استخدام الذكاء الاصطناعي في سياق الاتصال المؤسسي الحكومي
لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد زائر طارئ في حياتنا مثل بقية التطبيقات والأفكار التكنولوجية، بل غيّر وطور مفهوم المعلومة وجعل السباق على الأفكار أمرا أكثر تعقيدا. وتعمل كثير من الدول والمنظمات على الاستفادة من هذه الموجة التقنية الهائلة، ومن ذلك المملكة التي وضعت الرقمنة والمعرفة في صلب التحول الوطني وأضحى الذكاء الاصطناعي عمودا رئيسيا في كثير من شتى مجالات الأعمال والحياة المختلفة ومن ذلك الاتصال المؤسسي. ولعل تصريح نائب وزير الاتصال في المملكة كان واضحا ومحددا عندما قال: ” بأن السعودية تضع الذكاء الاصطناعي في صلب تحولها الرقمي”. وهو ما يجعل الجميع في حالة من السباق في هذا الزمن الرقمي.
وتعد اليوم المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية مطالبة بشكل أكثر من ذي قبل بالتوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي وذلك لاستشراف النجاحات من حيث إنتاج المحتوى، والتواصل مع الجماهير، وتحليل البيانات، وفي المقابل يطرح تحدّيات كبيرة من حيث المصداقية، الشفافية، وأرشفة العمل المؤسسي. هذا الإنتاج والتحديات المصاحبة له تجعل شكل العمل في الاتصال المؤسسي متغيرا ويحتاج لفريق قادر على التحول والتطور واستيعاب المرحلة التي يمر بها الاتصال اليوم.
ومن منظور استخدام الذكاء الاصطناعي في الاتصال المؤسسي، فيمكن للجهات الرسمية استخدامه مثلا في إنتاج المحتوى كتوليد نصوص، وصور، ومقاطع فيديو، أو لاقتراح صيغة أولية يُراجعها العنصر البشري الذي يعد حارس البوابة فهو من يراجع ويمرر ما ينتجه هذا الذكاء. إن العنصر البشري هو القادر على التأكد من ملائمة هذه الصور والنصوص لتوجهات المؤسسة الحكومية ومدى توافقه مع سياساتها، كما أنه متى ما تم تدريبه وتمكينه فهو سيقوم بتسخير الذكاء الاصطناعي لصياغة رسائل أكثر استهدافاً، وتوفير موارد بشرية أقل في بعض المهام الروتينية، مع توزيع أسرع للإنتاج الإعلامي عبر المنصات. وبالتالي، فالتكامل بين الذكاء الاصطناعي والعنصر البشري هو حجر الزاوية في تطوير العمل المؤسسي في زمن التقنية.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي على فريق الاتصال المؤسسي في الجهات الحكومية الاستثمار فيها هو إيجاد مكتبة رقمية وأرشفة للاتصال المؤسسي ومتى إنتاجه سابقا وربط ذلك بالذكاء الاصطناعي. هذه الأرشفة تلعب دورا بارزا في تحليل كمّ هائل من البيانات والمحتوى المؤسسي لاستخراج اتجاهات، واقتراح محتوى ذي صلة، أو تسهيل البحث والاكتشاف. ولعل أحد التقارير التي أصدرتها الهيئة السعودية للحكومة الرقمية (DGA) يوضح أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)» يُمثّل تحولاً جوهرياً في الخدمات الحكومية الرقمية، بما في ذلك إنشاء محتوى جديد من بيانات ضخمة”. وهذا يوضح بشكل لا غبار عليه أن الجهات الحكومية التي تستثمر في توظيف الذكاء الاصطناعي في عملها الاتصالي سيمكنها من إيجاد «مكتبة ذكية» تتفاعل وتقدّم إنتاجا إعلاميا مخصّصاً للمستخدمين أو تُخرج تقارير متقدمة تسهم في تعزيز الصورة الذهنية للمؤسسة الحكومية.
وبلا شك فالتحديات في استخدام الذكاء الاصطناعي في سياق الاتصال المؤسسي الحكومي كثيرة. وكمتخصصين، نوجه العاملين في هذا القطاع بضرورة الشفافية والإعلان إن تمّ استخدام أدوات توليد محتوى آلي فهذا يجعل الجمهور يحترم المؤسسة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتعترف باستخدامه. أيضا لا بد من المراجعة البشرية والتحقق، فالذكاء الاصطناعي حاليا يقدم في بعض الأحيان معلومات مغلوطة أو قديمة أوبها خلل. ولا نغفل دور الأطر الأخلاقية والحكومية من خلال وضع قيم المجتمع والمواطنين في مكان بارز في هذا السياق، كي يتوافق الإنتاج الرقمي مع توجهات المجتمع، مع أهمية الالتزام بنظام حماية البيانات الوطني. كما أنه من المهم تدريب العنصر البشري ليعمل بتكامل مع الأنظمة الذكية.
ويوصي كثير من المتخصصين في مجال استخدامات الذكاء الاصطناعي في الاتصال المؤسسي في سياق المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية بضرورة البدء بمشروع تجريبي صغير يُركّز على إنتاج اتصالي معين باستخدام الذكاء الاصطناعي مثلا منشورات وسائل التواصل أو تحليل أرشيف، ثمّ تقييم النتائج قبل التوسّع. كذلك دمج وحدة الذكاء الاصطناعي داخل فريق الاتصال المؤسسي بحيث يكون هناك متخصص في تحليل وإدارة البيانات يعمل مع فريق الاتصال المؤسسي. ومن المهم أيضا من -وجهة نظري- وضع سياسة واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الإعلامي. كذلك الاستثمار في تطوير مكتبة اتصالية رقمية خاصة بالمؤسسة الحكومية يجعل الوصول للمعلومة وتحليلها أمرا سلسلا وسهلا. وأخيرا، قياس الأداء كاستخدام مؤشرات مثل سرعة النشر، وتفاعل الجمهور، ورضا المستخدم، وتقليص الموارد البشرية في المهام الروتينية. وهذه المقاييس ضرورية لإثبات قيمة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي
بقي القول، إن الذكاء الاصطناعي في مجال الاتصال المؤسسي ليس فقط «ترند» بل عامل تغيّر حقيقي في تعزيز صورة المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية في الفضاء الرقمي. والنجاح في تعزيز هذه الصورة لا يتحقّق بمجرد التبنّي التقني فقط، بل عبر تكامل مدروس بين الإنسان والآلة، وعبر الشفافية والمصداقية، مع وجود استراتيجية فاعلة على المدى القصير والمتوسط. إن المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية لديها فرصة كبيرة لصناعة التحوّل واستخدام الذكاء الاصطناعي بـ (ذكاء) ليكون أحد أدوات التميز في بيئة الاتصال المؤسسي السعودي في عصر التقنية والمصادر المفتوحة.