاح بين صربيا وإسرائيل على العلاقات الرسمية بين الحكومتين، بل لعبت شبكة من الشخصيات المقرّبة من صناع القرار دورا مهما في استمرار تدفق الأسلحة حتى في أوج الحرب على غزة.

ففي أواخر يوليو/تموز، وصل فريق من المحققين الإسرائيليين إلى بلغراد لاستجواب مستشار العلاقات العامة الإسرائيلي سوروليك أينهورن، وقد عمل هذا الرجل سابقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما كان مستشارا للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، ويمتلك شبكة علاقات واسعة في المنطقة.

ووفقا للتحقيق المشترك، استغل أينهورن هذه العلاقات لتسهيل صفقات سلاح من صربيا إلى إسرائيل بناء على طلب مباشر من مكتب نتنياهو، وكان الهدف ضمان وصول ذخيرة وأسلحة يحتاجها الجيش الإسرائيلي، رغم النقص الذي سببته الحرب.

وقد جرى التحقيق في بلغراد تحت إجراءات مشددة، وفرضت السلطات الصربية أمرا بحظر نشر بعض تفاصيله باعتبارها “سرية للغاية”، وتشير تقارير هآرتس إلى أن هذه السرية تشمل بالتحديد المعلومات المتعلقة بصفقات السلاح التي ساعد أينهورن في إبرامها.

ورغم رفض الحكومة الصربية الكشف عن محتوى الشحنات، تشير تقارير سابقة إلى أنها شملت قذائف مدفعية من عيار 155 ملم، وهي ذخائر ثقيلة قد تسبب دمارا واسعا إذا استُخدمت في مناطق مأهولة. والتُقطت صور في مطار بلغراد أظهرت شاحنات محمّلة بهذه القذائف قبيل وصول طائرات الشحن الإسرائيلية.

ويرجح إينوك -في حديثه للجزيرة نت- أن هذه الشحنات أسهمت في تجديد ترسانة إسرائيل خلال وقف إطلاق النار بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 2025، بعدما استهلك الجيش الإسرائيلي كميات كبيرة من هذه القذائف، كما أن الشحنات التي تلتها ارتبطت -على الأرجح- ببدء عملية “عربات جدعون” ضد غزة في مايو/أيار من العام نفسه.

ويرى ميركو داوتوفيتش، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ويبستر بطشقند، أن العلاقات بين نتنياهو وفوتشيتش تقوم على “تفاهمات بين زعماء شعبويين يسعون للبقاء في الحكم عبر السيطرة على المؤسسات”، مؤكدا أن صربيا استفادت من صفقات مراقبة وتسليح مع شركات إسرائيلية، بينها برمجيات تجسس قالت منظمة العفو الدولية إنها استُخدمت ضد صحفيين وناشطين.

ومع ذلك، يشير دهشان إلى أنه لم تسجل أي دولة عربية اعتراضا رسميا على هذه العلاقات، رغم أن استمرارها قد يسهم في زيادة الدمار في غزة، في ظل غياب أي محاسبة دولية لإسرائيل على انتهاكاتها للقوانين الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى