إطلاق العنان للفرص الاقتصادية بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط
في ظل أجواء الاضطرابات التجارية المتزايدة، أصبح التنوع الاقتصادي موضوعاً مهيمناً في جميع أنحاء المنطقة. وعلى هذه الخلفية، يكتسب ممر رابطة دول جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط أهمية متزايدة، حيث تتمتع المنطقتان بإمكانات اقتصادية وعلاقات تواصل كبيرة وآفاق نمو قوية وديموغرافية مواتية.
وعلى الرغم من أن الروابط بين كتلة رابطة دول جنوب شرق آسيا المكونة من 10 أعضاء ومنطقة الشرق الأوسط ليست واسعة النطاق مثل تلك القائمة مع مناطق أخرى، إلا أن هناك أسباباً تدعو للاعتقاد بوجود قدر كبير من الإمكانات غير المستغلة.
لنأخذ التجارة على سبيل المثال. في الوقت الحاضر، فإن التعاملات التجارية الثنائية، التي بلغ مجموعها أكثر من 126 مليار دولار في عام 2023، تبدو غير متساوية. وبصرف النظر عن بعض المنتجات، فإن صادرات رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط لا تزال محدودة إلى حد ما. في حين نمت صادرات رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) على مر السنين، فإن المستوى المطلق للصادرات لا يمثل سوى ثلث إجمالي الواردات من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ومن ناحية أخرى، تأتي 6% من واردات رابطة دول جنوب شرق آسيا، بالمتوسط، من منطقة الشرق الأوسط. وهي تتركز بشكل كبير في مجال الطاقة. وفي حين أن الواردات غير النفطية قد ارتفعت بشكل مطرد على مر السنين، إلا أن الواردات النفطية تهيمن بحصة تقترب من 80%.
ومن الجدير تأكيد دور سنغافورة كواحدة من أكبر ثلاثة مراكز للتجارة وتكرير النفط في العالم، على الرغم من عدم توفر أي موارد هيدروكربونية لديها. ويأتي حوالي نصف واردات سنغافورة من النفط الخام من منطقة الشرق الأوسط، وخاصة من الإمارات (26%) وقطر (13%).
ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فإن سنغافورة تتمتع بطاقة إنتاجية لتكرير النفط تبلغ 1.3 مليون برميل من النفط يومياً، قبل تصدير منتجاتها البتروكيماوية المكررة إلى جيرانها الآسيويين. وتستهلك دول رابطة دول جنوب شرق آسيا، إلى جانب الصين، حصة الأسد من صادرات سنغافورة من البتروكيماويات.
ومع ذلك، يشير الاعتماد الكبير على تجارة الطاقة إلى فرص كبيرة لرابطة دول جنوب شرق آسيا في المجال غير المتعلق بالطاقة.
إذ تشير بيانات مركز التجارة الدولية إلى أن الصادرات المحتملة غير المحققة في المنطقة تقترب من 30 مليار دولار، على قدم المساواة مع صادراتها الفعلية. ومن المتوقع أن تستفيد المعدات الإلكترونية والآلات الكهربائية مع تعميق رابطة دول جنوب شرق آسيا لتكاملها ضمن شبكة توريد الإلكترونيات على المستوى العالمي. وفي نفس الوقت، تقدر إمكانات التصدير غير المحققة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا بنحو 18 مليار دولار، حيث تعتبر المنتجات البلاستيكية والمواد الكيميائية والمعادن من الصناعات التصديرية الواعدة.
ومع بقاء متوسط التعريفات الجمركية في كلتا الكتلتين مرتفعاً، يتم بذل جهود متزايدة لتعزيز فرص التجارة بين المنطقتين. فعلى سبيل المثال، تعتبر سنغافورة الدولة الوحيدة في رابطة دول جنوب شرق آسيا التي وقعت اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، بينما قامت دول أخرى بإطلاق أو توقيع اتفاقيات تجارة حرة فردية.
أما على المستوى الإقليمي، فمن المشجع قيام ماليزيا باقتراح إبرام اتفاقية تجارة حرة بين رابطة دول جنوب شرق آسيا ومجلس التعاون الخليجي في شهر أكتوبر الماضي. وعلى الرغم من أن المفاوضات قد تستغرق وقتاً، إلا أن المحادثات الجارية تسير في الاتجاه الصحيح.
وبصرف النظر عن التجارة، فإن الاستثمار يشكل أيضاً مجالاً ناشئاً للتعاون بين المنطقتين، وخاصة بالنظر إلى القوة المالية التي تتمتع بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من التدفقات المالية يتخذ شكل استثمارات في المحافظ الاستثمارية وليس في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومن منظور الاستثمار الأجنبي المباشر إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا، فإن المستثمرين الآسيويين يهيمنون، إذ تشكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حصة هامشية. إلا أنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أين تتدفق استثمارات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا.
ويذهب ثلث هذه الاستثمارات إلى قطاع العقارات في رابطة دول جنوب شرق آسيا، يليه قطاعا التمويل والتعدين. وقد كان جاذباً للانتباه تزايد الاستثمارات من جانب المستثمرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بقطاعات السياحة والطاقة المتجددة والأغذية في رابطة دول جنوب شرق آسيا في السنوات الأخيرة.
ومع ذلك، فإن تدفقات المحافظ الاستثمارية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتصدر المشهد الآن. وعلى الرغم من محدودية توافر البيانات، فإن الاتجاه واضح: حيث تعتبر ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة من المستفيدين الرئيسيين. فعلى سبيل المثال، سنغافورة ليست بغريبة على التدفقات الاستثمارية من شركات الأسهم الخاصة وصناديق الثروة السيادية في منطقة الشرق الأوسط.
وبالإضافة إلى تدفقات السلع والاستثمار، فإن التكامل بين السكان يعتبر محوراً رئيسياً آخر. وباعتبارها منطقة تقدم مجموعة متنوعة من المنتجات السياحية، فقد اكتسبت رابطة دول جنوب شرق آسيا شعبية بين السياح من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ زمن الجائحة.
وتبرز تايلاند في هذا السياق، حيث تجتذب أكثر من نصف السياح القادمين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذين زاروا المنطقة في عام 2023 والبالغ عددهم 1.1 مليون. وفي حين أن عدد الزوار لا يزال محدوداً، إلا أن القوة الشرائية تعتبر مهمة أيضاً. ولا يميل السياح من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى البقاء لمدة أطول من متوسط السائحين فحسب، بل إنهم ينفقون أيضاً 30% أكثر – ما يقرب من 200 دولار في اليوم.
ويمكن رؤية اتجاه مماثل في سنغافورة. حيث ارتفعت زيارات السياح القادمين من منطقة الشرق الأوسط في العام الماضي إلى 130 ألف سائح، وهو ما يقرب من مستويات ما قبل الجائحة، بينما بلغ إجمالي أعداد السياح 70% فقط من إجمالي عام 2019. ونظراً لكون سنغافورة لا تعتبر وجهةً سياحيةً تقليدية في حد ذاتها، بل هي مركز عالمي للسفر بغرض العمل، فمن المرجح أن يتم تحديد تبادلاتها بين السكان مع منطقة الشرق الأوسط من خلال زيادة التواصل التجاري.
وعلى الرغم من أن الروابط بين رابطة دول جنوب شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط ليست بعيدة المدى مثل الروابط القائمة بين مناطق أخرى في الوقت الحالي، فإن الرحلة لا تتوقف هنا. فما زال هناك الكثير من الإمكانات والفرص غير المستغلة، ومن المتوقع أن تستفيد المنطقتان من المزيد من علاقات التواصل والترابط.