“هذي مش إسرائيل يا زلمة!”.. حوار مع منير شفيق
بخطى ثقيلة يمشي معتمدا على عكازه الذي يسند 88 سنة من النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويذرع بهو فندق “ذا نِد The Ned” في الدوحة. هذا الرجل الذي اعتادت أقدامه على الركض في شوارع القدس، وأحيائها؛ مشى في فلسطين كلها، وجرّب السفر من حيفا إلى دمشق إلى بيروت من دون أن يوقفه معبر إسرائيلي أو حدود، لأنه أكبر من إسرائيل، حيث ولد قبل الإعلان عن قيامها بـ12 عاما.
رفعتُ يدي ملوّحا للرجل التي لم تثن 9 عقود ظهره، ظل متماسكا يمشي بقامة منتصبة. إضاءة الفندق الخافتة تعطي منظرا مميزا لشعره الفضي الكثيف، مشى نحوي وهو يلبس بدلة رسمية غامقة اللون، ونظارات كأنه مسح عدساتها للتو، صافحته مرحبا به في قلب البهو، حيث تصعد جوقة موسيقية على مسرحٍ دائري يتوسط البهو، بدأت الفرقة تعزف لحنا أعجميا. وضعتُ يدي في يده وسألته مداعبا، أعرف أن والدك حرص على تحفيظك الكثير من الشعر العربي، ألم تتعلم العزف على آلة موسيقيّة؟
“بلى، أخذت دروسا في عزف العود، ولم أفلح. كنتُ أحفظ النوتات بذاكرتي وليس بأصابعي. عرفتُ أنه جهد ضائع فتوقفت”.
مشيت بجانبه تاركا له حرية اختيار المكان المناسب للجلوس. ابتعد بي من المسرح واختار طاولة في الزاوية. ألقى عصاه، وجلس على الأريكة وجلست على الكرسيّ أمامه وبيننا طاولة عليها مصباح صغير.
-
أسميت سيرتك الذاتية من جمر إلى جمر، ما جو الحرائق الذي تعيش فيه؟
“لذلك قصة.. أولا، بسم الله الرحمن الرحيم، هذا العنوان له قصة. كان كثيرون يتهموني بالتقلب. فمن الماركسية إلى القومية ومن القومية إلى الماوية ومنها إلى الإسلام. وعندي عليهم جوابان. أولهما أن المنطقة كلها كانت تتقلب وليس الأمر حكرا عليّ”. وصدرت منه ضحكة قصيرة. ثم استأنف: “ثانيها وهو الجواب المنطقي، أني كنت أتقلب لكن ليس لتحقيق مصلحة ذاتية. أكثر اليسار، أو لنقل كثير منهم “بصير فيه هيك” (يقصد تغيره المصالح الشخصية)، يبدأ ثوريا وصاحب مبادئ، ثم حين يصل إلى الـ40، أو عمر النضوج أو الزواج والمسؤوليات، يتغير كثير منهم، وربما انتقلوا للجهة المقابلة، بحجة أنهم تعبوا وغيّروا ليرتاحوا!”.
قاطعنا النادل بإنجليزيّته الآسيويّة: “ماذا تحبان أن تتناولا؟”.
طلب شفيق قهوة “إسبريسو لونغو”، وطريقتها تختلف عن “إسبريسو التقليدية شيئا ما، إذ تزيد كميتها وحجم الكوب المقدم فيها عن التقليدية، ومن هنا كان اسم “لونغو” (lungo) التي تعني “طويل” بالإيطالية. عادة يستغرق تحضير جرعة من قهوة “الإسبريسو” 20-30 ثانية، وفيها 30 مليلترا من الماء، بينما تحضر قهوة لونغو باستخدام ضعف كمية الماء وخلال مدة قد تصل إلى دقيقة كاملة. ومذاقها يقلُ حدةً، وربما ازداد مرارةً.
بالنسبة لي كنت قد وصلت إلى الفندق مساء بمعدة لم يدخلها شيء منذ الصباح، فلم تكن القهوة خيارا مناسبا على الجوع. طلبت شاي الياسمين الذي يجمع مزيجا من الشاي الأخضر وأزهار الياسمين، وطلبت من النادل قائمة الحلوى، لحاجتي للسكر الذي يمكن أن يحافظ على تركيزي لساعتين قادمتين.
غاب النادل، وواصل منير شفيق من حيث توقف:
“أنا أتقلب لكن ليس بسبب الحروب، ولكني أتقلب من وضع فيه جمر، إلى وضع جمره أشد، عندما كنت شيوعيا كان الشيوعي يُسجن 10 سنوات ويطلق سراحه بعدها، وعندما التحقت بفتح كان الفتحاوي محكوما عليه بالموت. ولما انتقلت إلى الإسلام، كان المسلم يعيش تحت ضغوطات كثيرة. فأنا أنتقل من الإمساك بجمر، إلى الإمساك بجمر أشدّ تلهّبا”.
وُلِدَ شفيق في فبراير/شباط من عام 1936، في حي النمامرة بالبقعة التّحتا في مدينة القدس، قبل أن تنتقل عائلته المسيحية المرموقة إلى حي القطمون الفخم أو الحي “رقم واحد”. هناك بين البيوت التي ترتدي قبعات من القرميد الأحمر، وتستضيف في حدائقها أشجار الخوخ والدراق والإجاص، نشأ الفتى على عين والده المحامي والمثقف الماركسي، الذي كان يحضه على حفظ القرآن وحماسة أبي تمام ومطالعة كتب ماركس والثوريين.
-
في لقاءاتك التلفزيونية ومحاضراتك عن طوفان الأقصى، تبدو متفائلا كثيرا رغم الدم والألم والإبادة التي تحدث في غزة، ولكن أظنك تنظر بعينين ليستا في رؤوس كثيرين من المحللين اليوم، فأنت تنظر إلى الصراع في امتداده التاريخي الذي كنت شاهدا عليه منذ البداية. جئتك اليوم لأفهم سر هذا التفاؤل، ولأسمع الصيغة المفصّلة عن أسبابه؟
“هناك جانب منهجي ألتزمه في حياتي؛ مفاده أن العمل السياسي يقوم على ميزان القوى، تقدم أي مشروع سياسي أو تراجعه، مرهون حسب ميزان القوى. وميزان القوى لا يتوقف على قوة الجيش، بل يشمل عناصر متعددة”. مد يده إلى كوب القهوة، وأخذ رشفة مطولة ثم قال:
“عندما كنت صبيا لم أتجاوز الـ16، دخلت في نقاش سياسي محتدم مع والدي، فانزعج مني، وقام من مجلسه إلى مكتبه، ثم عاد وفي يده ملخص كتاب “كلاوزفيتز” عن الحرب (كتاب عن الحرب والتخطيط العسكري كتبه القائد البروسي كارل فون كلاوزفيتز “توفي 1831”)، ناولني والدي الملخص وهو يقول لا تتحدث في السياسة مرة ثانية حتى تقرأ هذا الكتاب.. وليغريني أكثر بقراءته واصل قائلا: “كان ماركس وأنجلز يضعان نسختيهما من الكتاب قريبا من فراشهما، ليطالعاه قبل النوم!” لا بد للناشط في العمل الثوري والتغيير أن يعرف موازين القوى. وحين دخلت في العمل الفلسطيني، كتبت كتابا في علم الحرب استفدتُ فيه من مطالعتي في كتاب كلاوزفيتز، وقدرت أنه يفيد العاملين في المجال السياسي. وصار هذا الكتاب مرجعا لقلة المراجع العربية في هذا الشأن”.
عاد النادل ليقطعنا، واضعا صحن حلوى التيراميسو الذي طلبته.
أخذ الشيخ الذي خنق الـ90، يسترسل في كلامه وكأنه يعود إلى تاريخ قريب: “في أواخر الأربعينيات، تردد سؤال من سيربح الحرب، كان الكثير يقولون إن الألمان سيربحون الحرب. وكان والدي مصر على أن السوفيات سينتصرون في النهاية، مع تطويق الألمان لستالين غراد، وعدد القتلى السوفيات، ومع كل هذا لم ينتصر الألمان.
وفي حرب الـ48 كان الإعلام العربي يحكي أننا سننتصر، كان لوالدي المطلع على علم الحرب رأي آخر، كان يقول إن الإسرائيليين سيخربون بيتنا!”.
“عجيب!” قلتها وأنا أتذكر ما قرأته من أن مشكلتنا في حرب 48 كانت لفقد الإرادة لا القوة!
“لا ليس عجيبا، لقد جردنا الإنجليز من السلاح وزودوا الإسرائيليين به، وكانت إسرائيل مدعومة من كل القوى العظمى بما فيهم السوفيات”.
-
ألم يكن سبب هزيمتنا انعدام الإرادة أو الخيانات كما يُقال؟
“لا انعدام إرادة ولا خيانة ولا تواطؤ، ميزان القوى كان مع الإسرائيليين. لم يكن للعرب قوة تنافس. الجيش الأردني كان شرطة داخلية وليس جيشا نظاميا، الجيش المصري لم يكن معدا، جيش الهاغاناه كان يفوق الجيوش العربية السبعة مجتمعة بـ4 أضعاف، وكان عندهم مصفحات وطيران ومدرعات. لقد تدرب جيشهم مع الإنجليز وشارك في حرب العلمين، جيوشنا لم تكن مدربة ولا مسلحة تسليحا معتبرا.. ولذلك هُزمت الجيوش العربية، وانتصر الكيان، وبدل أن يأخذ 55% من أرض فلسطين بقرار التقسيم، أخذ 80% بالقوة. وقام بتطهير عرقي لثلثي الشعب الفلسطيني”.
“صدقني من عاش تلك المرحلة خاصة في الخمسينيات، يعرف هذا جيدا، في 1956 اكتسح الإسرائيلي سيناء بسرعة الدبابة. ولم يوقفه شيء!”.
قاطعتنا موظفة بصوت رقيق ولكنه مزعج لتوقيته، بالسؤال عما إذا كنا مقيمين في الفندق أم زوارا. رفاهية الفنادق الفخمة مطعّمة بفضول مزعج، وأسئلة متتالية.
“في تصوري من عام 48 إلى 82 لم يتجرأ أحد على تهديد الكيان الصهيوني، لأنه كان يخبطك بالثقيل! في حرب 1967 في 5 أيام احتل الكيان الصهيوني سيناء والجولان وغزة والضفة والقدس. حين أقارن الجيش الصهيوني اليوم بالجيش السابق، أجد فرقا شاسعا”.
ارتفعت نبرة الشيخ، وهو يتحدث عن تاريخ الصراع: “لم يكونوا يسمحون أن تسرق بقرة فضلا أن تطلق رصاصة! كانت تقضي عليك فورا. أما اليوم فحين أنظر أجد أن حزب الله ينيمهم في الملاجئ، وفي غزة تفعل المقاومة بهم ما تفعل. هذا شيء خيالي!.
ليس تفاؤلا ساذجا! حين استيقظت اليوم وسمعت الأخبار لقد تلقوا ضربات في حيفا وتل أبيب وضُربوا في غزة، سألت نفسي: هذه إسرائيل! “يا زلمة هذي مش إسرائيل!”.
“صدام لما أطلق صاروخين، 3، أقاموا عليه حربا وقمعوه. أما الآن لك سنة بتضرب فيها ومش قادرة واقعيا تنهي وجودك! تفاؤلي مش وهمي. ما في عسكري كان يظن أن الحزب يستطيع أن يقصف يوميا تل أبيب ويصل إلى بيت نتنياهو، هذا مش لعب!”.
“ثمة معنى تنبهت له وبدأت أتحدث عنه منذ 2006 وبشكل جدي، حاصلة أن ميزان القوى بدا يتحرك ضد الكيان الصهيوني. أميركا اليوم لما تشوف (دونالد) ترامب و(كاميلا) هاريس، هذي مش أميركا إيزنهاور وروزفيلت وكيندي.. هزيلون على مستوى القيادات! عيب فعلا عيب!” قال جملته الأخيرة بتقزز شديد.
“إلي صاير بدراستي ليس تفاؤلا وهميا. في هذه السنة من أول ما صار طوفان الاقصى، ورأيت كيف موَّهت المقاومة وكيف نفذت العملية، اقتنعت وقتها إنه عندنا قيادة عسكرية من أعلى طراز”.
-
لكن الجيش الإسرائيلي احتل غزة! أليس هذا انتصار عسكري؟
“غزة ساقطة عسكريا، لكنه دخل ولم يقضِ على المقاومة. هو يتجول لكنه لا يقدر على كشف عدوه، ولا يقدر على إيقافهم من مهاجمته. الإسرائيلي في غزة مثلي أنا وأنت نقدر نتنقل ونجلس على أي “كنباي” هنا، ولكنا لا نملك البهو، وهو لا يقدر أن ينهي المقاومة عسكريا. بمعنى القضاء عليها!، كل المبادرة في الاشتباك هو بيد المقاومة وليست بيده. هو يبيد الناس!”.
-
أليست هذه إستراتيجية عسكرية؟ ما دمت غير قادر على القضاء على المقاومة سأرفع عليها الكلفة بقتل المدنيين حتى تستسلم!
“هذا لا يجوز ومحرم دوليا وعيب!، اتفاقية جنيف تصنفك على أنك مجرم حرب! اسمع، عسكريا الأمر اليوم كما هو منذ البداية لم يتغير شيء، فقط أعداد القتلى المدنيين هو الذي يزداد، وهذه الأعداد لا تشكل نصرا عسكريا، إذا قال قائل إن السوفيات خسروا في الحرب 25 مليون فهم المهزومون وانتصر الألمان؛ أيكون كلامه معقولا؟! أو قال أحد إن إنجلترا تهدمت وخربت فهي الخسرانة، هذا يقوله عاقل؟ هذا اختراع عربي”.
-
ولكن يا سيدي ما قيمة القانون الدولي وتأثيره على إسرائيل؟ هذه دولة قامت على الإرهاب، ولم يضرها ذلك منذ 75 عاما! ثم قل لي لماذا لا تكون إسرائيل أميركا جديدة! لقد أبادت الولايات المتحدة السكان الأصليين وأقامت جمهوريتها العظمى على رفاتهم.
أجاب باستياء ظاهر: “هذا يا حبيبي كان في القرن الـ17، قبل أن تولد الدول والقوانين. ولا يقدرون على تكرار النموذج اليوم. هذه المعركة دمرت الحضارة الغربية، ووجهت طعنة قاتلة للحداثة، وللقانون الدولي، وهذا شيء لا تقدر أميركا على تحمله أمام روسيا والصين. اليوم هناك قوانين دولية صارمة. الأميركان صدعوا رأس الصين والروس بالبرلمانات والحريات وحقوق الإنسان. لقد خسرت أميركا الحرب مع الصين قبل بدايتها بسبب إسرائيل..”.
“رجوعا إلى 48، كان يقوم بمجازر ويهجر القرى، لكنه ينكر، حتى جاءت دير ياسين وانفجرت فضيحة قتل وبقر بطون النساء، وقتها تنصلت الوكالة اليهودية منها و”نسبتها” للجماعات الإرهابية التابعة لشامير وبيغن.
حتى الطنطورة اكتشفت بعد 30 سنة، اكتشفها المؤرخون الجدد حين بحثوا في الإرشيف الإسرائيلي. هذا القتل يهدم دولتهم. صورة الديمقراطية والحرية والأخلاقية لم تعد مرتبطة بهذا الكيان. 80% من شباب الحزب الديمقراطي يرون إسرائيل دولة مجرمة حرب!!”.
بعد نفس عميق، وقد ظهرت عليه علامات الإجهاد من طول المجلس، قال لي: “نحن إلى الآن كسبانيين بالسياسة والأخلاق! من الحرب العالمية الأولى إلى 2021 كان ميزان القوى العام ضدنا، والتفوق الغربي كاسح ماسح، الأمر لم يعد كذلك بعد طوفان الأقصى!”.