مجزرة في قصر الرحاب وآخر أيام الملكية في العراق!

في ربيع عام 1917، وبينما كانت نيران الحرب العالمية الأولى تشتعل بلا هوادة، دارت عجلة القدر لتُسطِّر فصلا جديدا في تاريخ بلاد الرافدين، حيث جاءت بريطانيا بكل قوتها الماكرة والغاشمة لتخطف العراق من أحضان الإمبراطورية العثمانية المتهاوية؛ إذ بدأت غزوها من جنوب البصرة ثم اجتاحت بغداد بعد مقاومة شرسة من العثمانيين كبَّدوهم فيها خسارة معركة “كوت العمارة” الشهيرة؛ لكن بريطانيا تمكنت من امتصاص الصدمة، ومن ثم التقدم لتكمل مسيرتها التوسعية بضم الموصل وكركوك؛ مُكرِّسةً بذلك سيطرتها على كامل العراق.
وفي لعبة السياسة المخادعة، أبرمت بريطانيا صفقتها مع فرنسا، التي كانت تراقب المنطقة بعين الطمع تحت ظلال اتفاقية “سايكس-بيكو” لعام 1916، فمنحتها حصصا من الذهب الأسود العراقي لمدة خمسة وعشرين عاما ثمنا لتنازلها وابتعادها.
كان البريطانيون من قبل ومن بعد يتطلعون إلى السيطرة على نفط العراق، وتأمين ثروات عَبادان والأحواز في إيران، وإحكام القبضة على الطرق التي تربط غربها البعيد بجوهرة تاجها الشرقي الهند. كانت تلك الخطوة في احتلال العراق أيضا ضربة موجعة لأطماع ألمانيا وروسيا؛ لقطع الطريق على أحلامهما في السيطرة على هذه الأرض الغنية.
ولا ريبة أن وراء ستار الاحتلال البريطاني للعراق كانت تختبئ دوافع خفية وأطماع عميقة، لكن الإنجليز لم يكتفوا بذلك، بل نسجوا الأكاذيب وروَّجوا لفكرة “الانتداب” كما فعلوا في فلسطين ومصر والسودان، وقد وعدوا العراقيين بدولة مستقلة بعد انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية، متعهدين باحترام مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون، وعلى رأسها “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، لكن تلك الوعود لم تكن سوى سراب يُخفي نِيَّاتهم الحقيقية.
ومن ثم سرعان ما انكشف القناع، فتحايلوا على تلك العهود، مما أشعل فتيل ثورة عارمة عام 1920، وتحت ضغط الغضب الشعبي، اضطرت بريطانيا للتراجع خطوة، فأقامت دولة عراقية ملكية تحت ظلالها، وجاء فيصل بن الشريف حسين، الذي كان قد حكمَ سوريا لأشهر معدودة، ليتربع على عرش العراق.
كان فيصل أملا للعراقيين في الخلاص من نير الاحتلال الذي أثقل كواهلهم، وهكذا بدأ العصر الملكي العراقي (1921-1958)، لكنه لم يكن ليخلو من العواصف، إذ انتهى بمأساة مدوية ابتلعت الملك فيصل الثاني، حفيد المؤسس، وخاله الأمير عبد الإله، ورجل بريطانيا المخلص نوري السعيد.
فكيف تشكلت ملامح هذا النظام الملكي؟ وكيف وجد الصبي فيصل الثاني نفسه على عرش بلاد الرافدين تحت وصاية خاله الهاشمي؟ وما الذي أثار حفيظة ضباط الجيش العراقي حتى ثاروا على هذا الحكم؟ ولماذا اختاروا نهاية دامية لا تعرف الرحمة، طالت حتى نساء الأسرة الهاشمية؟
بريطانيا وشركاؤها ومسار الأحداث
في كتاب “تاريخ العراق الحديث” للمؤرخ محمد سهيل طقوش، نرى خيوط مؤامرة ماكرة نسجها البريطانيون ضد العرب الذين استعانوا ببعضهم ثم انقلبوا عليهم فيما بعد، لطرد العثمانيين من جبهات الحجاز والشام والعراق خلال الحرب العالمية الأولى، تحت قيادة الشريف حسين وأبنائه الأمراء فيصل وعلي وعبد الله، إذ ظن العرب أن الحرية بانتظارهم، لكن الخداع البريطاني كان الثمن.
ولا ريبة أن النكوص البريطاني عن وعودهم أشعل جذوة انتفاضة 1920 العارمة، التي هزت أركان الاحتلال الإنجليزي، فلم يجدوا مفرا من العودة إلى الأسرة الهاشمية مجددا، ليتوّجوا فيصل الأول بن الشريف حسين ملكا على أرض الرافدين في 23 أغسطس/آب 1921، في محاولة لتهدئة الغضب الشعبي العراقي.
ومن هنا انطلقت رحلة الحكم الملكي في العراق، حيث تعاقب على العرش فيصل الأول حتى رحيله في 1933، ثم ابنه غازي الأول الذي انتهى حكمه في 1939 في حادث غامض، ليخلفه ابنه الصبي فيصل الثاني (1935-1958)، آخر ملوك العراق، وفي إبان طفولته تولى شؤون المملكة نيابة عنه خاله الأمير عبد الإله الهاشمي ورئيس الوزراء الشهير وقتها نوري السعيد، وكلاهما كانا من أعمدة النفوذ البريطاني في البلاد.
ففي أبريل/نيسان 1939، وبعد مقتل الملك غازي في حادث سيارة غامض، كُلِّف نوري السعيد بتشكيل حكومته الرابعة، وبعد خمسة أشهر فقط اندلعت الحرب العالمية الثانية بين بريطانيا وفرنسا من جهة، وألمانيا الهتلرية من جهة أخرى، حيث كانت ألمانيا بنفوذها المتزايد في العراق وتقارب الملك غازي معها تدعم الحقوق العربية وتقاوم الصهيونية، مما جعل تقارب الملك غازي معها تهديدا مباشرا للمصالح البريطانية.
وفي خضم وزارته الرابعة، وبينما كان الأمير عبد الإله الهاشمي، خال الملك الصبي، يراقب بصمت، فتح نوري السعيد أبواب العراق على مصراعيها للجيوش البريطانية، ولم يكتفِ بذلك، بل أرسل فرقتين عسكريتين عراقيتين ليغرقا في رمال الصحراء الليبية أو جبال البلقان، يقاتلان إلى جانب الإنجليز ضد دول المحور.
وبسرعة البرق، قطع السعيد وعبد الإله العلاقات مع ألمانيا، وألقيا بكل ثقل العراق في أحضان المحتل البريطاني، ولا شك أن هذا الاندفاع الأعمى أشعل غضب الوطنيين العراقيين، فتحول نوري السعيد إلى رمز للخيانة في أعينهم، وفي كل مرة يشعر فيها بالخطر أو الانفجار الشعبي كان يهرب من العاصفة بتقديم استقالته، منتظرا أن تهدأ موجات الاتهامات للعودة من جديد، كما يروي المؤرخ جعفر عباس في كتابه “التطورات السياسية في العراق”.
وفي فترات الفراغ بين حكومات نوري السعيد، برز نجم الوطنيين في البلاد، حيث تصدّر المشهد رشيد عالي الكيلاني، الذي ارتقى إلى رئاسة الوزراء للمرة الثالثة في 1941، محمولا على أكتاف الجيش والشعب، وفي ذروة الدعم الشعبي العارم، أُجبر الوصي عبد الإله على الفرار خارج البلاد، تاركا نوري السعيد يترنح بعد استقالته.
بيد أن بريطانيا لم تكن لتسمح بأن تُسلَب منها لعبة السيطرة بهذه السهولة، حيث استدعت جيشا ضخما يزيد على عشرة آلاف جندي من الهند، وأطلقت العنان لغزوٍ جديد بدأ من البصرة جنوبا نحو بغداد، وعلى مدى شهر كامل دارت معارك ضارية، حيث سحقت القوات الجوية البريطانية المتفوقة الجيشَ العراقي تحت وطأة قوتها الساحقة، وفي النهاية، لم يجد رشيد عالي الكيلاني ورفاقه من قادة الجيش مفرا سوى اللجوء إلى إيران، تاركين خلفهم أرضا تئن تحت نير الاحتلال مرة أخرى.
ولهذا السبب عادت بريطانيا لتشدد قبضتها على العراق بقوة أعنف وسلطة أقسى، فيما تحوّل الوصي عبد الإله الهاشمي بعد عودته من منفاه إلى أداة بين يدي الإنجليز، أكثر خضوعا وتبعية، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تشارف على النهاية، برزت قضية فلسطين عام 1948 جرحا نازفا في قلب الأمة العربية.
وقد اتحدت بعض الدول العربية مثل مصر والسعودية وشرق الأردن ولبنان والعراق وسوريا تحت راية جامعة الدول العربية، معلنةً زحف جيوشها لتحرير فلسطين، لكن الخلافات بينها ومؤامرات مجلس الأمن وسوء الخطط أدت في النهاية إلى انسحاب تلك الجيوش؛ تاركة فلسطين وحيدة في مواجهة مصيرها.
وقد هزّ انسحاب الجيش العراقي نفوس العراقيين، وباتوا يشعرون بالغضب العميق، ولهذا السبب في 23 يوليو/تموز 1948 انفجرت شوارع بغداد بتظاهرات غاضبة، صارخة برفض الانسحاب، ومطالبة بمواصلة القتال ضد الحركة الصهيونية المدعومة من مجلس الأمن.
وفي وسط هذا الغليان، أدرك كثير من القادة والسياسيين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء علي مزاحم الباجه جي، أن خيانة الوصي عبد الإله لم تكُن مجرد مصادفة، حيث كان متواطئا مع الإنجليز يدير خيوط مؤامرة أسهمت بكل قوة في نكبة فلسطين، وذلك ما يكشفه مؤيد الونداوي في كتابه “العراق في تقارير الشرطة السرية البريطانية”.
المنظمات العسكرية وبداية الانتقام
استيقن العراقيون أن الملكية المقيدة بأغلال الاحتلال البريطاني هي أصل كل مآسيهم، خاصة منذ بداية الحرب العالمية الثانية، وبشكل أعمق بعد نكبة 1948، حينها بدأت تنظيمات سياسية وعسكرية سرية تنبتُ في أرض العراق، وتحمل على عاتقها حلم “إسقاط النظام الملكي واستعادة الكرامة الوطنية” كما وصفوها.
رأى الضباط الوطنيون والقوميون في الجيش أن النكسة ليست سوى انعكاس لضعف النظام وتبعيته، وأدركوا أن النصر يبدأ من قلب بغداد قبل أن يصل إلى فلسطين، ثم اشتعلت جذوة التغيير وتأججت مستلهمة من ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، التي ألهبت حماس الشعب العراقي وأحزابه وتنظيماته، وذلك ما يؤيده مؤيد الونداوي في كتابه السابق، حيث كانت تلك اللحظة بداية العد التنازلي لعهدٍ كان على وشك أن ينهار تحت وطأة غضب شعبي جارف.
وعقب اشتعال ثورة يوليو 1952 في مصر معلنةً سقوط الملكية هناك، اشتعلت الشرارة ذاتها لدى ضباط الجيش العراقي، في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، حيث بدأ الرائد رفعت الحاج سري والمقدم رجب عبد المجيد بإشعال فتيل التغيير، ففي سرية تامة تواصلا مع ضباط موثوقين يجمعونهم في خلايا سرية مستوحاة من تنظيم “الضباط الأحرار” المصريين، بهدف واحد: اقتلاع الملكية من جذورها.
وبحلول نهاية 1952، كادت خطة معدة مسبقا للقضاء على الملك الشاب فيصل الثاني وخاله عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد أن تنجح بالفعل، ولكن سفر نوري السعيد في اللحظة الأخيرة أجَّل المحاولة، كما يروي وليد محمد الأعظمي في كتابه “الليلة الأخيرة، مجزرة قصر الرحاب”.
ثم جاء عام 1956، حاملا معه رياح العدوان الثلاثي على مصر، وفي خضم حرب السويس تلك، كشف الثلاثي عبد الإله، وفيصل الثاني، ونوري السعيد عن وجههم الحقيقي، حيث وقفوا صامتين بينما كانت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تفتك بمصر، وحين تدخَّل الاتحاد السوفياتي وأجبر المعتدين على التراجع، خرج عبد الناصر منتصرا، عندئذ أدرك العسكريون والسياسيون العراقيون عمق خيانة حكومتهم وارتهانها للمستعمر الغربي.
في تلك السنة، نضجت بذور التمرد داخل الجيش العراقي، حيث تشكَّل تنظيمان كبيران: الأول “اللجنة العليا للضباط الوطنيين” -التي أصبحت لاحقا “الأحرار”- بقيادة رفعت الحاج سري، الذي كان قد أرجأ محاولة سابقة للانقلاب. والثاني تنظيم “المنصورية”، بقيادة آمر اللواء التاسع عشر عبد الكريم قاسم ورفيقه عبد السلام عارف، وبحلول عام 1957، اتحد التنظيمان تحت راية “الضباط الوطنيين”، وتولى عبد الكريم قاسم القيادة كونه الأكبر سِنًّا ورتبة، ومن هنا، بدأت العجلة العسكرية تدور لاقتلاع الملكية، وكان الوقت يقترب من لحظة الحسم التي ستهز أركان العراق!

حكومة في غيبوبة
لقد تآمر الضباط الثائرون على تصفية الأمير عبد الإله ولي العهد، ورئيس الوزراء نوري السعيد، في ضربة واحدة، لكنهم حينئذ قرروا إبقاء الملك الشاب فيصل الثاني على قيد الحياة؛ إذ كان والده الملك غازي في نظر الثوريين من العسكريين والمدنيين رمزا وطنيا دفع حياته ثمنا لمحاولته نزع قيد الهيمنة البريطانية عن العراق، وقد كان هذا التمرد يختمر في الخفاء، بينما ظلت الحكومة العراقية، تحت قيادة الثلاثي، غارقة في سبات عميق.
يروي توفيق السويدي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق ووزير الخارجية في تلك الحكومة الأخيرة، وشاهد عيان على المجزرة التي وقعت للأسرة الهاشمية الحاكمة، كيف كانت الحكومة تتجاهل البركان الذي يغلي تحت أقدامها، حيث يكشف في مذكراته أن ملك الأردن وقتئذ تلقى معلومات دقيقة عن تنظيم سري داخل الجيش العراقي يُعِد للانقلاب، لكن قائد الجيش العراقي رفض التصديق باستهزاء كبير، مدعيا أن هذه “الحركات” مجرد أوهام لا وجود لها!
ولم تتوقف التحذيرات عند هذا الحد، فوفقا لتوفيق السويدي في مذكراته أيضا، جاءت إشارات من تركيا وتقارير من أجهزة الأمن الداخلية العراقية تُنبئ بتحركات عسكرية وشيكة، لكن الثلاثي؛ فيصل الثاني، وعبد الإله، ونوري السعيد، ظلوا غافلين، يرفضون مواجهة الحقيقة، بل إن الرئيس التركي عدنان مندريس في يونيو/حزيران 1958، قبل شهر واحد من الانقلاب، حذّر صديقه القديم نوري السعيد مباشرة من مؤامرة تُحاك في الجيش، لكن السعيد بنبرة غاضبة وصفها قائلا: “إن هذه المعلومات غير صحيحة، ولا يُصدِّق أي شيء منها”، مغلقا عينيه عن العاصفة التي كانت على وشك أن تجتاحهم جميعا!
يوم المجزرة
كما رأينا، كان الثلاثي الحاكم غارقا في غفلته، دون أن يدرك أن ساعة الصفر قد اقتربت، حيث استغل “الضباط الوطنيون الأحرار” فرصة ذهبية لاحت لهم، وهي وجود الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله ونوري السعيد في بغداد، هذا في الوقت الذي جاءت فيه أوامر بتحريك اللواء العشرين من جلولاء شرق العراق إلى الأردن لدعم جيشها وقتئذ.
حينئذ استغل الضباط الوطنيون مرور اللواء عبر العاصمة بغداد باعتباره غطاء مثاليا للانقضاض على قصر الرحاب دون إثارة شبهة، وفي تلك الأثناء كان الملك يعد حقائبه للاستعداد بحفل زواجه والسفر مع عروسه إلى أوروبا.
ولكن مع أول خيوط فجر 14 يوليو/تموز 1958، اندفع الثوار بقوة؛ إذ قاد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وحداتهم لتطويق المقرات السيادية في بغداد، وعبر أثير الإذاعة دوَّت كلماتهم كالصاعقة: “انتهت الملكية، وقامت الجمهورية!”، وحاصر الجيش قصر الرحاب، معقل الأسرة الهاشمية الحاكمة، واندفعوا إلى الداخل لا يقف أمامهم شيء.
حينئذ أُجبر الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله وجدّته الأميرة نفيسة وبعض الأميرات الأخريات على الخروج إلى حديقة القصر، ثم جاء الأمر القاطع بإطلاق الرصاص وتصفيتهم جميعا، حيث تساقطوا جميعا الواحد على الآخر “في كتلة بشرية من اللحم والدم… وخرَّ الملك فيصل إلى الوراء على كتف ضحية أخرى، ثم تقدم مُتولِّي أمر الإعدام الضابط عبد الستار السبع، ووقف فوق الجثث الممدودة أمامه، وأطلق رشاشه من جديد نحو الملك والأمير، فقال له رفيقه: لويش (لماذا؟) فأجاب: حتى أتأكد!” أجاب بحزم، كما يروي وليد محمد الأعظمي في كتابه “الليلة الأخيرة، مجزرة قصر الرحاب”.
في تلك الأثناء، حوصر رئيس الوزراء نوري السعيد في منزله، وأدرك ألا مفر له، فأخرج مسدسه وأنهى حياته بنفسه، ولم يكتفِ الثائرون بذلك، بل جرّوا الجثث عبر شوارع بغداد، يعرضونها كغنائم انتصار حتى تشوهت معالمها في مشهد مأساوي.
ولم ينجُ من هذا الدمار سوى قلة من الأسرة الحاكمة، منهم الأميرة بديعة بنت الشريف علي، خالة الملك وأخت عبد الإله، التي فرَّت مع أبنائها وزوجها متخفين تتنقل بين الملاجئ، حتى وجدت ملاذها أخيرا في السفارة السعودية، وفي مذكراتها “مذكرات وريثة العروش”، حكت قصة هروبها المثيرة ومشاهد المجزرة التي حفرت في قلبها جرحا لا يندمل!
ففي الجانب الآخر من بغداد، وصلت الأنباء إلى الأميرة بديعة كالصاعقة عبر عيون سرية ومقربين: الجميع في قصر الرحاب قد لقوا حتفهم، الملك فيصل الثاني، الشاب ابن الثلاثة والعشرين عاما، وشقيقها الأمير عبد الإله، وسواهم ذُبحوا في مجزرة لم تُبقِ أحدا.
عقب ذلك لم تتردد لحظة، جمعت أبناءها وزوجها، وانطلقت هائمة على وجهها هربا من شبح الموت، ففي مذكراتها، تصف تلك اللحظة المرعبة بقولها: “لم أحمل معي أي شيء، تركتُ كل شيء ورائي، وخرجتُ بعباءتي السوداء من بيتي، لا أعرف إلى أين، ولم أتخيَّل بأن ذلك الخروج الاضطراري هو آخر عهدي بمنزلي!”.
منذ تلك اللحظة في 14 يوليو/تموز 1958، خطا العراق أولى خطواته نحو الجمهورية على أنقاض مجزرة دموية هزَّت أركانه كان سببها ارتماء هؤلاء في أحضان المحتل والتبعية المطلقة له!