التصعيد النووي بين روسيا والغرب والاتجاه إلى حافة الهاوية
يتصاعد توظيف التهديد النووي في الصراع الجاري بين روسيا والمعسكر الغربي، بشكل كبير على خلفية التداعيات التي تتسبب بها الحرب في أوكرانيا على مكانة روسيا الدولية، وعلى أوضاعها الاقتصادية والعسكرية والأمنية، مما يدفعها إلى إبراز ورقة القوة النووية التي تمتلكها، لتؤكد للغرب أنها لن تقبل بحال أن تخرج مهزومة من هذه المواجهة.
وأبدت موسكو استعدادا لتغيير عقيدتها العسكرية لتخفف من قيود استخدام الأسلحة النووية، وتزايدت تصريحاتها الرسمية المهددة باللجوء إلى استخدامها بالفعل.
كما أجرت تدريبات تحاكي استخدام أسلحة نووية تكتيكية، وزادت من جاهزية أسلحتها، بالتوازي مع توسيع نطاق التحرك العسكري ليصل إلى كوبا قرب الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة.
تقرير معهد ستوكهولم
وحذر التقرير السنوي الذي يصدره معهد ستوكهولم لأبحاث السلام من تزايد انتشار الأسلحة النووية عالميا في هذا العام، مما يثير المخاوف والتساؤلات بشأن مآل هذا التصعيد وتداعياته على الاستقرار والأمن الدوليين.
وأشار التقرير الصادر في 17 يونيو/حزيران 2024 إلى أن مشروع الحد من الأسلحة النووية الذي دام 6 عقود من الزمن أصبح معرضا لخطر الإنهاء، إذ تباطأت وتيرة تنفيذه من قبل الطرفين الرئيسيين فيه، وهما الولايات المتحدة وروسيا.
وتملك الدولتان قرابة 90% من الأسلحة النووية في العالم، فيما يقلل الطرفان الشفافية بشأن قوتهما النووية، مع تقديرات بأن روسيا نشرت حوالي 36 رأسا نوويا حربيا إضافيا، مقارنة بما كان عليه الوضع في يناير/كانون الثاني 2023، مع أنباء غير مؤكدة بشأن نشر موسكو أسلحة نووية على الأراضي البيلاروسية.
وقال مدير المعهد دان سميث “بينما يستمر إجمالي الرؤوس الحربية النووية في العالم في الانخفاض مع التفكيك التدريجي لأسلحة حقبة الحرب الباردة، فإننا للأسف نواصل رؤية زيادات سنوية في عدد الرؤوس الحربية النووية العاملة، ويبدو أن هذا الاتجاه من المرجح أن يستمر وربما يتسارع في السنوات المقبلة وهو أمر مقلق للغاية”.
وقد عانت دبلوماسية الحد من الأسلحة النووية ونزع السلاح من انتكاسات كبيرة في عام 2023، وفقا للتقرير؛ إذ أعلنت روسيا في فبراير/شباط 2023، أنها ستعلق مشاركتها في معاهدة ستارت، وهي آخر معاهدة متبقية للحد من الأسلحة النووية. وفي المقابل، علقت الولايات المتحدة أيضًا تبادل ونشر البيانات التي كانت المعاهدة تلزمها بنشرها.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، سحبت روسيا تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، بسبب “عدم التوازن” مع الولايات المتحدة، التي امتنعت عن التصديق على المعاهدة منذ فتح باب التوقيع عليها في عام 1996.
ويعلق مدير برنامج أسلحة الدمار الشامل في معهد ستوكهولم ويلفريد وان بقوله “لم نر الأسلحة النووية تلعب مثل هذا الدور البارز في العلاقات الدولية منذ الحرب الباردة، ومن الصعب أن نصدق أنه لم يمر سوى عامين منذ أكد زعماء الدول الخمس الكبرى المسلحة نوويا أن الحرب النووية لا يمكن كسبها ولا يجب خوضها أبدا”.
استعراض قوة
وفي استعراض نادر للقوة، وصلت غواصة روسية تعمل بالطاقة النووية، ومجموعة من القطع الحربية المرافقة إلى خليج هافانا في كوبا، في 12 يونيو/حزيران 2024، لتصبح على مسافة أقل من 100 ميل من الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، وهو ما ردت عليه واشنطن بإرسال غواصة نووية إلى خليج غوانتانامو.
وعلى الرغم من تأكيد كوبا أن الغواصتين غير مسلحتين بأسلحة نووية، وأن زيارة الأسطول الروسي كانت لمدة 5 أيام، فقد أعاد الحدث إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي، والتي كانت قد بلغت ذروتها عندما نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ نووية في كوبا عام 1962 مما جعل العالم على حافة حرب نووية.
في سياق متصل، كانت روسيا قد نفّذت تدريبات على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية قرب الحدود الأوكرانية في 21 مايو/أيار 2024، وتبلغ القدرة التفجيرية لهذه القنابل 360 كيلوطنا، وتعادل 30 ضعف قدرة القنبلة التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
وأعقبت موسكو ذلك بتدريبات مماثلة بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2024 قرب حدود الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) النرويج وفنلندا وبولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا.
وجاءت التدريبات بعد تصريحات من مسؤولين غربيين تشير إلى أنهم سيسمحون لأوكرانيا بشن هجمات في عمق الأراضي الروسية باستخدام أسلحة غربية.
تهديدات متبادلة
وسبقت هذه التدريبات تهديدات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنشر “صواريخ تقليدية” على مسافة قريبة من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إذا سمحوا لأوكرانيا بتوجيه ضربات في عمق روسيا بأسلحة غربية بعيدة المدى.
وقال بوتين إن “الغرب يخطئ إذا افترض أن روسيا لن تُقدِم أبدا على استخدام الأسلحة النووية”، محذرا أنه “لا ينبغي الاستخفاف بالعقيدة النووية للكرملين”.
وعندما سئل عن تصريحات الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ التي دعا فيها إلى السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الغربية لضرب الأراضي الروسية، حذر بوتين من أن السماح لكييف بضرب روسيا بأسلحة أكثر قوة هو تصعيد خطير يجر الغرب نحو حرب مع روسيا.
وردا على سؤال عن خطر نشوب حرب نووية، قال بوتين إن العقيدة النووية الروسية تسمح باستخدام مثل هذه الأسلحة.
وتحدد العقيدة النووية الروسية المنشورة في عام 2020 الشروط التي بموجبها ينظر الرئيس الروسي في استخدام سلاح نووي، وبشكل أساسي يكون اللجوء إلى هذا ردا على هجوم بأسلحة نووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل أو على استخدام الأسلحة التقليدية ضد روسيا “عندما يصبح وجود الدولة ذاته مهددا”.
المكانة الدولية
ويسلط هذا الخطاب والسلوك الروسي الضوء على النظرة إلى السلاح النووي بصفته أحد ركائز المكانة الدولية -التي تسعى جاهدة لاستعادتها-، وهو ما أشارت له وثيقة السياسة الخارجية للاتحاد الروسي التي أصدرها الكرملين في 31 مارس/آذار 2023.
ونصت الوثيقة على أن مكانة روسيا في العالم تتحدد من خلال مواردها الكبيرة في جميع مجالات الحياة، ووضعها كعضو دائم في مجلس الأمن، والمشاركة في المنظمات والجمعيات الحكومية الدولية الرائدة، وكونها إحدى أكبر قوتين نوويتين.
كما ذكرت الوثيقة محددات أخرى، تتعلق بمساهمة روسيا في النصر بالحرب العالمية الثانية ودورها النشط في تشكيل النظام المعاصر للعلاقات الدولية والقضاء على النظام العالمي للاستعمار، مما “يجعلها أحد المراكز السيادية للتنمية العالمية التي تؤدي مهمة فريدة تاريخيا تهدف إلى الحفاظ على توازن القوى العالمي وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب”.
وكان العمل على تغيير شكل النظام الدولي محورا للسياسة الخارجية الروسية منذ صعود بوتين إلى رأس هرم السلطة في العام 2000.
حافة الهاوية
وعلى الضفة المقابلة، يرفع حلف الناتو استعداداته النووية منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث أكد رؤساء دول وحكومات الناتو في القمة الاستثنائية المنعقدة في 24 مارس/آذار 2022، أن الناتو “سيعزز بشكل كبير موقفه الردعي والدفاعي على المدى الطويل وسيطور المجموعة الكاملة من القوات والقدرات الضرورية للحفاظ على مصداقية الردع والدفاع”.
والتزم القادة كذلك بتعزيز الاستعداد لمواجهة التهديدات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية.
وفي قمة فيلنيوس لرؤساء الدول الأعضاء في الحلف -التي انعقدت بتاريخ 12 يوليو/تموز 2023- أكد “الحلفاء” مجددًا أن الناتو سيتخذ جميع الخطوات اللازمة لضمان مصداقية وفعالية وسلامة وأمن مهمة الردع النووي.
ويتضمن ذلك الاستمرار في تحديث القدرة النووية للحلف وتحديث التخطيط لزيادة مرونة القوات النووية للحلف وقدرتها على التكيف، مع ممارسة سيطرة سياسية قوية في جميع الأوقات.
ويرسم هذا الاستنفار مشهدا غير مسبوق للتوتر النووي منذ عقود، وهو ما حذر منه دان سميث، مدير معهد ستوكهولم الدولي للسلام بقوله في التقرير السنوي للمعهد: “نحن الآن في واحدة من أخطر الفترات في تاريخ البشرية، فهناك مصادر عديدة لعدم الاستقرار؛ كالمنافسات السياسية، وعدم المساواة الاقتصادية، والاضطراب البيئي، وسباق التسلح المتسارع. إن الهاوية تلوح في الأفق، وقد حان الوقت للقوى العظمى أن تتراجع”.