من الدفاع إلى الاستعداد للحرب.. لماذا تغير ألمانيا عقيدتها العسكرية؟

رفعت ألمانيا إنفاقها العسكري إلى مستوى غير مسبوق، في خطوة تعكس تحولًا استراتيجيًا عميقًا في موقعها داخل أوروبا وعلاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة، وسط نقاش متزايد حول مستقبل المظلة الأمنية الأمريكية للقارة. هذه الزيادة في الإنفاق العسكري الألماني تأتي استجابة للتهديدات المتصورة وتؤكد التزام برلين بأمن حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تمثل حزمة المشتريات العسكرية الألمانية الجديدة استثمارًا ضخمًا في القدرات الدفاعية، وهي ثالث مبادرة لتعزيز الجيش الألماني منذ عام 2023. تأتي هذه الخطوة في سياق ما تعتبره السلطات الألمانية تدهورًا في الوضع الأمني العالمي وتصعيدًا في التوترات مع روسيا، خاصةً بعد الحرب في أوكرانيا.
خيار لا مفر منه: زيادة الإنفاق العسكري الألماني
صرّح حسني عبيدي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، بأن أوروبا، وخاصة ألمانيا وفرنسا، تشهد تحولًا في عقيدتها العسكرية، والانتقال من “الدفاع السلمي” إلى “الاستعداد للحرب”. يتضمن هذا التحول استثمارات كبيرة في الصناعات العسكرية وتطوير القدرات العسكرية.
وأضاف عبيدي أن هذا التوجه لا يقتصر على رد الفعل تجاه الحرب في أوكرانيا، بل هو نتيجة أيضًا لتغير في الموقف الأمريكي. ويبدو أن الدول الأوروبية الكبرى قد أدركت أن الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية ليس مضمونًا، وأن بناء استقلالية عسكرية أوروبية أصبح ضرورة ملحة.
تضع ألمانيا لنفسها هدفًا طموحًا لتحويل نفسها إلى قوة عسكرية رئيسية في أوروبا بحلول عام 2035، من خلال ما يعرف بـ “خطة 2035”. ويشير عبيدي إلى أن إعفاء الإنفاق العسكري من القيود المالية الصارمة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي يوضح مدى جدية هذا التوجه.
وافق البرلمان الألماني مؤخرًا على حزمة إنفاق عسكرية ضخمة بقيمة 59 مليار دولار، تشمل أنظمة دفاع جوي متطورة مثل باتريوت وأنظمة أخرى أوروبية الصنع وحزمة واسعة من المدرعات.
المخاوف الأوروبية من التزامات واشنطن
تتزامن هذه الخطوة مع مخاوف أوروبية متزايدة بشأن احتمال انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها تجاه أوروبا، وهو قلق تفاقم بسبب الخطابات السياسية الأخيرة. تتحدث بعض التحليلات عن إستراتيجية جديدة للأمن القومي الأمريكي تُعيد تقييم الأولويات وتضع تركيزًا أكبر على مناطق أخرى، مثل منطقة المحيط الهادي.
حدود القدرات الأوروبية
لكن عبيدي يحذر من أن أوروبا لديها قيود على قدرتها على الاستغناء عن الولايات المتحدة بشكل كامل. مع استمرار القارة في الاعتماد على أمريكا في مجالات مثل التفوق الجوي والاستخبارات، فإن الاستغناء الكامل عن الحماية الأمريكية “غير ممكن في المدى القصير والمتوسط”.
“الاستقلال الإستراتيجي” كهدف أوروبي
من جانبه، يرى أولريش بروكنر، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الأوروبية، أن دعوات واشنطن المتكررة لزيادة الإنفاق الدفاعي من قبل الأوروبيين بدأت تؤتي ثمارها. وقد حفزت الحرب في أوكرانيا بشكل خاص هذه الاستجابة، حيث أدركت الدول الأوروبية الحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية.
وأكد بروكنر أن الولايات المتحدة، التي تركز بشكل متزايد على التحديات في منطقة المحيط الهادي، وتحتاج إلى حلفاء يتحملون قدرًا أكبر من المسؤولية الدفاعية، تشجع هذا التحول. وهذا يشمل التعامل مع التهديدات المحتملة من الصين في المستقبل القريب.
الخطوة الألمانية تعكس سعيًا أوسع نحو “الاستقلال الإستراتيجي” الأوروبي، وهو مفهوم يتطلب قدرة أوروبا على العمل بشكل مستقل واتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الخاصة. ويتطلب ذلك استثمارات كبيرة في القدرات العسكرية والتكنولوجية، وكذلك تطوير سياسة خارجية موحدة.
موقف واشنطن والتحالف عبر الأطلسي
يشير مايكل رايان، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، إلى أن زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي لا يهدد التحالف عبر الأطلسي، بل يعززه. إن وجود حلفاء أوروبيين أقوياء يسمح للولايات المتحدة بتركيز مواردها على تحديات أخرى.
ويؤكد رايان أن الإستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة للأمن القومي تعتبر أمن الولايات المتحدة مرتبطًا بشكل وثيق بأمن حلفائها، ويظل الناتو حجر الزاوية في هذا التحالف. تتضمن المبادرات الدفاعية أيضًا مشاريع مثل “القبة الذهبية” لحماية الأراضي الأمريكية، والتي من المتوقع أن تشمل الحلفاء.
من المتوقع أن يستمر الإنفاق العسكري الألماني في الازدياد خلال السنوات القادمة، مع التركيز على تحديث الجيش وتطوير القدرات الجديدة. سيراقب المراقبون عن كثب مدى قدرة ألمانيا على الوفاء بأهدافها الطموحة، وكيف ستؤثر هذه التغييرات على التوازن الإستراتيجي في أوروبا. تبقى العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة موضوعًا رئيسيًا للمراقبة، خاصةً مع استمرار التغيرات في السياسة الأمريكية.





