دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة
ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.
ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.
وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.
ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.
ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.
إعلان
مدينة مليئة بالمسرات والمتع
ارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.
وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.
روح الشرق
دخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.
وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.
وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.
فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.
وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.
إعلان
وفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة “وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال”.
ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.
فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.
وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.
وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.
المدينة المقدسة
تقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.
إعلان
وعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.
لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.
ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.
دمشق تنافس إسطنبول
حافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.
وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.
وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.
وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.
كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟
توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.
إعلان
وبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.
لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.
تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.
وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق “يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية”.
ويتابع “وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه”.
إعلان
في القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.
فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.