الهجرة العكسية والتحديات التي تواجه إسرائيل

في ميناء هرتسليا المُطل على البحر المتوسط، وقف عدد من الإسرائيليين أمام المراكب واليخوت والأمواج كي تحملهم معها، لا لمغادرة المدن الكبرى نحو مدن “أقل خطرا”، بل للهروب خارج إسرائيل.
وقد أشارت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إلى أنه بدءا من الساعة السابعة صباحا يتوافد الإسرائيليون مُحمَّلين بأمتعتهم باحثين عن يخت ينقلهم إلى قبرص، ثم منها إلى أي مدينة أوروبية.
وجاء ذلك على إثر إعلان وزيرة النقل والمواصلات الإسرائيلية ميري ريغيف منع مواطنيها من الخروج عبر المطارات.
ويتراوح ثمن مغادرة إسرائيل بحرا حسب العرض والطلب، وحسب نوع اليخت وسرعته ووسائل الراحة المتوفرة فيه، فهناك بعض اليخوت مثلا تضم غرفا خاصة، وأخرى تعمل بالديزل وتصل إلى قبرص في ثماني ساعات فقط. فمن الركاب مَن دفع 2500 شيكل (نحو 700 دولار)، ومنهم مَن دفع 6500 شيكل (نحو 1700 دولار) لأجل الرحلة ذاتها.
ولا يعني ذلك أن إسرائيل بدأت تنهار، أو أن جموع الراغبين في المغادرة من إسرائيل تشكل كتلة ستؤثر على حاضر إسرائيل ومستقبلها، فهناك إسرائيليون قدّموا طلبات في برنامج العودة لإسرائيل من العالقين في الخارج رغم الهجمات الإيرانية.
إلا أن مشاهد مغادرة إسرائيل وسط الأزمات السياسية والعسكرية، تسلط الضوء على إحدى أكثر القضايا الإشكالية لدى السلطات الإسرائيلية، وهي ألا تكون إسرائيل آمنة لسكانها، وألا تكون جاذبة ليهود العالم، وهي الدولة التي قامت أساسا على وعد الأمان.
النزيف
أسوأ ما يُهدِّد إسرائيل هو نزيف العقول: العلماء والمهندسون والأطباء يبحثون عن أماكن أخرى. هذا ليس نزوحا للأفراد فقط، بل فقدان للموهوبين الذين يبنون الدولة.
- أرنون سوفر، عالم ديموغرافيا إسرائيلي
في تل أبيب التي تفخر إسرائيل بأن إيقاعها الصاخب لا يتأثر بالحرب، فهناك الكثير من المقاهي والمطاعم والتجمعات السكانية، وفي الوقت نفسه ثمّة الكثير من النقاط الحمراء التي تقترحها الخرائط الإلكترونية للسكان، وهذه النقاط تُمثِّل الملاجئ التي يفر إليها الإسرائيليون عندما يدوي جرس الإنذار.
وعلى شاشات التلفاز، يتبارى المحللون العسكريون في قراءة خرائط غزة، ويتحدثون عن تحقيق الأهداف العسكرية التي قد تُسبِّب أضرارا جانبية هي دماء الفلسطينيين.
في الصيف الماضي، انضم البروفيسور الإسرائيلي آرون سيخانوفر، الحائز على نوبل في الكيمياء، إلى مجموعة من الشخصيات الإسرائيلية التي تطالب بوقف إطلاق نار فوري وإبرام صفقة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حماس.
وجاء موقف البروفيسور انطلاقا من قناعة بأن عدم استعادة الرهائن سيؤدي إلى انهيار العقد الاجتماعي الذي تستند إليه إسرائيل، مما سيكون له عواقب كارثية على البلاد، ذلك لأنها تشهد موجات هجرة متزايدة لعقول لم تعد ترى مستقبلا في إسرائيل، فقد غادر بعضها، فيما يقف البعض الآخر في انتظار اللحاق بزملائه، وهو أمر يُهدِّد مستقبل إسرائيل دون شك.
صحيح أن الطوفان كان صادما للمجتمع الإسرائيلي، وخلخل ثقة الإسرائيليين في أجهزتهم الأمنية، لكن بوادر رغبة الكفاءات في الفرار من دولة الاحتلال ظهرت في الحقيقة قبل الطوفان بسبب التحولات الديمغرافية والسياسية التي دفعت الكثير من العلمانيين إلى التشكيك في إمكانية إيجاد مكان لهم في إسرائيل، التي تمشي بخطى متسارعة نحو الأصولية الدينية.
وقد ذكرت صحفية “الغارديان” البريطانية قصة نوعام، مدير وكالة علاقات عامة وصيدلية للقنب الطبي وأب لثلاثة أطفال، وكان يريد العيش في إسرائيل بعد سن الأربعين، بيد أن كل شيء تغيَّر، إذ إنه يقضي لياليه هو وزوجته الآن بحثا عن مكان للعيش وعن مدارس لأبنائه.
ويقول نوعام إن السبب في رغبته في الرحيل عن إسرائيل ليس غياب “السلام”، لأن السلام وإن تحقَّق، فلن يُغيِّر من واقع أنه لم يعُد يرى المجتمع الإسرائيلي الحالي صالحا لتربية أبنائه.
ويضيف نوعام: “أخشى أن اقتصاد إسرائيل سيتضرر بسبب الزيادة في عدد الشبان الحريديم غير المؤهلين للعمل المهني، لأنهم لا يدرسون الرياضيات أو العلوم ولا يتقنون الإنجليزية”.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن صعود المحافظين الدينيين يجعل الحياة صعبة على العلمانيين. إذا أردتَ معرفة إلى أين نحن ذاهبون، فانظر إلى النموذج الإيراني، حيث يلعب الدين دورا محوريا في الحياة اليومية”.
وتؤكد الأرقام مخاوف نوعام، فبحلول عام 2015 باتت نسبة العلمانيين من اليهود 45%، وفي عام 2023 بلغت نسبة الأطفال المُسجَّلين في المدارس العلمانية 40%، وهي كلها نِسَب في انخفاض مستمر.
بجانب عائلة نوعام، يقول تقرير “الغارديان” إن خمس أو ست أسر من مدرسة أطفاله غادرت العام الماضي، وقد عجَّل السابع من أكتوبر بهذه الخطوة، لكنه لم يكن السبب الحقيقي الذي جعل هذه الأسر تختار الرحيل، فلا أحد من الأسر العلمانية يرغب في أن يرمي بأولاده في آلة الجيش التي تقتات على الجنود في حين يرفض الحريديم الخدمة العسكرية، وتقبل الحكومة حتى الآن رفضهم تودُّدا لهم بسبب تأثيرهم الكبير في السياسة الإسرائيلية.
ويجد بعض اليساريين أسبابا أكثر أخلاقية للخروج من دولة الاحتلال، مثل الشابة الإسرائيلية درور سادو، التي اعتبرت أن قرار خروجها من إسرائيل جاء بسبب صدمتها من الدعم الشعبي للحرب الذي أدى إلى وفاة عشرات الآلاف من الفلسطينيين معظمهم من المدنيين، إذ إن الرغبة في إسالة الدم الفلسطيني لم تعُد مقصورة على مَن يُوصَفون بـ”المتطرفين”، بل انتشرت حديثا في صفوف اليسار الإسرائيلي نفسه، الذي بات يتحدث عن “حرب عادلة”.
وبجانب هؤلاء الذين يتحدثون ويُخطِّطون ويُعبِّرون عن رغبتهم في الرحيل، توجد فئة أخطر ترحل في صمت ولا تقول شيئا حتى صعودها سُلَّم الطائرة، مثل طبيبة أطفال معروفة ذهبت في إجازة، قبل أن تعلن أنها ستُمدِّد إقامتها في الخارج ثلاث سنوات.

أين يفرون؟
“لا تتركوا البلاد. هذا لا يجوز أن يحدث. إسرائيل تحتاج إليكم، لا يمكننا الحياة بدونكم”.
- نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق
في صحيفة “لوموند” الفرنسية، أشار تقرير إلى أن عائلة آران أنجيوني، التي تقطن كيبوتس (مستوطنة) شمالي البلاد تبعد نحو 7 كيلومترات فقط عن الحدود مع لبنان، انقلب حالها بعد الطوفان بسبب صواريخ المقاومة وحزب الله اللبناني، ومن ثمَّ وجدوا أنفسهم مُطالبين بالاتجاه إلى مستوطنة أخرى في وسط فلسطين المحتلة.
في غضون عام واحد، انتقلت هذه الأسرة الإسرائيلية للعيش في أكثر من خمس مناطق مختلفة، قبل أن تخطر لهم الفكرة البديهية، وهي النزوح إلى جزيرة كريت اليونانية، وليس لقضاء إجازة هذه المرة، بل للاستقرار.
“لا داعي للقلق استمتعوا بوقتكم”.. تصريحات مزدوجة لوزيرة المواصلات الإسرائيلية تفجر غضبا شعبيا في الداخل والخارج pic.twitter.com/6UkqxIPjZK
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) June 16, 2025
ليست هذه هي الأسرة الوحيدة التي اختارت الذهاب إلى اليونان، البلد الأوروبي الذي يتميَّز بجو قريب من الطقس الذي يعرفه سكان دولة الاحتلال، وتوجد فيه الكثير من الاستثمارات الإسرائيلية التي زادت بعد عملية “طوفان الأقصى”.
في هذه الأيام، يبحث الإسرائيليون الميسورون عن منزل ثانٍ في بلد آمن يمكن الهروب إليه بسرعة، على حد قول كيمون زاكس، مُحامٍ يوناني يعمل مع مواطنين من إسرائيل.
وقد تضاعف عدد التأشيرات التي طلبها الإسرائيليون لليونان، ويطلب بعضهم تأشيرات للعمل، وتمنح اليونان للذين يمتلكون دخلا شهريا يصل إلى 3500 يورو أو أكثر إقامة مدتها سنتان، بيد أن الغالبية العظمى من الفارين يضطرون لتجديد تأشيراتهم كل ثلاثة أشهر.
ومع تزايد أعداد الإسرائيليين الذين يختارون اليونان، ظهرت مجموعات على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لمشاركة المعلومات وتسهيل الحياة اليومية عبر تقديم إعلانات الإيجار وتوفير معلومات عن المدارس والمناطق الآمنة والمربيات الإسرائيليات.
ففي دراسة لـ”معهد الدراسات والسياسات اليهودية”، وهو مؤسسة بحثية مقرها بريطانيا تُعنى بإجراء دراسات حول المجتمعات اليهودية في أوروبا والعالم، نرى التغيير الكبير الذي بدأت تعرفه المجتمعات اليهودية في الدول الأوروبية، حيث تقول الدراسة إن الإسرائيليين الذين انتقلوا للعيش في أوروبا أسهموا بشكل كبير في إحياء الجاليات اليهودية التي كانت تتراجع في القارة، سواء كان هذا التأثير ديموغرافيا أو ثقافيا، في نسخة جديدة لشتات يهودي اختياري.
بعد تأسيس إسرائيل، كان الصهاينة الأوائل يُعوِّلون على هجرة المجتمعات اليهودية من أجل إحياء إسرائيل، بيد أن الدكتور دانيال ستايتسكي، كاتب هذه الدراسة، يقول إن مؤسسي إسرائيل لم يتوقعوا أن العكس سيحدث في يوم من الأيام، وأن المجتمعات اليهودية في المجتمعات الغربية هي التي ستنتعش من الهجرات القادمة من إسرائيل.
حيث ينقل المهاجرون الإسرائيليون تراثهم الديني والاجتماعي وثقافتهم اليومية إلى الدول التي يهاجرون أو يعودون إليها، فقد أصبح استعمال اللغة العبرية والأسماء اليهودية للأطفال أكثر انتشارا في العديد من الجاليات الأوروبية، وبدأت المطاعم في تقديم أطباق من “المطبخ الإسرائيلي” كما يُسمَّى.
في هولندا مثلا، يقول “آشر وترمان”، المستشار الإستراتيجي للهيئة الوطنية للرعاية الاجتماعية للجالية اليهودية الهولندية، إن الأراضي منخفضة التكلفة استقبلت الكثير من الإسرائيليين في الآونة الأخيرة، وهو أمر يُغيِّر من التركيبة الداخلية للجالية اليهودية، حيث إن اليهود القادمين من إسرائيل يمتلكون هوية وتاريخا مختلفا نوعا ما عن يهود هولندا.
في السياق نفسه، صرَّح “إيتاي غارمي”، عضو مجلس بلدي في أمستردام وُلِد لأب إسرائيلي، بأن الجالية الإسرائيلية في العاصمة غالبا ما تكون أكثر علمانية من الجالية اليهودية التقليدية القادمة من إسرائيل، ويقول: “علاقتنا بإسرائيل تقوم على الثقافة أكثر من الدين. الأمر يتعلق بالموسيقى والطعام وحب إسرائيل كوطن ثانٍ لليهود أكثر من كونه متعلقا بالدين”.
إذ يعيش بعض المهاجرين الإسرائيليين بتركهم دولة الاحتلال صحوة دينية، ويُصرِّح بعضهم بأنه كان يشعر بكونه إسرائيليا، لكن الهجرة إلى أرض أخرى خلقت الإحساس أكثر فأكثر باليهودية بوصفها ديانة وهوية. غير أن هذا الأمر لا ينفع إسرائيل بالطبع، لأن العديد من الخارجين منها هم أصحاب التعليم العالي، والشباب، ومَن لديهم أطفال.
حلم أقرب للكابوس
“قد تكون رحلات الخروج أكبر عددا من رحلات الدخول، وهذا فريد في تاريخ إسرائيل”.
- غيرج ديلابليرغولا، ديموغرافي من الجامعة العبرية
هجرة، إسرائيل، نتنياهو، بن غفير، سموتريتش، بهذه الكلمات المفتاحية يمكننا أن نحاول الوصول من مُحرِّكات البحث إلى تصريحات لقادة الحكومة الحالية لمعرفة آرائهم في الهجرة العكسية، وفي الإسرائيليين الذين يهربون من فلسطين المحتلة.
بيد أنه لا توجد تصريحات رسمية من هذا الثلاثي تتحدث عن الظاهرة في الحقيقة، كما أن المعلومات حول الظاهرة شحيحة، اللهم إلا إعلان وزيرة النقل والمواصلات الإسرائيلية الذي أشرنا إليه، والذي أوضحت فيه منع مواطنيها من الخروج عبر المطارات.

وبحسب المتوفر من بيانات، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهر منذ عملية السابع من أكتوبر، غادر نحو 12,300 إسرائيلي البلاد ولم يعودوا حتى نهاية يونيو/حزيران 2024، وذلك مقارنة بـ3200 شخص تركوا البلاد في الفترة نفسها من العام السابق، أي إن الهجرة في هذه الفترة ارتفعت بنسبة كبيرة.
وفي صيف عام 2023، أي قبل السابع من أكتوبر، ومع تصاعد التوترات السياسية المرتبطة بخطة “الإصلاح القضائي”، غادر نحو 34,500 إسرائيلي البلاد، مقارنةً بحوالي 17,800 في صيف عام 2022.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن نحو 30,000 إسرائيلي غادروا البلاد بشكل دائم بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ومارس/آذار 2024، بانخفاض قدره 14% مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق. أما على المستوى السنوي، فتقدّر المعطيات الرسمية عدد المغادرين في عام 2024 بحوالي 82,700 شخص، مقابل نحو 55,000 في عام 2023.
في أثناء البحث نجد أيضا بعض الأرقام المعبرة الأخرى، منها أن اليونان، الوجهة المفضلة للكثير من المستوطنين، تعاني من ضغط كبير على قسم التأشيرات من تمديد تأشيرة السياحة للإسرائيليين من 90 إلى 180 يوما، في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة التأشيرات الذهبية اليونانية بنسبة 70%، وهي تأشيرة تُمنَح للمستثمرين حصرا.
على الجهة المقابلة، شهدت إسرائيل انخفاضًا ملحوظًا في أعداد العائدين من الخارج، إذ تشير البيانات إلى أن نحو 8,898 إسرائيليًا فقط عادوا إلى البلاد بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومارس/آذار 2024، مقارنةً بـ11,231 في نفس الفترة من العام السابق.
هذا التراجع يعكس توجّهًا مستمرًا منذ اندلاع الحرب، إذ تشير التحليلات الإسرائيلية إلى أن كثيرًا من المقيمين في الخارج يؤجّلون قرار العودة أو يتراجعون عنه.
في المقابل، تتوقع بعض التقديرات أن يشهد المستقبل ارتفاعًا في الهجرة إلى إسرائيل، بسبب تصاعد المخاوف الأمنية لدى اليهود في بعض الدول، وفي الوقت نفسه، يشعر البعض الآخر بنفور متزايد من الهوية الإسرائيلية نتيجة الحرب على غزة.
ومع طول أمد الحرب، وحتى إن حققت إسرائيل انتصارها في الأخير، فإن سيطرتها المُحكَمة على منطقة تُعاديها فيها جميع الشعوب رغم تطبيع الحكومات، وتتفاقم صراعاتها مع دول وحركات مُسلَّحة قادرة على استهدافها أكثر من ذي قبل، يعني أن أمان الإسرائيليين داخل حدود فلسطين المُحتلة أصبح محل شكٍّ كبير.