بدون أحكام سابقة!
كيف نكوّن قناعاتنا وأفكارنا الخاصة؟ وكيف نكون مرآة حقيقية لذواتنا، لحقيقتنا وليس لأشخاص آخرين، سواء في سلوكنا اليومي والمعتاد، أو في الأحكام التي تصدر عنا تجاه الأشخاص أو القضايا المطروحة، وكيف تعبر العلاقات التي نختارها ونرتبط بها عن حقيقتنا واختيارنا فعلاً؟ وهل ذلك ممكن ومنطقي أصلاً؟ ألا يتأثر الإنسان بمحيطه وبالأشخاص الذين يتعامل معهم، وبالكتب التي يقرأها و.. ألا يدخل كل هذا في تكوينه الفكري والشخصي؟
أتذكر أنني زرت باريس ولندن في وقت متأخر قياساً بالعديد ممن أعرفهم، ورغم افتتان الجميع بهاتين المدينتين، إلا أنني لم أحبهما، ولم أستطع تكرار زيارتهما، عندما ذهبت إليهما لم أحمل أية أفكار أو أحكام مسبقة، لم أنظر إليهما بعيون الآخرين المنبهرة، ولا بأفكار البعض العدائية، ذهبت كسائحة عادية تماماً، لكنني لم أشعر بأنهما ستكونان ضمن مدني المفضلة، ولذلك تفصيل آخر قد أعود إليه يوماً، لكنني اليوم، وبعد أكثر من 30 عاماً من الأسفار والمدن، أستطيع أن أقول إنه قد تكوّنت لدي ثقافة سفر بسبب التجارب، أكثر من أي سبب آخر!
تجارب سفر مختلفة قمت بها للكثير من المدن، بعضها كنت أعرفها من خلال تجارب الأصدقاء، وبعضها من دون أي ترتيبات أو انطباعات، ومدن ذهبت إليها بالصدفة، ومدن رافقت فيها أهلي وصديقاتي، ومدن ذهبت إليها للدراسة، وحضور مؤتمرات ومعارض، كل هذه التجارب خلقت لدي انطباعاتي وأحكامي ورؤيتي الخاصة للمدن والسفر، وحين طلب مني البعض نصيحة تتعلق بالسفر كتبت: سافر، لكن دون أحكام مسبقة، اصنع أحكامك بنفسك، فنحن كشرقيين لدينا ثقافة الأفكار المسبقة تجاه كل شيء نتعامل معه: الناس، الأمكنة، الغرباء، الأفلام، الكتب، مؤسسات العمل… إلخ!
ينقل عن ديكارت (أبو الفلسفة العقلانية الحديثة) أنه قال: «لا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أنني أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك».