Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اقتصاد

هل دخلنا مرحلة التآكل التدريجي لهيمنة الدولار الأميركي؟

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية رسّخ الدولار الأميركي موقعه باعتباره عملة مهيمنة على النظام المالي العالمي، وصار العملة الاحتياطية الأولى في العالم، إذ يشكل ما يقارب 58.4% من احتياطيات البنوك المركزية عالميا وفقا لصندوق النقد الدولي، كما يُستخدم في أكثر من 84% من إجمالي المعاملات التجارية العابرة للحدود.

هذا الوضع منح العملة الأميركية قوة سياسية واقتصادية هائلة، مما جعل الولايات المتحدة قادرة على فرض عقوبات مالية والتحكم في النظام المصرفي العالمي بدرجة غير مسبوقة.

لكن التحولات الجارية في الاقتصاد العالمي، خصوصا صعود الصين كقوة اقتصادية متكاملة بدأت تطرح أسئلة جوهرية بشأن مستقبل هذا النظام النقدي الذي بُني على هيمنة الدولار.

فهل تستطيع الصين فعلا أن تُسقط هذه الهيمنة؟ وهل نحن مقبلون على نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب؟

لم تعد الصين اليوم مجرد مصنع للعالم، بل أصبحت قوة اقتصادية كبرى بكل المقاييس، ففي عام 2024 بلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني (بالأسعار الجارية) نحو 17.7 تريليون دولار، مقابل 27 تريليون دولار للولايات المتحدة.

لكن عندما نأخذ بعين الاعتبار معيار تعادل القوة الشرائية فإن الاقتصاد الصيني يتفوق بوضوح، حيث بلغ نحو 33.5 تريليون دولار، في حين بلغ نظيره الأميركي نحو 26.5 تريليونا، وهذا التفوق في الحجم الحقيقي يعكس بوضوح أن الصين أصبحت الاقتصاد الأكبر من حيث القدرات الإنتاجية والشرائية.

قوة اقتصاد الصين تجعل اليوان عنصر تهديد للولايات المتحدة (الأوروبية)

في الصدارة

وعلى مستوى التجارة الدولية تتصدر الصين قائمة الشركاء التجاريين لأكثر من 120 دولة، وتشكل نحو 14.5% من إجمالي صادرات العالم في 2023 مقارنة بـ8.9% للولايات المتحدة، كذلك تستحوذ الصين على أكثر من 28% من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، مما يجعلها القوة الإنتاجية الأولى عالميا.

هذا النفوذ التجاري والصناعي إذا ترافق مع قوة نقدية قادرة على منافسة الدولار يمكن أن يُحدث تحولا إستراتيجيا في النظام المالي الدولي.

لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه الصين لا يكمن في حجم اقتصادها أو قدرتها الإنتاجية، بل في تدويل عملتها الوطنية اليوان وتحويلها إلى منافس حقيقي للدولار.

وحتى الآن، لم تتجاوز حصة اليوان سوى 3.1% من احتياطيات البنوك المركزية في العالم رغم مضي نحو عقد على إدراجه ضمن سلة حقوق السحب الخاصة (إس دي آر) لدى صندوق النقد.

وبالمقارنة، يحافظ الدولار على نسبته المرتفعة البالغة 58.4%، في حين يأتي اليورو ثانيا بنسبة 20.2%، وهو ما يؤكد أن المسافة لا تزال شاسعة.

ورغم ذلك فإن الصين تتحرك بمنهجية بعيدة المدى، فمنذ سنوات عملت بكين على إنشاء بنية تحتية مالية تدعم نفوذ اليوان، أولا عبر إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والذي يقدم تمويلا للدول النامية بعيدا عن النظام الغربي التقليدي، ثم من خلال مبادرة الحزام والطريق التي تمول مشاريع ضخمة تربط الصين بالعالم عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، وقد تجاوزت استثماراتها التراكمية 1.3 تريليون دولار حتى عام 2024، كثير منها يدار بعملات غير الدولار.

وإضافة إلى ذلك، بدأت الصين باستخدام أدوات جديدة كليا، أبرزها إطلاق اليوان الرقمي السيادي (إي-سي إن واي) الذي تجاوز حجم معاملاته 34 مليار دولار حتى منتصف عام 2025.

وهذا الشكل من العملات الرقمية الخاضعة للبنك المركزي يمنح الصين مرونة في تجاوز نظام المدفوعات العالمي القائم على الدولار والبنوك الغربية، وهو ما يمثل محاولة لتأسيس نظام مدفوعات موازي يمكن تعميمه مستقبلا مع الدول المتعاملة معها تجاريا.

ووقّعت الصين أكثر من 40 اتفاقية ثنائية لتسوية التجارة مباشرة بالعملات المحلية، ولا سيما مع روسيا والبرازيل وإيران والإمارات.

ووفقا لتقديرات مؤسسة ستاندرد تشارترد، فإن حجم التجارة الصينية المسعرة باليوان بلغ في عام 2024 نحو 25% من إجمالي صادرات الصين، وهي نسبة لا تزال دون طموحات بكين، لكنها كانت 6% فقط في عام 2014، مما يعكس تسارعا واضحا.

تحديات هيكلية

وبينما تتوسع الصين اقتصاديا فإن الولايات المتحدة تواجه تحديات هيكلية، أبرزها تضخم الديون الفدرالية التي تجاوزت 34 تريليون دولار، ومعدلات فائدة مرتفعة أثقلت كاهل الموازنة العامة، كما أن اعتماد العالم على الدولار يمنح أميركا امتياز “العجز بلا عقاب”، لكنها باتت تحت ضغوط متزايدة للحفاظ على هذا المركز في ظل تغير موازين القوى.

وفي ضوء هذه المعطيات لا يبدو أن الدولار سيسقط فجأة أو أن اليوان سيحل محله مباشرة في المستقبل القريب، لكن المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أننا نتجه نحو نظام نقدي عالمي أكثر توازنا تتقاسم فيه عملات عدة، أبرزها اليوان واليورو وربما الروبل الأدوار إلى جانب الدولار، ضمن إطار متعدد الأقطاب، وهذا السيناريو سيعني نهاية احتكار الدولار لا سقوطه.

وبحلول عام 2030 تشير توقعات مؤسسات مالية مثل بنك “إتش إس بي سي” وصندوق النقد الدولي إلى أن الاقتصاد الصيني قد يتجاوز نظيره الأميركي من حيث الناتج الاسمي، بشرط الحفاظ على معدلات نمو تفوق 4% سنويا، في مقابل نمو أميركي لا يتعدى 2%.

وإذا ترافقت هذه التحولات مع توسع اليوان الرقمي ونضوج البنية المالية الصينية وتعزيز الثقة العالمية في الشفافية والاستقرار النقدي لبكين فقد نكون أمام لحظة تاريخية يعاد فيها تعريف العملة العالمية المهيمنة.

FILE PHOTO: Euro, Hong Kong dollar, U.S. dollar, Japanese yen, pound and Chinese 100 yuan banknotes are seen in this picture illustration, January 21, 2016. REUTERS/Jason Lee/Illustration/File Photo
يسيطر الاقتصاد الأميركي على أغلبية الاحتياطيات العالمية حاليا (رويترز)

لكن يجب الإقرار بأن الدولار لا يهيمن فقط بسبب قوة الاقتصاد الأميركي، بل نتيجة ثقة الأسواق والمؤسسات الدولية في النظام الأميركي، بما فيه من الشفافية والعمق المالي والسيولة وسيادة القانون، وهذه مقومات لا تتوفر بالكامل في النظام المالي الصيني حتى الآن، مما يفسر بطء تدويل اليوان رغم القوة الاقتصادية الواضحة.

وفي المحصلة، لا يُتوقع أن تُسقط الصين الدولار في المدى القصير، لكن المؤشرات تؤكد أننا دخلنا مرحلة التآكل التدريجي للهيمنة المطلقة للعملة الأميركي، فالصين لن تقود العالم بعملة واحدة، لكنها تعمل على تفكيك احتكار الدولار عبر شبكة معقدة من أدوات التأثير المالي والجيوسياسي.

والنتيجة المتوقعة خلال العقد المقبل هي ولادة نظام نقدي عالمي أكثر تنوعا وأقل اعتمادا على الدولار وأكثر تعبيرا عن موازين القوى الجديدة التي تتشكل في الشرق أكثر من الغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى