“لي يدان لأكتب”.. ناجون من المحرقة يدونون يومياتهم في “غزة تكتب”
صدر عن دار تدوين للنشر والتوزيع في عمان كتاب “لي يدان لأكتب” شهادات من داخل غزة، وهو الكتاب الأول ضمن مشروع “غزة تكتب”، الذي أطلقه الشاعر موسى حوامدة مؤسس الدار بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين ومركز ماهر الصراف الثقافي تحت التأسيس، وعدد من الشخصيات الوطنية والثقافية بينهم الفنانة جولييت عواد، والدكتور طارق سامي خوري، وإيميل الغوري، وأحمد ديباجة، وأسعد عبدالرحمن، وأكرم أبو علان، وجوني منصور، وريما ملح، وعمار ملحم، وجمال حجار، وألدو (نيقوسيا-إيطاليا)، ومحمد حقي صوتشين (تركيا)، وكمال ميرز، وغيرهم.
وقد أشرف على تحرير المادة -التي تم تدوينها من ناجين من محرقة غزة- الروائي المهندس سامر المجالي مدير تحرير دار تدوين، وعدد من الشعراء بينهم حسين جلعاد، وعبد السلام عطاري، وأمين الربيع، وأحمد سراج، والدكتور زيد علي الفضيل وأسامة رشيد حسن.
افتتح الكتاب بمقدمة دار تدوين جاء فيها:
منذ أعلنا عن تأسيس دار تدوين للنشر والتوزيع في عمان، كانت غايتنا تقديم مشروع ثقافي وإنساني كبير للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية في قطاع غزة منذ ما يقارب العام، ولأن المشروع ليس فرديا ولا غنيمة شخصية فضَّلنا أن يكون عملا جماعيا لكل مثقف حر لم ينحز إلا لضميره، وقد حباني الله بمتطوعين وداعمين وبعدد من الناشطين والمثقفين المحترمين المؤمنين بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وواجب المثقف العربي نصرة هذا الحق ودعمه بكل السبل.
ولأننا في الأردن نمتلك خصوصية معينة مع فلسطين وعلاقة أعمق من حدود سايكس بيكو ولأن الشعب الأردني بكل أطيافه لا يؤيد المقاومة فقط بل يعتبر نفسه جزءا منها، فضَّلنا أن ينطلق المشروع من عمان وبالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين.
هذا المشروع وجد لينجح، وليكون رسالة حضارية وإنسانية لدعم أهل غزة، أولا رسالة من مثقفي الأردن وشعبه، رسالة من مثقفي العالم العربي الأحرار، رسالة بليغة لا تقبل التصغير أو التفرقة… أو الإقصاء والتخوين، أو حتى حشرنا في وجهة نظر ضيقة متشجنة..
غزة هي العنوان غزة هي الوسيلة،
غزة هي الغاية.. تدوين دار نشر عربية حرة ..
مشروع كتابات غزة مشروع ثقافي عربي مستقل وواضح، لا أجندات ولا غايات إلا انتصار الحق في فلسطين.
وكتب الشاعر موسى حوامدة مقدمة للكتاب تحت عنوان، لي يدان لأكتب قال فيها:
كل ما جمعناه وما استطعنا الوصول إليه من كتابات، لا يحمل نزعة عنصرية ضدّ أحد، بل لا يحمل كراهية بالمعنى البشع الذي تحمله قطعان المجرمين وعتاة الصهاينة.
نحن نحلم بتحرير إنسانيتنا دون دم وقتل وجثث.
نحن لا نملك إلا الأمل والتحدي.
لا نملك أسلحة ذرية أو بيولوجية أو نووية، ولسنا قوة عظمى، لكننا صبر أسطوري، بشر طبيعيون، شعب صغير يريد الخلاص والحرية والركض في الشوارع دون خوف من قصف، يريد النوم في العراء أو البيوت دون قذائف أميركية تصهر المعادن قبل البشر.
نريد وقف الهمجية، وقف الوحش الذي لا يريد أن يعترف بحق هذا الشعب في بلاده وشمس بلاده. ندرك أن ثمن الاعتراف بحقنا في النضال ليس لصالحه، وما هي المصلحة العليا لهذا الكيان؟ إنها ببساطة اجتثاث أرواحنا وأجسادنا من رحم أرضنا الأزلية، ومسح تاريخ معاناة الهجرة واللجوء، وإظهار نفسه بمظهر الضحية في العالم، أما نحن -بنظره- فلسنا بشرا نتألم، بل حيوانات بشرية، بحسب وصف يوآف غالانت، وهو يعبر عن عقليته التلمودية المتطرفة.
هذه اليوميات ستُظهر من هم البشر الحقيقيون، ومن هم الوحوش القتلة، من هم الضحايا ومن هم المجرمون، ومن هم محبو الحياة وصناعها ومن هم أعداؤها.
هذه الكتاب صنعته همجية الاحتلال ووضاعته واحتقاره للإنسانية، هذا الكتاب برهافة كلماته، صيغ بأصابع الطيبين في غزة، بدموع المكلومين وحزن الأمهات والآباء على من فقدوا، بحزن الجيران على جيرتهم، بحزن الملكوت على بيوت الهناء التي دمرت، وعلى أحياء المحبة التي دُكَّت من أساساتها، بحزن الصبايا على أيام ما قبل الإبادة. هذه الحياة الصعبة، في ظل الحصار والتجويع والمنع والقهر، وحملة التطهير العرقي والإبادة ومسح معالم الحياة حتى لا تعود المنطقة صالحة للعيش، فلا يجد الناس سبيلا سوى الهجرة.
هذه الدمى المتعجرفة والحاقدة والفاقدة للحس الإنساني، حوّلت حياة الناس إلى مآتم مستمرة، وأحزان وموت وجراح تتواصل، وبطش همجي لم يحدث إلا في مخيلة من كتبوا تلك التلفيقات الغيبية المشوهة عن حق اليهودي في حرق البشر وقتل أطفال العدو. إنها النظرة التلمودية الصهيونية المعششة في عقول الكثير من اليهود وغير اليهود، أي أولئك المؤمنين بأن التوراة التلمودية جزء من ديانة المسيح والبشرية! وحاشا أن يكون المسيح كذلك، وهو الثائر الفلسطيني ضد ظلم اليهود وتحريفهم لكل منطق إنساني، الذي جاء ليحرر العالم من خطاياهم، وآمن بإنسانية البشر، كل البشر، وليس فقط من يصدق رسالته.
ويحتوي الكتاب على كثير من النصوص التي كتبها ناجون من المحرقة وحتى بعض من استشهد منهم، وترك وراءه بعض الكلمات التي تشهد على همجية العدوان والمعتدين، مجرمي الحرب.
وقد توزعت المادة ضمن عدة فصول، الأول: طوفان من بين أيديهم ومن خلفهم: منذ بدء العدوان وحتى نهاية عام 2023، الصدمة: من يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار 2024، وبشر الصابرين: من أبريل/نيسان إلى نهاية يونيو/تموز، لا يشبهنا أحد: من يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول.
ونقرأ في الكتاب مقتطفات وكتابات من غزة، منها:
طوفان من بين أيديهم ومن فوقهم.. منذ بدء العدوان وحتى نهاية العام 2023
المفترض أن لي موعدا يوم الأحد الماضي لأرى طبيبي كي يجدد وصفة الدواء الخاصة بي. ولكي أتجنّب تداعيات أعراض الانسحاب من مضادات الاكتئاب بدأت تقليل الجرعات بما تبقى لدي من الأدوية حتى لا ينقطع فجأة وتحصل انتكاسة يصعب السيطرة عليها.
اليوم انتبهت أن أحد الأدوية لم يعد موجودا، وبقية الأدوية قد شارفت على الانتهاء. لست قلقا من شيء -لست قلقا على حياتي أيضا فأنا متصالح مع فكرة الموت- حتى مع انتهاء الدواء الأمر الذي يُرهق كل مريض اكتئاب.
لست قلقا، لكن ما يُقلقني حقًا هو ذهابي للطبيب المرة القادمة وحديثي معه بعاديّة عن الموت. أتكلم محاولا تطبيع الموت في عيونه وعيون الجميع. هل لك أن تتخيل أنك تحمل طفلا لا يتجاوز العاشرة وتضعه في ثلاجة “آيس كريم لأنه لا يوجد متسع في ثلاجات الموتى! هل ستأكل بعدها “آيس كريم” محاولا التبريد على نفسك؟ هذا ليس خيالا مني بل حقيقة حصلت في غزّة هذه الأيام.
عادية الموت التي طغت على قلبي ستجلعني آكل “آيس كريم”.. هذا أكبر هاجس لي الآن.
بهاء رؤوف، 14/10/2023
هنا غزّة
كُل من عليها يلفظ أنفاسه الأخيرة.
الأقارب والأصدقاء لكل من يتنفس حتى اللحظة بين مهاجر وشهيد
وآخر تحت الأنقاض.
في هذا العدوان فقدنا كل شيء، لقد أصبح أحدنا كومة اضطرابات نفسية على هيئة إنسان.
نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله..
ونشهد الله أننا لم نكره غزّة وأننا لن نسامح أحدًا كان شريكا في استباحة دمنا.
والله لقد فعلها الجميع.
سمر الملفوح، 27/10/2023
عن شعورك وأنت ترى مدينتك التي تحب وهي تسقط، أن تُدمّر الشوارع التي تحب، الأماكن التي تحب، والبحر الذي تحب، وأن ترى أصدقاءك وأحباءك يسقطون بدمائهم واحدا تلو الآخر دون أن يُسعفهم أحد، كل هذا كفيل بأن يدمر قلبك ويجعلك تتوقف عن الشعور من شدة الألم والذهول.. يا الله، هذا كثير يا الله.
كان حلمي أن أعيش الحياة العادية بغزة كأي إنسان في العالم يعيش في بلده التي ولد بها، كنت سعيدا بالبيت والعمل والمقاهي والأصدقاء، كان ذلك كافيا وبشدة، كنت أقدس القرب من الأب والأم والأخوات والشجر والبحر ، كنت أكره الغربة ولا أريد أن أجربها. يا الله، هل إلى هذا الحد كنت مخطئا؟
إبراهيم مطر، 14/11/2023
لقد تحملت في هذه الحرب أكثر مما كان لروحي أن تحتمل، تعلمت ما كنت أحتاج لكثير من العمر كي أتعلمه، ثم ها أنا أنظر لملامحي وقد تهربت منها، وأنظر لنفسي الهشّة وأعذرها، ثم نضحك طويلا عن كل آلامنا السابقة ونسأل هل سنستطيع المضي قدما؟ وهكذا نمضي قدما!
هيا أبو ناصر، 26/11/2023
لا أحد يعتاد الحرب! يتسرب إليك الفقد من ثقوب في روحك لا تعلم بوجودها.
نعيم الخطيب، 30/11/2023
ذاكرة السجين لا تختلف كثيرا عن ذاكرة الحرب، المشهد نفسه يتكرر يوميا، غير أنه في الحرب يختلف توقيت الحدث. بعد شهرين ونصف من اندلاع الحرب الشرسة على غزة، طال قصف شديد بصاروخين قبيل الفجر عمارة جيراننا بمسافة لا تبعد أكثر من 3 أمتار عن عمارتنا وبالمكان الذي كنت نائما فيه بالتحديد.
لك أن تتخيل أن تصحو مفزوعا في منتصف غيمة كثيفة خانقة من الأتربة والدخان والعتمة المحيطة بك من كل ناحية، وتنهال عليك النوافذ كاملة بألواحها الزجاجية والستائر، وتسمع أصوات التحطم والانهيارات من حولك، ولا تشعر باللزوجة الدافئة من الدم الذي يسيل من أنحاء جسدك، ولا تعرف كيف انتشلت من هذا الجحيم المباغت غير المتوقع أو المتخيل.
هذا ما حدث لي، لا تزال العتمة تزيد من ربكة المشهد الذي اختلط بالصراخ والدعوات لانتشال الضحايا والمصابين من جيراننا. ما زلت أذكر بكاء أولادي وصراخهم وهم ينظرون إليَّ بحيرة واستغراب وخوف. كان الأمر أشبه بحلم مفزع أو كابوس ثقيل، لا أحد يصدق ما جرى.
كان الدمار مريعا في المكان، والجثث والمصابون يُنزَلون بصعوبة من الطوابق العالية، فقد تم تدمير الأدراج والسلالم بشكل شبه كامل، وأكوام الحجارة والإسمنت وأثاث الجيران وأمتعتهم تسُدُّ مدخل بيتي وممراته والشارع أيضا.
ليس سهلا أن تصف الكارثة وقت حدوثها بالشكل الذي يعطيها حقها. صدمة المشهد تُعطّل اللغة والقدرة على رسم صورة كاملة. وما ورائيات المشهد أقسى وأعمق من الدمار الخارجي. إنها المعاناة التي ستتخذ كل ما يتصوره العقل من تعب وضنك وعذاب لا أحد يعرف متى ينتهي.
أقسى ما يعاني الإنسان التشرد والخروج من مكان سكناه، فلا يجد له مأوى يوفر له العيش الذي يحفظ له آدميته وإنسانيته واستمرارية الحياة. لك أن تتخيل مرة أخرى دمارا بدون مقومات من مياه أو طعام أو كهرباء، وعليك أن تنجو وتبقى وتستمر، ومطلوب منك أن تصمد وتتعايش مع السيئ لأنك لا تعرف بعد ما هو الأسوأ.
مشاهد عبثية تخلو من المنطق والعقل والدهشة الصامتة سيدة المكان، بمعنى أنك تموت وتقتل ولا أحد: يسمع عنك أو حتى يكترث لك. كل المكان ترك ليواجه مصيره بنفسه. بعد أيام من القصف يعتاد الجيران وسكان المنطقة على ما جرى ويصبح الخراب والركام جزءا مألوفا من صورة الحي.
كلما وقعت عيناي على مشهد الدمار الباقي حتى الآن تتجدد الذاكرة ويعود بي شريط المشهد إلى أوله ولا أظن أن تقنيات السينما الحديثة تستطيع أن تختزل لحظة حدث ما أو تصورها. هناك أشياء شعورية ونفسية لا تصل إليها الكاميرا ولا تتسلل لها مهارة المخرج سأتذكر كل شيء وكل ما حدث لي وللمكان ولا سبيل لنسيان ما حدث.
الشاعر علاء نعيم الغول، 12/12/2023
شكرا حمار..
إذا كان لأحد حق بالشكر على أهل غزة المخذولين، فهو الحمار فقط!
الحمار الوحيد الذي ينقل المصابين والجثث.
الحمار الوحيد الذي ينقل البضائع وما تبقى من أغذية.
الحمار أداة المواصلات الوحيدة الموجودة التي تسعفنا بأثقالنا وفراشنا المتنقل كل فترة.
الحمار الوحيد الذي لا يطلب منا شيئا لقاء خدماته لنا.
الحمار الوحيد الذي يشاركنا موتنا وأمراضنا والإسهال الدائم لدينا.
المجد للحمار، ولا عزاء لأحد.
أمين عبد، 27/12/2023
“الصدمة من يناير إلى مارس 2024”
الترفع والخذلان
يحاول العقلاء التنزه عن النزول إلى مستوى الغوغاء في النقاش العام على أساس أن الناس لديها المقدرة على تمييز الغث. ويتراكم خطاب الغوغاء ويصبح هو خطاب الناس جميعا، فيجاريهم العقلاء، أو يسكتون، ليس خوفا من سلطة حاكمة ولا رهبة من طاغية، لكن رهبة من مجتمع ما بعد الحقيقة. وحتى تستمر حياتهم بضمير مستريح يسمون هذه الرهبة ترفعا. هذا الترفع في حد ذاته مشكلة تحتاج إلى علاج.
محمود الحرثاني، 3/1/2024
بعد 90 يوما من الحرب، ثمة شريحة واسعة من الناس ناقمون على “مغامرة” المقاومة غير المحسوبة، ألتقيهم خلال جولات العمل، يتعمدون إسماعنا أشكالا من تعبيرات الحنق. لا أحد يلام في الإفصاح عن حشرجات صدره، خصوصا أن الناس جميعهم تركوا للحريق دون رعاية ولا احتضان. تراودني خواطر بأن ثمة واجبا تجاه هؤلاء، أن أُذكرهم فقط بأن قضاء الله ماض، بحماس ودونها، وأن يستثمروا هذا الابتلاء بالرضا، لكني أجد هؤلاء أنفسهم، يهللون مع من يهلل عندما تشق رشقة صاروخية صمت المساء.
لا “كتالوج” مفهوم لهذا الشعب، لا انزياح إلى حيث يريد العدو، الفطرة تتجاوز النقمة الآنية.
يوسف فارس، 4/1/2024
تغيّرت المعالم
وتناثرت الملامح
إن عُدنا
ربما لم يعرف أحدنا مكان بيته، أو في أي شارع بالتحديد كان متجره، مستودعه، ذكرياته!
كل شيء تغير، تدمر
حياتنا أصبحت عبارة عن كومة أحجار
أحلامنا باتت على الطرقات
مستقبلنا دفن تحت الركام..
دعاء الشريف، 5/1/2024
هل تعلم أنه الحرب الحقيقية لما نرجع وفش بيوت ولا بنى تحتية؟ وعشان توصلنا كهربا ومياه بدنا سنة!
هل تعلم أنه تنسيق السفر ع معبر رفح وصل ۱۰ آلاف دولار للشخص؟ يعني حتى تفكر تسافر لبين ما يعمروها عشان مستقبل ولادك ع الأقل، ضرب من الخيال!
والله مش كلام استعطاف، لكن صدقا لحظتها بتحسد اللي استشهدوا بدري.
رفيف عزيز، 8/1/2024
أعيش في عام 2024 في خيمة كبيرة تؤوي مليوني نازح.
وحولي 30 ألف جثة لشهداء كنا قد دفناهم بجانبنا لعدم وجود مقابر تتسع لهم.
وأمام نظري 50 ألف جريح يثنون من الوجع بعد أن أخرجوا عنوة من المستشفيات بلا علاج ولا دواء.
وأجلس فوق أرض مليئة بالألغام تتساقط الصواريخ علينا فيها كالمطر، أبحث فيها عن ماء ودواء وغذاء لأطفالي فأسقيهم من دمع قلبي وأطعمهم ما تبقى من كبدي، بينما أقتات أنا في صبري على ما تبقى من ضميري ونظرتي المشرقة تجاه هذا العالم، ثم نداوي جراحنا جميعا في غزة بآية قرآنية تحدثنا عن الصبر وماذا أعد الله للصابرين في الجنة بإذن الله.
عمر المروزي، 8/1/2024
كيف تصنع النساء من كل مكان يقمن فيه أكثر من يومين بيتا. أراهن في غرف المستشفيات والخيام يملأن المساحة بالحنو الممكن واللازم لتحويلها إلى مأوى. لا يُغني عن المنزل المتروك لكنه يعين على الاستمرار في طريق الرجوع إليه. رغم اللظى والتشظي، يحتوي البشر حياتهم في بيت انتقالي أو حكاية تستمرّ.
نجلاء محمود، 11/1/2024
هل يمكن أن تتخيل سيدة على وجه الكرة الأرضية أن جميع النساء في مدينتنا لم يشاهدن وجوههن في المرآة منذ أكثر من 100 يوم.
دیانا جمال، 11/1/2024
“وبشر الصابرين”
منذ غبتَ لم يطلع الصبح ولم تشرق الشمس، عتمة غيابك أكبر من أن يبددها نور، فلا خير في صباح لا يبدأ بك.
لو أردت أن أختصر كوكب الأرض بمن عليه بكلمة واحدة لاختصرته بـ”عدي”، فابني ليس كمثل أحد، كما كل شهيد على أرضنا ليس كمثل أحد، كل من رحل له قصة وحكاية كل من غاب عنا ترك خلفه ألما وحسرة، فنحن لسنا أرقاما تباد وتمسح دون أن يذكرها أحد، نحن بشر من لحم ودم وأبناؤنا يستحقون الحياة.
مُراد مصطفى، 22/5/2024
كثيرا ما كان يراودني مصطلح الاستسلام، متى يستسلم المرء؟ ومتى يترك نفسه عاريا أمام الرصاص سائرا على الجمر دون حذاء يقيه ودون انحراف عنه؟ ومتى يكون الاستسلام طريقة من طرق المقاومة، يعني كيف نقاوم بالتسليم لظاهر الأمر؟
استطاعت بعوضة صغيرة جدا أن ترسم لي امتدادات هذا المصطلح وهي تنهش في قدمي، أسمع صوت أزيزها في أذني لكنني لا أستطيع إبعادها عني، ولا كهرباء لأتمكن من رصد مكانها ولا بخّاخ متوفر لقتلها، ولا لغة لأقول لها دمي موجوع جدا أيتها البعوضة، فما حاجتك به؟
لا أملك إلا أن أستمع لأزيزها وأنا في كامل استسلامي المطلق لخرطومها الذي تضعه أنى شاءت على جسدي لتشرب من دمي الحزين.
أصبحت قدماي مليئتين بالندوب متورمتين من ثقوب الدم الصغيرة التي كلما أوشكت على الاندمال مررتُ بأصابعي عليها فعادت تنز دما مرة أخرى. وأنا أنظر لهما أتذكر قصيدة الشاعر الجاهلي الحارث بن عباد تعبيرا عن إعلانه الحرب ثأرا لمقتل ابنه وهو يقول:
قربا مربط النعامة مني.. لا نبيعُ الرجال بيع النعال
والنعامة هو اسم فرسه التي سيمتطيها للحرب، وأنا إذ أستعير منه هذا التقريب الحماسي لأقول:
قربوا ميكروفون مجلس الأمن من قدمي المتورمة لتقول للعالم: كم مرة عليك أن ترسب أمامي أيها الساقط؟
اشربي أيتها البعوضة ما شئت من دمي، فقد فعلوا بي ما هو أشد ألما من هذا.
الدكتورة آلاء القطراوي، 29/5/2024
أريد لهذه الحرب أن تنتهي..
أريد بعض الذكريات الجميلة كي أرويها للصغار حين ينال العمر مني..
أريد أن أروي لهم عن حدائق الورد ورائحة الزهر فوق الشجر
لم أعد أذكر سوى صور الموت وأشمُّ في كل مكان رائحة البارود والدم
سما حسن، 30/5/2024
انتهى رسميا اليوم العام الدراسي في فلسطين، والعام الجديد سيبدأ بتاريخ 29/8/2024.
غزة جزء كبير من هذا الوطن، لم ينته فيها العام الدراسي لأنه أصلا لما يبدأ. ويمكن كمان الحرب تطووووول وما يكون في عام جديد.
جيل كامل لم يلتحق بالتعليم وخسر عاما دراسيا سواء من المرحلة المدرسية أو الجامعية أو رياض الأطفال.
أحمد فتحي قديح، 30/5/2024
ولدت عام 2004، حين كانت بلادي تحتضر.
وبعد 3 سنوات قتلت بلادي ممزقة. لم يجمعوها، لم يلملموها، وطلبوا منها أن تعيش.
20 عاما وأنا أعيشُ في بلاد من صور.
20 عاما أنتظرُ وطنا يلمّنا نحوه، نعيش لأجله، نحلم لأجله، نكبر لأجله، نضحك لأجله.
20 عاما وأنا أريد لغزة أن تنسى موتها.
أن أحزم أمتعتي وأسافر من مطار غزة نحو العالم، أطل من النافذة لأرى مانديلا مع عرفات يضحكان في رفح.
تتعبني فلسطينيتي..
20 عاما وأنا أقول “كان هنا”.
ولا شيء يكون في الواقع سوى الدمار.
20 عاما وأنا أعيش في بلاد من صور.
كيف سيعوض العمر؟
حيدر الغزالي، 2/6/2024
خرج زوجها واثنان من أبنائهما نحو حاجز نتساريم شمال مخيم النصيرات في محاولة منهم للحصول على شيء من المساعدات وأكياس الطحين، بينما هي تتواصل مع زوجها عبر الجوال سمعت صراخه وهو ينادي على أحد أولاده الذي دخل منطقة ما بعد الحاجز. فتى بعمر الـ17 تحمس لقدوم الشاحنة التي تنقل المساعدات ولحق بها فأطلق الجيش النار عليه.
سمعته يصرخ باسم ابنهما وبعدها ركض ليلحق به فقتل الاثنان وما زالت جثثهما هناك على بعد كيلومترين من مكان وجودها منذ تاريخ السادس من مارس/آذار 2024. فقدت السيدة “بسمة” زوجها وابنها وهما يحاولان التقاط كيس طحين لإطعام 9 أفراد من العائلة، بينهم 4 أطفال لا يتجاوز عمر أصغرهم 3 سنوات.
عاد الولد الثاني الذي رافق أباه وأخاه يومها خائبا يضرب كفيه، لقد فقد أباه وأخاه ولم يستطع العودة بكيس طحين للعائلة.
سألتها: أيهما أصعب الجوع أم الفقد؟
أجابت: الاثنان سكاكين متتالية، شو نفع الطحين كله وصاحب الرحلة لحتى الآن بعرفش وين مكانه؟ يا دوب عرفت إن الجثث مرمية في حقل بصل قريب من وجود الدبابات.
وشو نفع وجودنا وإحنا مش قادرين نطعمي هالطفلة رغيف خبز وقتها؟ وأشارت إلى طفلتها ذات السنوات الست، فابتسمت وعيناها تلمعان من حرارة دمعة وقالت: “أصلا أنا بأكره المساعدات!”.
وأكملت: كانت المرة الأولى والله لزوجي اللي كان يحاول فيها يأمن شي لولاده من قوة الجوع، وصارت الأخيرة!
في الحرب لا مساحة معك لأن تفاضل بين شعور وشعور، كمن فقد يديه، الجميع يحتضنه لكنه لا يقوى على احتضان نفسه ولا حتى رد الحضن!
#فصولـ الدهشةـ ومحاولات ـ النجاة
فداء زياد، 4/6/2024
عن زاهر الحداد والاستغناء بالله عما سواه.
هذا ما سقط من رفات الشهيد زاهر الحداد لحظة انتشال جثمانه الطاهر، 30 شيكلا! أي ما يساوي 8 دولارات! 30 شيكلا فقط وهو على رأس عمله في بلدية غزة لـ259 يوما دون أي يوم إجازة واحد.. دون راتب، في مخاطرة عالية، لم يتأفف يوما، لم يعتذر يوما وقد كان يملك ألف عذر. على الأغلب لن تذكره الصحف ولن يتحدث عنه الإعلام ولن تخلده كتب التاريخ، لكن هذا بالضبط ما كان يحياه زاهر، الاستغناء بالله عما سواه.
عشت مع زاهر في هذه الحرب في غرفة واحدة ما يزيد على 60 يوما، هربنا معا وأكلنا معا ونمنا تحت القصف معا عملنا في لجنة طوارئ بلدية غزة، نريد شابا لتعبئة المياه للمواطنين.. زاهر هنا نريد شابا لمتابعة فريق ما.. زاهر هنا، نريد شابا يشرف على حراسة الوقود.. زاهر هنا، نعود آخر النهار منهكين، من يعد الطعام؟ زاهر ورفاقه، من يرتب المكان؟ زاهر ورفاقه، من يواسي الشباب ويساعد الرفاق في حفر قبور أقربائهم؟ زاهر ورفاقه، من يدفن أخاه الشهيد ويعود إلى عمله مباشرة؟ زاهر بكل تأكيد.
كنت أسأل نفسي، ما هذا الاستغناء، استغناء المتوكل المطمئن المعتمد على الله، استغناء تام عن كل شيء إلا من اتكاله على الله. لكن الجواب دائما يفسره سلوك الشهداء، يختصهم الله بخصال لا تتوافر إلا بهم ولذا ينميهم ثم يصطفيهم إليه، بسطاء لينون يشتاق يحبهم الله ويحبونه.
زاهر الذي له 4 فتيات جميلات: جنی 12 عاما، حلا 10، شام 12 عاما، حلا 10 أعوام، شام 7 أعوام، ونسرين 5 أعوام أخبرنا أحد الزملاء أن بناته غضبن منه لأنه ذهب إلى العمل في أول أيام عيد الأضحى، وأنه وعدهن بالعودة باكرا، لكنه عاد بعد صلاة العصر بعدما أتم مهامه في تشغيل آبار المياه. من للفتيات الجميلات؟ من يعود لهن متأخرا فيبتسمن وينسين غضبهن من تأخره؟ من يُصبرنا إذا مِلنا يا زاهر؟ رحم ا الله زاهر وألهمنا ثباته واستغناءه ورضاه وقبوله والشهادة مثله.
عاصم النابه، 23/6/2024
اتركي لي فرصة أيتها الحرب أكتب كل ما في ذاكرتي
وقلبي
كي أقول كلماتي الأخيرة
لأصدقائي
كي أعانق أبي وأمي
لأول مرة.. وآخر مرة
أعيش ليلة حب واحدة في عمري..
اتركي لي فرصة
لأبكي
ليحزنني هم دون أن يشاغلني آخر
اتركي لي فرصة
وتوقفي قليلًا عن طحني.
شروق دغمش، 23/6/2024
“لا يشبهنا أحد”
دعم القطاع التكنولوجي ومبادرة “غزّة تعمل”..
كان القطاع التكنولوجي المتنامي في غزّة ما قبل الحرب الجارية، إحدى النقاط الاقتصادية المضيئة، وذلك بسبب الكم الكبير من المواهب التقنية التي يمكنها العمل عن بعد لدى الشركات في الخارج. وأكثر من هذا، كان واضحا أن هؤلاء الأفراد الذين بدؤوا تشكيل جسر اقتصادي وراء الجدار العازل، قد أخذوا في تنمية قدراتهم والانتقال من العمل كأفراد فحسب، إلى إيجاد قاعدة شراكة مع المؤسسات المحلية وأحيانا في الخارج، والبدء بتأسيس شركاتهم الخاصة التي أخذت في النمو عبر استقطاب المواهب من الخريجين، وتوفير فرص عمل لائقة لهم.
تزامنا مع الحرب الجارية، تأثر هذا القطاع كغيره بشكل كبير، إذ فقد مجال تكنولوجيا المعلومات العديد من أصحاب الخبرات، بالإضافة إلى لكافة الشركات العاملة، وبالتأكيد تدمير البنية التحتية لقطاع
ورغم التدمير الممنهج للاتصالات بالعموم، فقد جربت مجموعات مختصة إيجاد حلول مساندة لهذا القطاع، وقد نجحت أحيانا في وضع آليات مجابهة للواقع عبر تسخير خبراتها في التعامل مع الأزمات، لكنّها -وهي إحدى حقائق هذا القطاع- لم تستطع تلبية جميع الاحتياجات لجميع الأفراد، ليس لعجزها، بل بسبب الكم الكبير من هؤلاء الذين يعملون في القطاع التكنولوجي، وهم يقاربون 10 آلاف عامل، وحوالي 200 شركة عاملة.
يرفض هؤلاء الأفراد الانزياح إلى مفردات الاستسلام ووضع الكفّ فوق الكفّ والجلوس منتظرين، بل تجدهم يسعون في كل صبيحة يوم لابتكار محاولات قد يحتاجون فيها إلى جهد هائل، وذلك من أجل الوصول فقط إلى أماكن قد تتوفر فيها شبكة إنترنت من أجل استحقاق وجودهم الرقمي. وبالتالي، فإن لديهم أسبابهم في عدم قبول المال المجاني، وتجدهم يتلون كتاب شكر لا يخلو من خجل، وهم الذين اعتادوا أن يتصرفوا ويصرفوا ويتحملوا مسؤوليات عائلات، حتى وهم في العشرينات من أعمارهم فحسب.
تأتي الحاجة إلى وجود مبادرة “غزّة” تعمل ضرورة ضد الإبادة، وفرصة لتحمّل المسؤوليات ومدّ يد العون بطريقة ملائمة عبر تقديم الدعم بصورة كافية، ليس من خلال توفير الإنترنت والكهرباء ومكان للجلوس فحسب، بل بوصفها واحدة من الحلول في طريق دفع عربة نمو هذا القطاع إلى الأمام عبر الالتفاف حول ما يريده ويقوم به ويسعى إليه المستعمر، ليس اليوم فحسب، بل منذ أكثر من 3 عقود مضت.
دعمك للمبادرة من خلال المساهمة بها بالقدر الكافي هو شيء مساند في مقاومة الشعور بالموت البطيء لدى فئات عديدة. تحدث عنا، تحدث معنا، دعنا نقم بالأمر بطريقة أفضل.
أنيس غنيمة، 5/7/2024
كيف يجب علينا أن نحتفل بأصحاب عيد الميلاد الراحلين عن دنيانا؟ كيف نخلد ذكراهم في قلوبنا المجروحة بفعل غيابهم؟ لو كنت طفلًا كنت سأحضر قطعة حلوى وأخبئها حتى منتصف الليل لأتقاسمها مع صاحب عيد الميلاد. ولو كنت مراهقًا كنت سأسرق رقم صديقة أختي الجميلة من هاتفها كي نتصل بها احتفالا بهذا العيد؛ احتفالًا يُشعرنا أننا قد كبرنا وأصبحنا نقود حياتنا بعيدًا عن رقابة العائلة. كنت سأفعل أي فعل غير محسوبة عواقبه، فأنا لست مسؤولاً تجاه الحياة، وقراراتي غير مصيرية. لكن الأمر مختلف جدا هذه المرة؛ فأنا الآن مسؤول عن كل شيء؛ حتّى إنني مسؤول عن ضحكات صغار الحارة التي توقظني من نومي ساخطا على كل شيء، حتى هذا الشارع الرملي الذين يلعبون فيه.
أين تذهب الأماني بسلامة صاحب عيد الميلاد؟ أين تذهب أُمنياتنا يا الله؟ أين تذهب صلواتنا التي تطلب منك إبقاء أحبائنا في دنيانا؟ أين نذهب يا الله من قلوبنا؟ أين نذهب بالآمال التي انقضت خلال السنوات التي مضت ولن تتحقق الآن بعد رحيل أصحابنا؟ أين نذهب بحياتنا فرادى في مواجهة آفة النسيان التي تقضم قلوب الناس هنا؟ آفة النسيان التي وجدت لكثرة الموت في بلادنا؛ آفة تعمل بطريقة تحافظ على قلوبنا من الانفجار كمدًا على الذين رحلوا على الرغم من علمنا أنّ هذه الطريقة ستخون ذاكرتنا لتهمش كل الأوجاع الحاصلة.
اليوم، عيد ميلاد صديقي يوسف. كنت مرتعبًا من أن أنسى هذا اليوم في وقت مضى كي لا أكون مقصرًا في حقه اليوم الذي كان مدعاة للفرح لنا، والذي أصبح يومًا نهرب به من قلوبنا الحزينة تجاه حياة ملونة بألوان لا تُشبهنا؛ فنداري عيوننا المحمّلة بقطرات الحزن خوفًا من أن تنقل العدوى لقلب آخر لا يقوى على الفراق.
كل عام وأنت حي لا تنسى يا يوسف.
بهاء رؤوف، 6/7/2024
8 أشهر كاملة وأنت في مكان آخر.. 8 أشهر كاملة لا تصل إلي رسائلك مطلقا..
8 أشهر ولا يوجد عبر هاتفي المحمول مكالمات منك لتتفقدني كما كنت تفعل دوما…
8 أشهر دون مزاح الأُخوة!
أيقونة الرسائل في هاتفي ستظل للأبد عقيمة وحيدة.
ولن ينجب أحد مثلك آخر، ولن يستطيع أن يملأ أحد فراغ أتفه سؤال منك: “وينك ي عيني؟”.. وجهك في كل صباح ومساء، وفي كل دعاء وكل صلاة يجيبني: “في جنة الله، كلّنا آمنون”..
السلام على آل بيتنا الكريم الذين لحقوك، وسبقوك، يا حبيب قلبي.
عبير مراد،6/7/2024
في هذه الحرب التي لا ناقة لي فيها ولا جمل، لماذا تم هدم منزلي! منزلي المكون من 3 طوابق أتذكر جيدا كيف قمت ببنائها، كيف كنت أنقل الحجارة الواحد تلو الآخر للبناء ليقوم ببنائها؟
كيف كنت أحمل أكياس الأسمنت والخلطة! وكيف كنت أحمل جرادل الماء والرمل والحصمة.
لن أستطيع أن أخبركم حجم التعب والمجهود الذي قمت به لنبني هذا البيت ونشيده، لقد وضع فيها أبي تعب 32 عاما من العمل الشاق، وقد بناها بدم قلبه وحبات العرق التي ذرفت منه. وضع والدي كل ما يملك في هذا البيت الذي قال عنه جملة وقتها: “هذا البيت سيكون للعائلة. سيسكنه أحمد ثم نزوّج إخوته بعده ليذهبوا ويعيشوا معه في هذا البيت”.
أذكر كيف قمت بتنظيفه وترتيبه عندما أصبح جاهزا للسكن، سكنت أنا وزوجتي بعد عام من زواجنا، لم تكن زوجتي وقتها قد وضعت مولودنا “جميل”، لقد وضعته بعد أن سكنا هذا البيت بـ4 أشهر، سكنت أنا وهي هذا المنزل وبنيناه بالحب وبالود، وضعت به غرفة النوم وطقم الكنب وطقم فراش عربي وغسالة وثلاجة ومطبخا كاملا وبعض التحف التي أحبها.
عشنا فيه أياما جميلة وتقاسمنا الضحكات، وجاء فيه مولودنا “جميل”، صاحب السنة ونصف السنة الآن..
كان عمره وقت خرجنا من بيتنا ما يقارب 4 أشهر، كبر في الحرب كما كبرتنا نحن أعواما وأعواما، ثم أتت الحرب المجنونة لتحصد الأرواح والبيوت وتهدم كل ما هو جميل تزوّج أخي الأكبر في الحرب وأتى ليسكن معي. هذا البيت،؛ سكن في الطابق الأرضي وأحضر طقم النوم وفراشا عربيا ولم يستطع جلب غسالة وثلاجة لعدم وجود الكهرباء، حالنا كحال باقي أهل غزة، وخرجنا من بيتنا كبقية أهل رفح للنجاة بحياتنا تاركين وراءنا بيتنا الذي بنيناه بشق الأنفس. ذهبت لأتفقد منزلي عندما قالوا إن الأمور أصبحت على ما يرام.. ليتني لم أذهب.. ليتني لم أر بيتي.. ولم أر خيبتي.
دمر بيتي كاملا وشقتي وشقة أخي، ولم يبقَ شيء.
أنتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب.. ستكون هجرة طوعية أو إجبارية.. سأغادر هذا الوطن عاجلا أو آجلا. هذه هي أمنيتي؛ لن أبني بيتا جديدا، ولن أنجب أطفالا جددا، كي لا يأتي شخص ذو عقل ناقص يأخذهم من أمام عيني بغمضة عين!
أحمد عدوان، 7/7/2024
لا أحد يدري ما الذي جال بخاطر غسان كنفاني وهو يقول: “لا تمت قبل أن تكون ندا!”، كل الذي نعرفه أن “رجالا في الشمس” غادروا “أرض البرتقال الحزين” “عائدين إلى حيفا” وما عادوا!
كل الذي نعرفه أن جدار الخزان قُرع ألف مرة بالدم والهدم وبزخات الرصاص، غير أن أحدًا لم يسمع قرع الجدار ولم يمدوا للنجاة يدًا!
كل الذي نعرفه أن “المثقف أول من يق… اوم وآخر من ينكسر”، حتى أصبح الاشتباك ثقافة لحنها رصاص ودم، لكننا صرنا ننكسر مرارًا ونتشظى!
نعرف أننا لم نختر الموت الطبيعي يا غسان، لكننا عشنا الاستثناءات كلها؛ صار الرصاص قاتلنا ومنجينا، والموت أن يجتازنا الرصاص! كل الذي نعرفه أننا ما استطعنا أن نمد جسرًا إلى الأبد بيننا وبين المنافي، وأننا كسرنا القنديل الصغير ولم يتبق لنا غير “جدار الأمنيات” نكتب عليه أن “الوطن ألّا يحدث ذلك كله”.
الدكتورة أسماء حميد أبو موسى، 8/7/2024
منذ عام لم أسمع أغنية في الشارع.. تقريبا لم يرقص أحد في حفلة عرس..
لم يأتِ باص المدرسة ولم يذهب..
وأحد لم يشتر وردة لأحد..
منذ عام نوزع كعكة الحرب الكريهة، لم ننس طفلا ولم ننس أي حديقة، لا كتاب ولا أمنية.
في النهار نمرن أعيننا على السباحة في الدم فلا تبتل، وأن تخطئ في عد أطرافنا الناقصة، نمرنها في الليل كي تضيء الأسى، وأن تشعل النار في خشب الانتظار.
منذ عام لم يحدث شيء ولم يكف عن الحدوث شيء..
تعال وافتح عينيك على آخرها أيها الموت:
نحن الضحية الأبدية المستحيلة تبكي بصمت نعم، وتصرخ حتى تشق ثوب السماء.
نحن الضحية التي جرحها مئذنة، والتي دمها خلفها في الطريق إلى الجلجلة، والتي غير كل الضحايا لا ترى قاتل أبنائها؛ لا تراه في الدموع، لا تراه في القصيدة لا تراه…
لا تراه..
لا أحد يمكنه رؤية الطاعون.
ناصر رباح، 15/7/2024
منذ شهور وشعوري مثقل بالهموم، نزحت من الشمال للجنوب وأنا أحمل فقط صغاري على كف الموت!
خرجت من الشمال وكان الفراق الصعب خرجت ودموعي تنهار، كيف لي أن أحمي صغاري من نيران القصف وأطنان المتفجرات، فبعد الساعات الأولى من الحرب تركت منزلي وتوجهت إلى أماكن نزوح أخرى ومنذ ذلك اليوم لم أعد.
استمررت بالعمل ومواصلة التغطية للمجازر والإبادة رغم فقدي لأحبتي.
الرحمة لأخوالي الشهداء وأبنائهم وبناتهم وزوجاتهم، وأبناء وأحفاد عماتي وأبناء العمومة، هم رحلوا وتركوا فينا الجرح المستمر. اكتب بهذا المساء لأني بت هنا وحيدة وأشعر بغربة المكان. هنا ليست غزة التي أعرفها ولا الوجوه التي أعرفها!
هنا فقط مرُّ الوداع وعلقم الفراق وعذاب النزوح.. هنا الاشتياق لحضن الأحبة ولمة الأحباب.
هنا بعدي عن ضنايا وصغيري وبكري “أنس”، الذي أفتقد وجوده فغدا أول عيد ميلاد له وهو بعيد عن عيني.
هنا اشتياقي لأمي وإخوتي وأبي.
هنا الدموع التي تسقط منا جميعًا كل ليل لأننا نشعر أننا وحيدون.
يا وحدنا هنا
يا وجعنا هنا
يأكل غزة التي بالقلب. والله إنّا باقون هنا.
يافا أبو عكر، 12/7/2024
من يصنع الخراب؟
انفجرت ضحكا وجارتي تقول لي: “هل تصدقين أنني أخاف من صوت الجرذان أكثر من صوت الطائرة؟”.
حاولتُ أن أقنعها أن الجرذان والقوارض كائنات صغيرة تخاف من الإنسان، وبمجرد شعورها بوجوده تغادر المكان. لكنني في الحقيقة أشبهها إلى حد كبير، فأصوات القوارض اللعينة تزعجني بدرجة أشد من صوت الطائرة الزنانة.
أسمعها وهي تلهو في الحاكورة ليلا لدرجة أنني أقضي وقتا طويلا وأنا أقنع نفسي أنّ الجرذان ليس بوسعها أن تدخل الغرفة من الشبابيك المهشمة!
لقد أنتجت الحرب لنا واقعا لا يشبهنا نحن الذين كنا مفتونين بصناعة الجمال، ها نحن نعيش الخراب بكل ما فيه، وها هي القوارض تقاسمنا المدينة الخربة. تكمل جارتي حديثها: “أنا لست خائفة على المواد التموينية والدقيق الذي حصلت عليه بشق الأنفس، بقدر ما أخشى على الملابس الشتوية التي اشتريتها بأثمان مجنونة.. أخشى أن تقضمها الفئران أيضا، أين سأجد غيرها؟”.
كانت تتحدث خائفة وكنتُ مثلها، لكن خوفي كان في اتجاه آخر، أنا أخشى على المدينة من هذا الخراب المخيف وقد أنتج لنا بيئة تتكاثر فيها القوارض والحشرات والزواحف ولم نكن نراها من قبل إلا نادرا. ها هي تقاسمنا حاضرنا لتنقل الموت بطريقة أخرى، كأنَّ المدينة بحاجة لأصناف مغايرة من الموت والخراب!
قرأت قبل أيام أنه قد انتشرت في الخيام الفترة الماضية العقارب والأفاعي، كما انتشر الذباب الأزرق حول ركام البيوت المأهولة بجثث الشهداء. هذا الذباب يتغذى على جثث الأموات ثم ينقل دمهم للأحياء؛ مما سبب أمراضا جلدية مخيفة لم نرها من قبل.
هبط على قلبي حزن ثقيل وجارتي تتحدث عن أكياس المؤونة التي نهشتها الفئران وكيف تحاول أن تصلحها أخذت أقنعها وأقول لها: “إياك أن تطعميها لصغارك”.
فردت عليّ بحزن: “هل من بديل؟”.
لقد قرأت مرة أن الجرذان قتلت آلاف البشر عبر الزمن بسبب الطاعون، فهي كائنات ناقلة للأمراض والموت، ونحن لسنا بحاجة للمزيد منه. تكمل حديثها: “لا أعرف كيف أكافحها، لم أجد سما ولا مبيدات!”.
قلتُ لها ضاحكة: “اقتني قطة”.
فصرخت: “كلا! أخاف من القطط”. ضحكت طويلا وعادت بي ذاكرتي لقطتي “كاتي” التي قتلتها الحرب.
“صدقيني القطة أبدًا لا تخيف، حتى الفأر المثير للاشمئزاز لا يخيف.. الخوف يا عزيزتي من الإنسان الذي يصنع الخراب”.
مریم قوش، 4/9/2024
يقول رجل مات في الحرب ميتة طبيعية:
لم أحظ بجنازة، ولم أر أصدقائي يبكون.. حتى اسمي تلاشى في ذاكرة من عرفتهم “كما الظل”.
يقول طفل:
وأنا أيضا استشهد أبي في الحرب.
لم ينادني أحد ابن الشهيد البطل!
ومشيتُ وحدي بعد الجنازة عائدا إلى البيت “في المدرسة”.
تقول أم الشهيد:
وأنا أيضا
لم يُغن لي شباب الحي: “يا أمّ الشهيد زغردي كل الشباب أولادك”..
لم يدع أحد قلبي للفرح
ربما كانوا سيفعلون لو عاد ابني إلي من تحت الركام كاملا..
يقول رجل عابر في الحي:
وأنا أيضا لم أمنح جيراني الشهداء حزني كاملا
سوف أبكيهم عندما تنتهي الحرب دفعة واحدة..
يقول صاحب جثة في المشفى بلا اسم:
وأنا أيضا كنت مع رفاقي الشهداء
وبقيت هنا وحدي بلا قبر..
الدكتور عاهد حلس، 8/9/2024
إذا وصل إليكم خبر استشهادي لا تأتوا لوداعي إلا إذا كنت جسدا كاملا كما عرفتموني، ووجها باسما يُمكن أن يُقبل، ويدا دافئة يمكن أن تحضن. لا أريد لجسدي أن يكون شيئا آخر في ذاكرتكم، أريد لتراب هذي البلاد أن يحتضنني في الأرض، كلّي».
“الشهيد بلال عقل”
تخبرني السيدة غادة التي التقيتها اليوم: “طول الطريق من رفح لدير البلح وأنا أناجي الله أن تكون أماني (البنت الشهيدة) جسدا كاملا فأصلي وأودع لها على تلك الحال، وإن كانت أشلاء فيا رب ما تكتبلي لحظة وداعها. وبالفعل وصلت إلى المستشفى وعرفت أنها صارت أشلاء ودفنوها قبل أن أودعها، لكني رحت على بيتها وغمضت عيوني على آخر صورها الحلوة بتخرج بنتها من المدرسة وبعرس أختها”.
تعقيب: قتلت أماني هي وزوجها وأولادها الثلاثة في قصف مباشر لمنزلهم بدير البلح في بداية فبراير/شباط 2024.