لماذا اهتز عرش العملات المشفرة؟

لم تُظهر الاحتفالات الصاخبة في نيويورك -كما تصف صحيفة فايننشال تايمز- أي أثر للأزمة التي تضرب سوق العملات الرقمية منذ أسابيع، رغم أن البيتكوين فقدت نحو ربع قيمتها خلال شهرين، وهبطت من ذروة قاربت 126 ألف دولار في 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى ما بين 84 و89 ألف دولار أواخر الأسبوع الماضي، في تراجع محا أثر أكثر من تريليون دولار من قيمة السوق الإجمالية لنحو 18 ألف أصل رقمي. هذا الانخفاض المفاجئ يثير تساؤلات حول مستقبل هذا السوق المتقلب ويؤثر على المستثمرين في جميع أنحاء العالم.
وبحسب ما نقلته الصحيفة البريطانية عن محللين، فإن سرعة الانهيار الأخير تعيد إلى الذاكرة “الشتاء الكريبتوي” بعد سقوط منصة “إف تي إكس” في 2022. وتشير التقارير إلى أن هذا الانكماش يمثل تحديًا كبيرًا للمستثمرين الذين دخلوا سوق العملات المشفرة في ذروة الازدهار.
تأثير سياسي مباشر من واشنطن
وترى “فايننشال تايمز” أن المفارقة لافتة، حيث إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدّم امتيازات كبيرة لصناعة الكريبتو منذ عودته إلى البيت الأبيض بداية العام، من تعيين مناصرين لهذه الصناعة في الهيئات التنظيمية إلى العفو عن مديرين مدانين، وحتى وضع خطة لإنشاء “احتياطي وطني من البيتكوين”. ومع ذلك، فإن العملة الأشهر خاسرة 4% منذ بداية العام.
وتوضح الصحيفة أن الشرارة الأقوى للانهيار كانت إعلان ترامب عبر “تروث سوشيال” فرض رسوم 100% إضافية على الواردات الصينية يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مما تحول خلال دقائق إلى أسوأ يوم في تاريخ سوق العملات الرقمية، ويشار إليه اليوم باسم “10/10”.
وفي ذلك اليوم انهار متوسط أسعار نحو 10 آلاف عملة رقمية بمعدل 47% خلال ساعات، وتمت تصفية مراكز ممولة بأكثر من 19 مليار دولار، في حين اختفت 500 مليار دولار من السوق كليا. هذا الانهيار السريع أظهر هشاشة السوق وارتفاع المخاطر المرتبطة به.
وتشير بيانات نقلتها الصحيفة عن محللين إلى أن الخسائر تفاقمت بسبب استخدام مستثمرين مراكز عالية الرافعة عبر مشتقات العقود الآجلة الدائمة بمضاعفات تصل إلى 100 ضعف في بعض المنصات، قبل أن تتعطل وظائف السيولة مع انسحاب صناع السوق، مما جعل “لا أحد يعرف السعر الحقيقي لأي أصل رقمي”، وفق تحليل من منصة كايكو المختصة.
انتقال العدوى إلى وول ستريت
وتحذر “فايننشال تايمز” من أن الأزمة لم تبق معزولة عن الأسواق التقليدية كما السابق، إذ دخلت المؤسسات بقوة في العملات المشفرة خلال السنوات الماضية، مثل صندوق بلاك روك الذي يمتلك نحو 780 ألف بيتكوين. هذا الاندماج بين الأسواق التقليدية والرقمية يزيد من المخاطر النظامية المحتملة.
وتكشف الصحيفة أن جامعة هارفارد تحمل عبر صندوق الاستثمار المتداول لدى بلاك روك ما قيمته 442 مليون دولار، وهي أكبر حيازة معلنة لها في الولايات المتحدة. هذا يدل على تزايد اهتمام المؤسسات الكبيرة بالاستثمار في هذا المجال.

وتنوه “فايننشال تايمز” إلى أن موجة أكتوبر/تشرين الأول قادها محترفو المشتقات، لكن “نزيف نوفمبر/تشرين الثاني جاء من المستثمرين العاديين” الذين سحبوا 3.5 مليارات دولار من صناديق الكريبتو، وهو رقم قياسي بحسب الصحيفة. هذا يشير إلى أن المستثمرين الأفراد أصبحوا أكثر حذرًا بشأن الاستثمار في هذا السوق.
الملاذ الأخير.. “تيذر” موضع شك
وتُبرز الصحيفة مخاوف متصاعدة تتعلق بالعملة المستقرة “يو إس دي تي” التي تبلغ احتياطاتها 184 مليار دولار بعدما خفّضت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف الضمانات الداعمة لها، محذرة من ارتفاع نسبة الأصول عالية المخاطر في احتياطياتها إلى 24%. هذا يثير تساؤلات حول استقرار هذه العملة وقدرتها على الحفاظ على قيمتها.
ونقلت عن أحد المسؤولين في قطاع العملات المستقرة قوله “انهيار تيذر سيُسقط كامل بيت الأوراق، وسيكون أثر العدوى هائلا”. هذا التحذير يؤكد أهمية مراقبة الوضع المالي لـ “تيذر” عن كثب.
وتشير “فايننشال تايمز” إلى أن انهيار الكريبتو بات مؤشرا محتملا لمخاطر أوسع في عالم مالي قلق أصلا من التوترات الجيوسياسية وفقاعة أسهم التقنية. هذا يعني أن الأزمة قد تؤثر على أسواق أخرى وتزيد من حالة عدم اليقين الاقتصادي.
وفي الوقت الذي يراهن فيه كبار المستثمرين على عودة الأسعار إلى قمتها السابقة يبقى سؤال جوهري معلقا: هل ما يحدث تصحيح صحي أم بداية انفجار فقاعة مترابطة مع وول ستريت؟ من المتوقع أن تشهد الأسابيع القادمة المزيد من التقلبات في سوق العملات الرقمية، وسيكون من المهم مراقبة التطورات السياسية والاقتصادية التي قد تؤثر على هذا السوق.





