الموروث والإبداع
يقول حكيم العرب، الوالد المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه: «من ليس له ماضٍ، ليس له حاضر ولا مستقبل».
وكثيراً ما أتساءل: هل التراث هو ما ورثناه عن أجدادنا فقط وننقله إلى الأجيال القادمة كما هو، أم أن علينا دوراً في صناعة تراث وطني جديد يمكن للأجيال القادمة استكشافه بعد مئات السنين؟ وبقيت أبحث عن الإجابات من خلال استكشاف آراء بعض الفلاسفة والعلماء الذين تناولوا موضوع التراث ودوره في تشكيل الهوية الثقافية.
وجدت أن الفيلسوف والمفكر الإيرلندي إدموند بيرك (Edmund Burke)، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن فكرة المحافظة على التراث كما هو، يرى أن التقاليد والعادات الموروثة هي عمود فقري للمجتمع، وهي التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل. ووجدت في كتابه تأملات في الثورة في فرنسا، أنه يعارض التغيير الجذري ويؤكد أهمية الحفاظ على التراث التقليدي كما هو، معتبراً أن الحكمة المتراكمة عبر الأجيال يجب أن تُحترم وتُمرر كما هي.
أما الكاتب والفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد هردر (Johann Gottfried Herder)، وفي كتاباته حول فلسفة التاريخ والثقافة، فإنه يؤكد أن كل أمة تمتلك تراثها الفريد، والذي يجب أن يُحافظ عليه ويُمرر من جيل إلى جيل. باعتبار أن التراث هو انعكاس للروح القومية، ويجب أن يُحافظ عليه كما هو لضمان استمرارية هذه الروح.
ولكن أيضاً، وباستطلاع آراء الفلاسفة الحديثين، الذين ينظرون إلى التراث كمفهوم (ديناميكي)، فإننا نجد أن عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني غيدنز (Anthony Giddens)، وفي كتابه نتائج الحداثة، وضمن حديثه عن الحداثة والتغيير الاجتماعي، فإنه يشير إلى أن المجتمعات الحديثة تواجه ضغوطاً مستمرة للتغيير، مما يتطلب إعادة تفسير التراث بطرق تتناسب مع الزمن الحالي أي أن التراث، بالنسبة لغيدنز، ليس مجرد موروث ثابت وغير قابل للتعديل أو التحديث، بل هو عملية ديناميكية تُمكن الأجيال الحالية من الإضافة إليه وإعادة تشكيله وفقاً للاحتياجات المعاصرة.
ونجد أيضاً أن المؤرخ والمفكر البريطاني إريك هوبسباوم (Eric Hobsbawm)، وفي كتابه اختراع التقاليد يناقش كيف تُخترع التقاليد أحياناً لتلبية احتياجات معاصرة. ويشير إلى أن التراث يمكن أن يُعاد تشكيله أو حتى اختراعه من جديد، مما يعزز من دور الأجيال الحالية في صناعة تراث جديد يمكن للأجيال القادمة استكشافه.
وحسب تباين الآراء، فإنه لا بد من وجود نظريات تُعنى بالتفاعل بين الموروث والإبداع، أي الجمع بين الأصالة والتجديد، فنجد مثلاً أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (Martin Heidegger)، يشير إلى أن التراث هو جزء من كينونة الإنسان، وهو مرتبط بجذوره التاريخية. ومع ذلك، فإنه يشير إلى أن كل جيل يمتلك القدرة على إعادة تفسير هذا التراث والتفاعل معه بطريقة تُمكنه من الاستمرار في الحاضر.
بناءً على هذا الفهم، يمكن القول إن دورنا ليس فقط في الحفاظ على التراث، بل في جعله حياً وقادراً على التفاعل مع متطلبات العصر الحديث، ونجد ذات الفكرة لدى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، الذي يرى، من خلال مفهوم رأس المال الثقافي، أن التراث يشكل جزءاً من رأس المال الثقافي الذي يمكن أن يتغير ويتطور بمرور الزمن. وهذا الفهم يدعو إلى دور فاعل للأجيال الحالية في إعادة تشكيل التراث، حيث يمكن أن يُضاف إليه عناصر جديدة تعكس تطور المجتمع وثقافته.
نعود ونسأل بجدية: هل علينا فعل شيء ما؟ نعم، من وجهة نظري، لا شك في أن هناك أدواراً عدة ومسؤوليات أكثر علينا، نحن أبناء العصر الحالي، في الإمارات، وفي كل مكان، علينا أن نحمي ونصون تراث أجدادنا، وننقله نقياً إلى الأجيال القادمة، وكذلك علينا مسؤوليات صناعة تراث وطني جديد يمكن للأجيال القادمة استكشافه بعد مئات السنين.
ولذلك علينا أن نتبنى نهجاً يجمع بين الحفاظ على الأصالة والتقاليد من جهة، وبين الابتكار والتجديد من جهة أخرى من خلال إحياء التقاليد القديمة بأساليب جديدة، وإضافة عناصر جديدة إلى التراث، وتعزيز التعليم الثقافي، وتشجيع المشاركة المجتمعية، وغيرها.