إسرائيل وكشمير.. خيوط العلاقة بين الصهيونية واليمين الهندوسي

في ظل التصاعد المستمر للتوتر في إقليم كشمير، ومع تعقّد الأوضاع الأمنية والسياسية فيه، برزت العلاقة الهندية الإسرائيلية كعامل مؤثر يتجاوز حدود التعاون التقليدي بين البلدين، ليتحول إلى منصة لتوظيف الصراعات الإقليمية وتحقيق المصالح المشتركة.
فبينما تستمر الهند في إحكام قبضتها الأمنية في كشمير بحجة مكافحة الجماعات المسلحة، وجدت إسرائيل في هذه القضية فرصة لتعزيز روايتها بشأن “الإرهاب” وربط المقاومة الفلسطينية بالحركات المسلحة الكشميرية، مما أتاح لها ليس فقط بناء جسور دبلوماسية وأمنية مع الهند، ولكن أيضا للتأثير على النخبة السياسية والإعلامية هناك.
وقد لعب السفير الإسرائيلي في الهند، رؤوفين عازر، دورا رئيسيا في هذا السياق، من خلال تصريحاته التي تربط بين هجمات كشمير وعمليات المقاومة الفلسطينية، في محاولة لتصوير الطرفين كتهديد مشترك يواجه الهند وإسرائيل على حد سواء.
حملات مكثفة
هذه السردية دعمتها شبكة من العلاقات الإعلامية والسياسية التي أسستها إسرائيل داخل الهند، مما أسهم في توجيه الرأي العام نحو دعم التحالف مع تل أبيب باعتباره جزءا من مواجهة “الإرهاب الإسلامي”.
واستغلت إسرائيل علاقاتها الوثيقة مع الحكومة الهندية واليمين الهندوسي لتعزيز روايتها بشأن الصراع مع الفلسطينيين، ونظمت رحلات لصحفيين هنود إلى إسرائيل، ورتبت لقاءات مع الجيش الإسرائيلي، وعقدت مؤتمرات صحفية لتوجيه الرأي العام الهندي.
كما شهدت منصات التواصل الاجتماعي تنسيقا واضحا بين حسابات اليمين الهندي المؤيدة لإسرائيل، التي عملت على نشر معلومات مضللة تربط بين حماس والجماعات الكشميرية المسلحة وتروج للتحالف مع إسرائيل باعتباره ضرورة إستراتيجية.

تاريخ العلاقات
شهدت العلاقات بين الهند وإسرائيل تطورا تاريخيا متقلبا، بدءا من فترة البرود والتوتر وصولا إلى شراكة إستراتيجية متعددة الأبعاد، وتعود بدايات هذه العلاقة إلى منتصف الستينيات، حينما بدأت إسرائيل في بناء اتصالات مع الأحزاب القومية الهندوسية، رغم القطيعة السياسية التي سادت خلال حكم رئيسي الوزراء جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي.
كانت نقطة التحول الكبرى في عام 1992، عندما قررت الهند وإسرائيل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، وهو ما فتح الباب أمام تعاون واسع شمل مجالات التجارة والدفاع والتكنولوجيا والسياحة.
ومنذ تولي رئيس الوزراء ناريندرا مودي منصبه في عام 2014، شهدت العلاقات قفزة نوعية، تمثلت في زيارة مودي التاريخية لإسرائيل عام 2017 التي كانت الأولى من نوعها لرئيس وزراء هندي، أعقبها زيارة بنيامين نتنياهو للهند في 2019.
وتُعد إسرائيل اليوم موردا رئيسيا للتكنولوجيا العسكرية للهند، ويشمل التعاون بين الجانبين مجالات متعددة، بدءا من الأمن والدفاع وصولا إلى السياحة والدبلوماسية، مع تبادل الزيارات على أعلى المستويات.
التعاون في المحافل الدولية
تميزت العلاقات الهندية الإسرائيلية بنمط من التعاون المتبادل في المحافل الدولية، حيث دعمت الهند إسرائيل في عدد من القضايا التي تعرضت فيها للإدانة الدولية، بما في ذلك التصويت ضد قرارات تُساوي بين الصهيونية والعنصرية، بينما قدمت إسرائيل دعما سياسيا للهند في نزاعاتها مع باكستان، وخاصة في قضية كشمير.
ورغم أن الهند كانت في الماضي متحفظة في علاقتها مع إسرائيل، حيث صوتت ضد خطة تقسيم فلسطين عام 1947 وضد قبول إسرائيل دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، فإن هذا الموقف بدأ يتغير تدريجيا.
اعترفت الهند بإسرائيل رسميا عام 1950، وسمحت بفتح قنصلية إسرائيلية في مومباي عام 1953، ومع ذلك، ظل التعاون محدودا وسريا لفترة طويلة.
ومع مرور السنوات، تخلت الهند عن تحفظها التقليدي، وبدأت تتحرك باتجاه تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما ظهر بوضوح في امتناعها عن التصويت في مجلس حقوق الإنسان على قرار يدين إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة عام 2014، وكذلك التزامها الصمت في ديسمبر/كانون الأول 2017 عندما اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
هذه المواقف عكست تغيرا جوهريا في الدبلوماسية الهندية، التي باتت ترى في إسرائيل شريكا إستراتيجيا وليس مجرد دولة عادية.
العدو المشترك
ترتبط سياسات رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي تجاه إسرائيل بشكل وثيق بتوجهات حزبه القومي الهندوسي “بهاراتيا جاناتا”، الذي يرى في إسرائيل نموذجا للدولة القومية القوية ذات الهوية الوطنية الواضحة.
وبالنسبة لمودي، فإن إسرائيل ليست مجرد شريك تجاري أو دفاعي، بل تمثل تجربة ناجحة لدولة استطاعت الجمع بين الهوية الدينية والقومية، وهو ما ينسجم مع رؤيته السياسية التي ترتكز على تعزيز الهوية الهندوسية في الهند.
هذا التقارب الأيديولوجي تُرجم عمليا إلى شراكة إستراتيجية، وبرزت الزيارات المتكررة للمسؤولين الهنود إلى إسرائيل، التي أكدت متانة الشراكة الإستراتيجية، مع التركيز على التعاون في مجالات الأمن والتكنولوجيا والزراعة.
وبينما تخلت الهند تدريجيا عن خطابها التقليدي الداعم للقضية الفلسطينية، رحبت إسرائيل بهذا التحول، معتبرة الهند سوقا إستراتيجية لتكنولوجيتها الدفاعية، ووسيطا مهما لتعزيز حضورها في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
وكان الجانب الأكثر خطورة في هذا التحالف هو توافق الطرفين على رؤية مشتركة تجاه المسلمين، حيث بات العداء تجاههم يشكل ركيزة أساسية لهذا التحالف.
ففي إسرائيل، يُنظر إلى العرب المسلمين كتهديد دائم، وفي الهند، يُصور المسلمون كأقلية مشبوهة مرتبطة بالإرهاب والانفصالية، وهو خطاب غذته الحملة القومية الهندوسية بقيادة مودي.
هذه الرؤية الأيديولوجية انعكست بوضوح في السياسة الخارجية الهندية، التي باتت ترى في إسرائيل شريكا أيديولوجيا قبل أن تكون شريكا تجاريا أو دفاعيا، وهو ما عزز التقارب بينهما.

من التضامن إلى التحريض
“إنني مصدوم من أخبار الهجمات الإرهابية في إسرائيل، صلواتنا مع الضحايا الأبرياء وعائلاتهم، ونحن متضامنون مع إسرائيل في هذه الساعة الصعبة”، بهذا التغريدة أدان مودي عملية طوفان الأقصى.
كما تبنى وزير الخارجية الهندي الموقف نفسه على الفور، محذرا من أن “الهند قد تواجه المصير ذاته إذا لم تقف في وجه التطرف”، في إشارة واضحة إلى الربط بين المقاومة الفلسطينية والجماعات المسلحة في كشمير، وهو خطاب روجت له إسرائيل بقوة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد امتنعت الهند عن التصويت لصالح قرار وقف إطلاق النار في غزة أمام الأمم المتحدة يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول، مبررة موقفها بأن القرار “لا يتضمن إدانة صريحة لهجوم الفصائل الفلسطينية”.
داخليا، اتخذت الحكومة الهندية مواقف صارمة لدعم إسرائيل، حيث سمحت بتنظيم تظاهرات مؤيدة لتل أبيب، بينما قمعت بشدة الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وتم حظر العديد منها واعتقال عدد من المتظاهرين.
ومع استمرار حرب غزة، بدا واضحا أن الهند، التي كانت تاريخيا داعمة للقضية الفلسطينية، قد انتقلت إلى موقف أكثر انسجاما مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مدفوعة بتوجهات الحكومة القومية الهندوسية بزعامة ناريندرا مودي، التي ترى في إسرائيل نموذجا لدولة قوية تواجه “الإرهاب” بقبضة حديدية.
ولم يعكس موقف مودي صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، اتجاه الحكومة الهندية فحسب، بل عبَّر عن المزاج العام لأنصار الحركة القومية الهندوسية، التي تعتبر تحالفها مع إسرائيل واحدة من أهم السِّمات المُميزة للسياسة الخارجية الهندية، ويعكس هذا الموقف تراجع ثوابتها التي كانت تاريخيا توازن بين علاقاتها مع إسرائيل ودعمها للقضية الفلسطينية.
ربط المقاومة الفلسطينية بكشمير
استغلت إسرائيل الهجوم الأخير في كشمير لتحريض الهند ضد باكستان، حيث صرح السفير الإسرائيلي في الهند، رؤوفين عازر، بأن “الهجوم في كشمير يعكس النزعة الدموية نفسها التي شهدناها في السابع من أكتوبر”، مشبها ما حدث هناك بهجمات حماس.
وقال السفير “لديكم وضع مشابه لما جرى عندنا، مجموعة من الناس ذاهبة إلى حفل موسيقي أو إلى عطلة ثم تُقتَل وتُذبَح. إنها النزعة الدموية نفسها، والتأويل الديني المُختَل نفسه. إنها ظاهرة يجب أن تُستأصل بالكلية”.
هذه التصريحات جاءت ضمن حملة أوسع قادتها إسرائيل لربط المقاومة الفلسطينية بـ”الإرهاب العابر للحدود” الذي تواجهه الهند، مما يعزز السردية القائلة إن البلدين يواجهان عدوا مشتركا.
كما أن هذه التصريحات لاقت ترحيبا من بعض الأوساط السياسية في الهند، خاصة بين القوميين الهندوس، وعملت وسائل الإعلام الهندية الموالية للحكومة على نشر تقارير تربط بين غضب المسلمين العالمي بسبب المجازر في غزة وتصاعد الهجمات في كشمير، مدعية أن صور العنف في غزة “ساهمت في رفع مستوى التعبئة لدى الجماعات المتطرفة العاملة في كشمير”.
وصرح المتحدث باسم الحزب الحاكم فيكرام باترا بأنه “من الواضح أن هناك استغلالا للأحداث الدولية الجارية، مثل غزة، لإثارة مشاعر الكراهية ضد الهند، وهذا لا يمكن فصله عن الهجوم الإرهابي الأخير”.

النخبة الإعلامية
عملت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة على تعزيز نفوذها في الأوساط الإعلامية والسياسية الهندية، مستغلة تقاطع المصالح الأيديولوجية مع الحكومة القومية الهندوسية بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا.
وسعت إلى تشكيل الرأي العام الهندي من خلال إستراتيجيات متعددة تشمل استضافة الصحفيين، والضغط على وسائل الإعلام، وتنظيم الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر المعلومات المضللة، بهدف تعزيز دعمها في الهند وتوجيه السردية الإعلامية بما يتماشى مع مصالحها.
ونُظمت رحلات لصحفيين هنود إلى إسرائيل، وأجرت جولات لهم مع جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي يناير/كانون الثاني 2024، نظّمت منظمة “شراكة” الإسرائيلية جولة إعلامية لوفد من الصحفيين والمؤثرين الهنود، لزيارة مواقع متأثرة “بهجمات حماس في إسرائيل”، شملت الجولة زيارات لمواقع مثل مستوطنة كيبوتس كفار عزة ومتحف ياد فاشيم، بهدف نقل الرواية الإسرائيلية إلى الجمهور الهندي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، اتهم القنصل العام الإسرائيلي في مومباي، كوبي شوشاني، الصحفي الهندي محمد زبير بنشر “أخبار كاذبة” حول غزة، داعيا إياه لزيارة إسرائيل للتثبت من الحقائق.
وتشهد وسائل التواصل الاجتماعي “تآزرا” بين حسابات اليمين الهندي المؤيدة لإسرائيل وتنشر رسائل تربط بين حماس والجماعات المسلحة في كشمير، وتروج لأفكار مشتركة بين الهندوسية واليهودية.
كما أن الكثير من الأخبار الكاذبة والتغريدات المنتشرة على نطاق واسع تأتي من صحفيين هنود لهم علاقة بإسرائيل، وتستخدم تلك الحسابات مزاعم مثل إنقاذ إسرائيل للهند خلال حرب كارغيل عام 1999 مع باكستان.
كما أن المعلومات المضللة المنتشرة على مجموعات واتساب “تُستخدم لإثارة الخوف من المسلمين بين الهندوس”، وخاصة في “المنطقة الناطقة بالهندوسية” في الهند، وبينما يمكن اعتبار الروايات المنتشرة على إكس “خطاب كراهية”، فإن المحتوى المنتشر على واتساب يندرج تحت “خطاب الخوف”.
الشراكة الاستخبارية
شهدت العلاقات العسكرية بين الهند وإسرائيل تطورا متسارعا، بدءا من دعم إسرائيل للهند في حربها مع الصين عام 1962، مرورا بحروبها مع باكستان في 1965 و1971، وصولا إلى شراكة إستراتيجية جعلت الهند أكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الإسرائيلية، إذ تستحوذ على 49% من إجمالي صادرات إسرائيل الدفاعية، بقيمة بلغت 15 مليار دولار.
هذا التعاون لم يقتصر على شراء الأسلحة، بل امتد إلى مجالات تكنولوجية حساسة، من أبرزها صفقة برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” عام 2021، التي أثارت جدلا واسعا داخل الهند، حيث كُشِف عن استخدام البرنامج للتجسس على الصحفيين والناشطين الحقوقيين، مما وضع حكومة ناريندرا مودي في موقف محرج، وأثار تساؤلات حول احترامها للحريات المدنية.
ويشمل الدعم العسكري الإسرائيلي للهند توريد كميات كبيرة من السلاح والذخيرة والوسائل التكنولوجية، وكشفت الصناعات الجوية الإسرائيلية عن بيع منظومة دفاع جوية للهند بقيمة 777 مليون دولار من طراز برق8.

إسرائيل والنزاع الهندي الباكستاني
لم تكتف إسرائيل بتعزيز قدرات الهند العسكرية، بل امتد تأثيرها إلى ساحة النزاع الهندي الباكستاني، حيث وثّقت تقارير استخدام الهند لصواريخ “سبايس” الإسرائيلية في ضرب مواقع باكستانية، كما اعتمدت الهند على منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية “سبايدر” لحماية أجوائها من الهجمات الباكستانية.
دور إسرائيل في هذا النزاع لم يقتصر على توريد السلاح، بل امتد إلى المساهمة في صياغة النظرية الأمنية الهندية، من خلال تقديم المشورة والتدريب العسكري، وهو ما ظهر جليا خلال حرب كارغيل عام 1999، التي كشفت عن ثغرات في القدرات العسكرية والاستخبارية الهندية، دفعتها لتعزيز تعاونها مع إسرائيل.
يبدو أن التورط الإسرائيلي في المواجهة الباكستانية الهندية له جذور راسخة في ظل الشراكة الإستراتيجية بين إسرائيل والهند، وباتت تأخذ قطاعات أوسع في ضوء ما تعتبرانه تهديدات مشتركة.
كان ملف التطوير العسكري على رأس الأجندة الهندية، وهو واحد من الدوافع الرئيسية لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل تحت رئاسة وزراء ناراسيما راو عام 1992.
أدت عوامل إضافية في نهاية التسعينيات إلى تعميق الشراكة العسكرية مع إسرائيل، أولها الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة مؤقتا على التعاون العسكري مع الهند بعد تجاربها النووية عام 1998، مما دفع نيودلهي للبحث عن بدائل، وكانت إسرائيل الخيار الأمثل.
وثانيها وصول حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي للسلطة لأول مرة، وابتعاده أكثر عن الناخبين المسلمين وأحزاب اليسار.
وثالثا وقوع حرب جديدة مع باكستان عام 1999 هي حرب كارغيل، التي تكشَّفت فيها مكامن خلل عسكرية واستخباراتية في تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التي تمتَّعت بالدعم الأميركي وبانحياز الصين نظرا للتنافس التاريخي بين الصين والهند.